مجلة الرسالة/العدد 236/الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
→ أناشيد صوفية | مجلة الرسالة - العدد 236 الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 10 - 01 - 1938 |
بحث للعلامة الأثري اربك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
(تتمة)
ولما كان الكهنة هم أكثر الناس علماً كان منهم الموظفون المسئولون عن الفيضان وعمل الترتيبات اللازمة له فكان بمعابدهم مقاييس لمعرفة زيادة النيل، وكانت بسيطة التكوين، كل منها بئر حلزونية أو مربعة الشكل توجد على مقربة من النهر ومتصلة به فكل ارتفاع أو انخفاض في النهر يصحبه بطبيعة الحال المثل في البئر، وبالبئر أرقام تقيد هذا الارتفاع أو الانخفاض، وبها درجات يستطيع المرء أن ينزل عليها كي يقرأ مستوى المياه الذي وصلت إليه يوماً بعد يوم فيعرف مقدار الزيادة، ولما كان الفيضان يبدأ غالباً حوالي الوقت نفسه كل عام سهل على الكهنة ملاحظة هذه العملية وتدوين أرقامها، وبموازنتها بالأرقام التي قيدوها في السنوات السابقة أمكنهم أن يعرفوا حالة الفيضان المقبل إن كان مرتفعاً أو منخفضاً بالنسبة لسابقه، وبذا كان في استطاعتهم أن يحددوا الوقت الذي تفتح فيه الجسور كي تغمر المياه الأرض كلها فإن كان الفيضان مرتفعاً جداً أرسلوا تحذيراً إلى الناس كي يقيموا السدود، وكانت الحكومة في هذه الساعة تسخر كل الناس في هذه العملية، وكان للفيضان أثر آخر، ذلك أن مياهه بعد أن نغمر الأرض مدة ستة أو سبعة أسابيع كانت تمحو الحدود التي بين أرض الفلاح وزميله أو تغطيها بالطمى، فعمد المصريون إلى مسح الأرض كي يعرف كل فرد مساحة أرضه بالضبط، وبذلك بدءوا علم الهندسة إذ وجدوا في مسح الأرض أضبط مقياس وأنه أفضل من وضع أحجار على الحدود، ولا تزال مشكلة ضبط الحدود موجودة في مصر، فالنيل في أثناء الفيضان يزيد مساحة الأرض الواقعة على حدود الصحراء، ولذا يحاول الفلاحون هناك الانتفاع بهذه الزيادة التي تسمى بطرح البحر بضم جزء منها إلى أملاكهم القليلة، وقد لا تبلغ هذه الزيادة ثلاثين أو ستين سنتيمتراً كل عام ولكنها تزداد على مر السنين، ولذلك يهتم مفتشو الحكومة بحراستها كما كان يفعل زملاؤهم من آلاف السنين الفنون
الحفر والرسم: رأينا نواة التقدم الفني في العهد السابق للأسرات إذ وصل الحفر البارز درجة عالية كما تدل على ذلك مقابض السكاكين العادية والألواح الأردوازية والتماثيل التي وجدت في (قفط) كذلك يرينا لوح (نارمر) الذي يرجع إلى أول الأسرة الأولى كثيراً من قواعد الرسم التي استعملت فيما بعد في الفن المصري، فالرسوم الدقيقة القليلة البروز كانت مناسبة لمملكة تسطع فيها الشمس ويشتد الظل، وقدر للحفر نجاح عظيم في تاريخ مصر، وليس في وسعنا أن نتتبع هذا التطور في الأسرات الثلاث الأولى لقلة الأمثلة وبعد بعضها عن بعض، ولو أن لوح قبر الملك (زت) وقطعاً صغيرة كثيرة من مقابر الملوك في (أبيدوس) تدل على تقدم مضطرد في الأسرتين الأوليين لاسيما من حيث المقدرة الفنية وحسن استعمال المواد، ثم تصل هذه الأمثلة فجأة إلى أجمل مقابر الأسرتين الخامسة والسادسة كمقبرة (تي) في سقارة فهناك نرى الفن المصري في أوج عظمته وتنتقل