مجلة الرسالة/العدد 205/الزمن
→ ندرة البطولة | مجلة الرسالة - العدد 205 الزمن [[مؤلف:|]] |
خاتمة المأساة الأندلسية ← |
بتاريخ: 07 - 06 - 1937 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
حدث مرة أني سافرت فجأة إلى أوربا من غير أن يعرف أحد من أهلي وأصحابي - عزمت على ذلك وأمضيت العزم فكانت هذه الرحلة التي لم تكن لي في حساب قبل يومين اثنين. وأسباب ذلك كثيرة يطول شرحها. وركبنا الباخرة فما كان يمكن أن اذهب إلى أوربا سابحاً، ومضى يوم وثان وإذا بفتاة ممن عرفناهن على ظهر السفينة مقبلة علي تقول:
(هل ضبطت الساعة؟)
ونظرت إلى ساعتها الصغيرة على معصمها ثم رفعتها إلى إذنها فقلت: (دعي هذا لي فإني حاد السمع مرهفه. . هاتي يدك واسمعيني)
قالت: (يظهر انك لا تسمع إلا ما تريد. . لقد سألتك الآن هل أصلحت ساعتك؟)
فقلت وأنا أتعجب: (أصلحتها؟. . ومن الذي قال إن ساعتي خربت؟. إني أؤكد لك أنها من أحسن الساعات. . كانت لرجل ممن يكثر المال في أيديهم يوماً فيذهبون يشترون كل ما يخطر لهم على بال، ويصبحون في اليوم الثاني وقد صفرت أكفهم فيرهنون ما اشتروا أمس أو يبيعونه. . صاحب هذه الساعة شاء أن يرهنها، ثم لم يؤد ما اقترض عليها، فاضطر الصائغ اليهودي أن يبيعها. . ولا أحتاج أن أقول إنك ترين الرجل الفاضل الذي اشتراها منه)
فألقت إلي ابتسامة عذبة أدارت رأسي دورة جديدة - وأقول الحق إنها هي التي كانت سبب سفري إلى أوربا فجأة - وقالت: (لاشك أنها ساعة معرقة في الفخار. . ولكنها تحتاج الآن إلى إصلاح)
فقلت ببساطة: (أبداً. .)
فقالت: (أسرع. . رد العقربين)
فدهشت وقلت: (أردهما؟. . لماذا؟. .)
قالت: (نعم. . . ردهما. . . أخرهما ساعة. . . لو كنا في الشتاء لوجب أن تؤخرهما ساعتين)
قلت: (اسمعي. . . لو أمرتني أن أرتد طفلاً، وكان هذا في وسعي، لفعلت بلا تردد، وب شرط سوى أن ترتدي معي طفلة لنلعب معاً. . . ونكبر معاً. . . ونعوض على العموم ما فاتنا - ما فاتني أنا على الأصح - ليس عليك إلا أن تأمري فإذا الذي تشائين كائن - ولكن من المجانين الذين يحبون أن يعلموا لماذا يصنعون ما يصنعون)
قالت: (لا أدري سوى إن كل الناس هنا ردوا عقارب الساعات وأرجعوها ساعة. . . حساب الوقت بعد هذا الخط يتقدم ساعة)
قلت: (تعنين يتأخر)
قالت: (كلا. . . بل يتقدم) قلت: (لن نحل هذا الأشكال قط فيحسن أن نتركه. . . ولننتقل إلى سواه فهل تعنين إننا كنا سائرين إلى الوراء؟. كنا نرتد في الزمن؟)
قالت: (لا أدري. . . هكذا يقولون. . . فأصلح الساعة وتعال إلى فوق فإن الجو جميل)
قلت: (أفهميني أولاً كيف كنا نرجع القهقرى في الزمن)
فلم تستطع أن تفهمني - ولها العذر، وكيف بالله تستطيع أن تفهم إنك تمشي إلى الوراء وأنت تمشي إلى الأمام؟ - وأصررت أنا على ترك ساعتي كما هي، وقلت لها: (إنك ولا مؤاخذة مثل مدرس الجغرافيا الإنجليزي في المدرسة الخديوية)
قالت: (ماله؟)
قلت: (كان يقول لنا، لنفرض أنكم في استراليا - ولا أدري لماذا اختار استراليا ولكن هكذا كان يقول - وإني أنا - يعني نفسه - في لندن. . . فماذا يحدث؟. . . فلا نعرف ماذا يمكن أن يحدث، فيقول. . . اسمعوا في يوم من الأيام، وليكن الجمعة، فأعترض وأقول: إن يوم الجمعة فيه ساعة منحوسة، فيقول: حسن، إذن ليكن اليوم يوم الأحد وليكن الوقت الصباح. . . ولنفرض أيضا أن المخاطبات التليفونية ممكنة بين استراليا ولندن فيدق لي أحدكم التليفون ويقول صباح الخير. . . مفهوم؟. . . فنقول جداً: فيسألنا ماذا ينبغي أن أقول أنا في رد التحية التي وجهها إلي من باستراليا؟ فنقول له تقول صباح الخير، أو عموا صباحاً يا أولاد كما تقول لنا هنا، فيقول كلا!. . . في هذا تخطئون لأننا في لندن نكون في ذلك الوقت في مساء السبت بينما تكونون انتم في استراليا في صباح الأحد، فأنا أرد على تحيته بقولي له (عم مساء) فتقولون لي مستغربين كيف هذا؟. . . إننا مازلنا في الصباح، فأقول إن الوقت الآن في لندن الثامنة مساء، وقد تناولت عشائي منذ لحظة قصيرة؛ فتقولون كلا، بل الساعة الآن الخامسة صباحاً، ونحن لم نفطر فألتفت إلى الذين معي وأقول اسمعوا. . . إن لفيفاً من تلاميذي في استراليا استيقظوا - بصيغة الماضي من فضلكم - صباح غد فيسألني إخواني كيف يمكن أن تعرف ما عسى أن يفعلوا غداً صباحاً؟ فأقول إني اعرف ما عسى أن يفعلوا غداً صباحاً لأنهم أنبأوني إنهم فعلوه فيقول إخواني لي إنك مجنون - أو كلاماً آخر كهذا - لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا أن يكونوا هم في الساعة الثامنة مساء من يوم السبت على حين يكون غيرهم في نفس الوقت في الساعة الخامسة صباحاً من يوم الأحد، فنهز نحن التلاميذ رؤوسنا الصغيرة ونقول، ولا نحن نفهم هذا، فيقول المدرس اسمعوا. . . لنفرض إن لي طيارة سريعة تقطع المسافة بين القاهرة واستراليا في أربع ساعات أو خمس. . . اركبها من القاهرة يوم السبت وأفطر في استراليا صباح الأحد وأرجع إلى القاهرة مساء السبت - أرجع إليها قبل الوقت الذي غادرتها فيه - فما قولكم؟. . . أليس هذا واضحاً؟. . . فنضع أصابعنا في الشق، ونريح أنفسنا من العناء الباطل، ونقول إن الأمر واضح جداً.
وأزيد أنا على هذا إن من الواضح من كلامك أن في وسعك أن تقوم من القاهرة يوم السبت وتكون في استراليا - أو حيث شئت غيرها - يوم الاثنين، لا الأحد فقط، ثم ترجع إلى القاهرة يوم الجمعة، الذي هو قبل السبت الذي سافرت فيه. . . معلوم!. . الأمر واضح جداً!. . فيحسب المدرس أني أسخر منه، ويعاقبني بالحبس ساعة، آخر النهار. . هذا يا ستي ما كان مدرسنا يعلمنا. . لقد ضاع علينا والله ما أنفقناه في التعلم. . والآن بعد أن استرحنا من المدارس والمدرسين المخرفين نركب هذه الباخرة الجميلة ونحن نعتقد أن الدنيا بخير، وأن العقول لم تطر من الرؤوس وإذا بهم يقولون لنا ردوا عقارب الساعات لأنا رجعنا ساعة؟؟ والذي يدهشني هو أن تصدقيهم
فتقول فتاتي: (ولكن هذا صحيح)
فأصيح بها - برغمي -: (كيف تقولين هذا الكلام؟. . هل تريدين مني أن أقول إن الساعة الرابعة حين تكون الخامسة؟. إنك تكلفينني شططا)
فتقول: (لقد كسبنا ساعة)
فأقول: (أرجوك!. أرجوك!.) فتقول: (صحيح والله)
فأقول: (يا بنت الحلال كيف يمكن أن نكون قد كسبنا هذه الساعة وهي قد ولت؟. ثم إني لم أكن معك فيها، لأني كنت نائماً فالخسارة مضاعفة)
فتضحك وتقول: (كسبناها لأنا استرجعناها)
فأقول: (إيه؟ استرجعنا الساعة التي ولت؟. مدهش!)
فتقول: (ألا تصدق؟)
فأقول: (يا حبيبتي، يا روحي، يا عقلي. . أرجوك!. ألف راء جيم واو الخ الخ.)
فتضحك فأقول: اسمعي إني لا أحب أن يبقى هذا الخلاف بيننا، وأنا من أجل عينيك النجلاوين أفعل ما تريدين - لاعن اقتناع، بل إرضاء لك - وأنا مستعد أن أقول إننا رجعنا إلى العام الماضي. . والله فكرة! تعالي نرجع طفلين ونلعب.)
فتذهب تعدوا ضاحكة وأعدوا وراءها حتى أدركها.
إبراهيم عبد القادر المازني