العين بين الرسوم انتقالاً سهلاً، وهذه هي ميزة الفن في هذه الفترة، ولكن نلاحظ أن قواعد المنظور تكاد تكون معدومة في رسوم هذا العصر ونقوشه، فإذا أريد رسم شيء فوق آخر فما على الفنان سوى أن يضعه فوقه، كذلك كان يرسم الإنسان عادة جانبياً، ولكن مع ذلك نشاهد كتفيه كأنما ينظر إليها من الأمام، وعلى هذه الطريقة استمر المصريون يرسمون نقوشهم طول عهد المملكة القديمة وبالرغم من هذه الغلطات فإن النقوش البارزة على الألواح الخشبية التي عثر عليها في مقبرة حي من الأسرة الثالثة تعد من أجمل القطع الفنية في العالم، فهي تمتاز بما تبعثه في النفس من أفكار لا نهاية لها
النحت: وقد سار النحت جنباً إلى جنب مع الرسوم البارزة، فأخرجت مصر من الأسرة الرابعة إلى السادسة أكبر مقدار أخرجته من التماثيل في تاريخها بعد ذلك. وكان الدافع إلى عمل التماثيل دينياً أكثر منه فنياً إذ اعتقد المصريون أن الشخص بعد موته يعيش في مقبرته عيشة لا تختلف كثيراً عن حياته في الدنيا فاهتموا بتحنيط جثته مخافة أن يلحق هذه المومياء العطب ورأوا ضرورة وجود التمثال حتى تحل فيه الروح، والى هذا الاعتقاد الغريب يرجع الفضل في وجود كثير من أجمل التماثيل في العالم وقد وضع المصريون بعض التماثيل من الخشب ومن الحجر، والقليل منها من الجرانيت والصوان، وصنعوا كثيراً من التماثيل من حجر الجير الملون، ومن أهم تماثيلهم تمثال (خفرع) المصنوع من الصوان وتمثال (شيخ البلد) (والكاتب الجالس القرفصاء) المحفوظ باللوفر (وتمثال نفرت مع الأمير راع حوتب الذي وجد بميدوم وهو محفوظ الآن بالمتحف المصري)
العمارة
بدأ ظهور فن العمارة في مصر منذ أخذ إنسان ما قبل الأسرات يبطن جدران مقبرته بقوالب من طمى النيل المجفف في الشمس، ولعله استعمل هذه القوالب في بناء بيته الساذج الأول ولا يبدأ أهم دور في تطور العمارة في مصر إلا ببدء العصر التاريخي إذ استعمل الحجر لأول مرة في البناء في عصر الأسرة الأولى فبنيت أرضية مقبرة الملك (دن) بأبيدوس من حجر الجرانيت وهذا أقدم مثل معروف لنا، وبعد أن تنقضي أسرة كاملة تجد في مقبرة (خاستخموي) أول ملوك الأسرة الثالثة حجرة بأكملها مبطنة بالحجر الجيري
ولا بد أن فن البناء تقدم بخطى حثيثة في الأسرتين الأولى والثانية، وتدل الحفريات الحديثة في سقارة على أنه وصل إلى درجة عالية أيام الأسرة الثالثة، ولذا يعتبر العلماء أن هذا التقدم هو نهاية لا بداية عصر معماري عظيم فقد عثر هناك على أعمدة من الطراز الدوري وكانت النماذج الوحيدة المعروفة لهذا الطراز هي تلك التي عثر عليها في مقابر الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة في بني حسن، أي بعد النماذج السابقة بحوالي 900 سنة
ويلي آثار سقارة من حيث الترتيب الزمني معابد أهرام الدولة القديمة ومعابد الشمس في أبي صير، وإذ كانت عمارة هذا العصر معروفة لنا من المباني الجنائزية فعلينا أن نبحث أولاً تطور بناء المقبرة عند أولئك المصريين الأول
أخذت المقبرة في أواخر عهد ما قبل الأسرات تتطور في إحدى طريقين منفصلين وهما المقبرة ذات الدرجات والمقبرة التي قي شكل حفرة ولكل منهما تطور طويل في عهد الدولة القديمة
تكون كل قبر مصري من جزأين رئيسيين: اللحد وهو تحت الأرض وتدفن الجثة فيه ثم مكان العطايا وهو فوق الأرض ويضع فيه أقارب الميت الهبات اليومية من طعام وشراب وغير ذلك مما يحتاجه كي يواصل حياته في القبر، ويحتمل أن بعض المقابر الأولى كانت خلواً من هذا الجزء أو لعله اقتصر على كوم من الرمل أو الحصى، وسواء هذا أو ذاك فقد تطور هذا الجزء منذ عهد السرة الأولى إلى شكل مصطبة ذات جوانب مائلة في أحدها كوة صماء لوضع العطايا تجاهها
وبتولي الأسرة الرابعة الحكم كانت هذه المباني البسيطة قد تطورت إلى تلك المصاطب الحجرية الهائلة التي بناها الأشراف لأنفسهم حول أهرام ملوكهم، ويقع اللحد تحت المصطبة الأولى نفسها وبداخل المصطبة حجرات لوضع العطايا من أكل وشراب
اختلف هذا النظام اختلافاً بسيطاً في الهرم، أجل كان الملك يدفن في حجرة تحت الأرض منحوتة في الصخر ويعلوها هرم كان كالمصطبة تذكاراً ظاهراً فوق القبر إلا أن الهرم لم يكن بداخله حجرات العطايا بل بنيت هذه في الجهة الشرقية منه ونظراً لكثرتها فقد أطلق عليها اسم معبد الأهرام؛ فإن كان الهرم هو تطور المصطبة كما يقول البعض فما المعبد إلا تطور الكوة الصماء التي كانت توضع العطايا تجاهها
ولما كان الهرم ومعبده قائمين على هضبة مرتفعة عن مستوى الحقول المحيطة بهما بنحو 100 قدم فقد بنى صاحبه طريقاً منحدراً مرصوفاً كي يسهل الوصول من الوادي إلى المعبد وبنى في أسفل هذا الطريق معبداً صغيراً سمي بمعبد الوادي، ويقول البعض إن زيارة المعبد الرئيسي كانت قاصرة على أقارب فرعون ورجال بلاطه وإن معبد الوادي كان لزيارة عامة الشعب
ويرى فريق آخر أن معبد الوادي لم يكن سوى مكان يتطهر فيه الزائر قبل أن يصل إلى المعبد الرئيسي، وما المعبد المعروف بمعبد أبي الهول إلا معبد الوادي لهرم (خفرع) وقد كشف الأستاذ سليم بك حسن تحت الطريق الواصل بينه ويبن المعبد الرئيسي للهرم نفسه عن أقدم نفق في العالم نحته مهندس ذلك الملك العظيم في الصخر الصلب كي يختصر المسافة لمن يريد الوصول من الجهة الشمالية للهرم إلى جهته الجنوبية ويوفر عليه السير الطويل حول الطريق المذكور
وتبين لنا هذه المعابد الأولى أغلب مظاهر المباني الدينية المصرية كما نراها فيما بعد هذا العصر، فكلها متينة البناء والمسقف منها مسقف بكتل حجرية أفقية قائمة على أعمدة لا أقبية فيها، على أن المصريين لم يجهلوا طراز القبو كما يتضح ذلك من مقابر الأسرة الثالثة. وهكذا نجد في الدولة القديمة الظاهرتين الأساسيتين في بناء المعابد المصرية، فهناك البهو ذو السقف الكامل القائم على أعمدة موزعة في كل أنحاء أرضية المعبد، وهناك أيضاً البهو ذو الأعمدة ويتكون من فناء مفتوح يمتد على جانب أو اكثر فيه جزء مسقف يقوم سقفه على صف أو صفين من الأعمدة
ومن المباني الدنين التي تنتسب إلى عصر الدولة القديمة معابد الشمس التي بناها ملوك الأسرة الخامسة في أبي صير وكانت تشبه معابد الأهرام السالفة الذكر من حيث وجود معبد الوادي والمعبد الرئيسي والطريق المنحدر الواصل بين الاثنين، ولكن بدلاً من الهرم الذي كان يقام فوق المقبرة بنا ملوك الأسرة الخامسة هرماً ناقصاً صغيراً تعلموه مسلة هي رمز إله الشمس (رع)
أحمد نجيب هاشم