مجلة الرسالة/العدد 205/ندرة البطولة
→ الطربوش والقبعة | مجلة الرسالة - العدد 205 ندرة البطولة [[مؤلف:|]] |
الزمن ← |
بتاريخ: 07 - 06 - 1937 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
العالم الفاضل الأستاذ احمد أمين يروي ما يتحدث به فريق من المتشائمين حين ينعون على العصر الحديث ندرة البطولة وقلة النبوغ، ويسأل معهم: (هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟ وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هرون وعمرو بن مسعدة! وهل تجد في الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟) وقس على ذلك بطولة الحرب والسياسة والزعامة وسائر البطولات
ثم يعقب الأستاذ على ذلك قائلا: (يظهر لي مع الأسف أن الظاهرة صحيحة، وان الجليل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيراً من النوابغ ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وإن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل)
ثم يستعرض الأسباب ويختمها بقوله: (ما أحق هذا الموضوع بالدرس وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة)
والموضوع كما قال الأستاذ النابه حقيق بالدرس والتناول من وجوه مختلفة، وليس له أو أن يفوت بفواته. فإذا شغلتنا موضوعات أخرى عن تناوله في الأيام الماضية فليس ما يمنع اليوم أن نبدي الرأي فيه
ورأينا إننا نخالف الأستاذ مخالفة النقيض للنقيض؛ ونعتقد أن العصر الحديث أغنى بالبطولة والنبوغ من كل عصر سلف بغير استثناء ولا تحفظ ولا تغليب للظن والاحتمال. وإنه ليس اسهل ولا اقرب من ظهور خطأ المتشائمين فيما وصلوا إليه من نتيجة، لأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور الخطأ فيما اعتمدوه من قياس
إن الوجه في المقارنة بين جيل وجيل أن نحصر الزمن وأن نحصر المزايا، وأن نحصر العناصر التي تقوم عليها شهرة الأدباء أو الأجيال
وهذا الذي ينساه المفاضلون بين عصرنا الحديث والعصور الغابرة كل النسيان
فمن أمثلة ذلك سؤالهم. (هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟)
فالذين يسألون هذا السؤال يحسبون الماضي كله عصراً واحداً يقابله واحد من الحاضر ه العصر الذي نعيش فيه
وينسون أن الزمن الذي نشأ فيه بشار والمعري يمتد من أواسط القرن الثاني للهجرة إلى أواسط القرن الخامس، أي نحو ثلاثمائة سنة!
وينسون أن المكان الذي نشأوا فيه يمتد من العراق إلى الشام، ومن الحضر إلى البادية
وينسون أن العصر الحاضر الذي نعيش فيه لا يمتد إلى اكثر من أربعين أو خمسين سنة وهو الزمن الذي يبدأ بفتوة الشاعر وينتهي بوفاته
وإنما الوجه أن يحصروا أربعين أو خمسين سنة من العصر الحديث ثم يحصروا أربعين أو خمسين سنة من العصور القديمة، ثم يعقدوا المقارنة بين هاتين الفترتين، فإنهم ليدركون إذن حقيقة التفاوت بين عصرنا الحاضر وبين كل عصر من تلكم العصور
كذلك ينسى النعاة على المحدثين أن يسألوا أنفسهم: ما هي المزية التي كان بها النابغ القديم (أنبغ) من قرينه الحديث؟
فلا يسألون مثلاً: ما هو كتاب الجاحظ الذي يستعجزون أبناء عصرنا عن الإتيان بنظيره؟ فإن لم يكن كتاب فما هو الموضوع؟ وإن لم يكن موضوع فما هو المقال أو الجملة أو العبارة!
ولو كلفوا أنفسهم سؤالاً كهذا لمالت معهم كفة الميزان وعلموا أن الجاحظ ومن هم أكبر من الجاحظ يحتاجون إلى أن يتتلمذوا على أناس من المتخلفين، وقلما يعتزون بمزية واحدة لا يعد لها نظير من مزايا المتأخرين
وأعجب من ذلك حديثهم عن الموصلي وإبراهيم بن المهدي ومن جرى مجراهما من المطربين في العصور الأولى. فماذا سمعوا من هذا أو ذاك؟ ومن أين لهم إن الموصلي يبلغ شأو سلامة حجازي أو السيد درويش أو أم كلثوم فضلاً عن السبق الذي لا يجارى والبون الذي لا يدرك؟
أما أنا فاغلب الظن عندي أن الأمر معكوس، وإن ألحان الموصلي لا تعدو أن تكون مزيجاً من تنغيم البدو وصبغة الحضارة المستعارة والآلات الناقصة، وكل ما يأتي على هذا النمط معروف الأصول معروف النطاق، وإن لم يكن معروفاً بحروف النوطة وأصوات السماع
كذلك ينسى المتشائمون أن يتقصوا عناصر الشهرة في العصور القديمة قبل أن يعقدوا المقارنة بينها وبين نظائرها في العصور الحديثة
فدع أنهم ينسون أن يرجعوا إلى وقائع قائد مثل يوليوس قيصر أو الاسكندر المقدوني أو جنكيز خان قبل أن يرجحوهم في فنون الحرب على فوش وهند نبرج ومصطفى كمال ولو انهم رجعوا إلى تلك الوقائع لما أكبروا من شأن الانتصار فيها كل ذلك الإكبار
ودع أنهم ينسون أن كل حرب لابد فيها من ظافر ومن مهزوم، وإن الظفر وحده ليس بشيء إن لم ننظر معه إلى عوامله ودواعيه وتتبين أنها صالحة للتكرار في كل وقعة وكل حين
ودع أنهم ينسون أحكام المصادفات والعوارض وأنها تندر في الزمن الحديث وتكثر في الزمن القديم
دع هذا جميعه فقد يكون في نسيانه بعض أعذار لمن ينسونه، ولكن كيف تراهم يجارون الأقدمين في مبالغاتهم عن هؤلاء العظماء وهي قائمة على دعاوي وأكاذيب نحن على يقين من بطلانها كل البطلان؟ ألم يكن هؤلاء العظماء أربابا وأنصاف أرباب وقديسين في رأي الأقدمين؟ فكيف نقابل بينهم وبين خلفائهم في عصرنا قبل أن نسقط في الميزان تلك المبالغات وتلك الدعاوي والأكاذيب؟ إن هذا لخليق أن يضيف إلى فضل المتأخرين لا أن يغض منه ويحيف عليه، لأنهم وهم آدميون ليس إلا يوضعون في الميزان أمام أرباب وأنصاف أرباب!
ليس في تاريخ بني الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا عصر يعرض لنا من عجائب الحوادث والأمم والأفراد مثال ما يعرضه لنا العصر الذي نحن فيه
ليس في تاريخ بني الإنسان عصر برز فيه من البطولة والمغامرة والدهاء والقدرة والصبر على النصر والهزيمة مثل ما برز أمامنا في الحرب العظمى
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر تولى فيه عروش القياصرة والخواقين والأكاسرة وقبض فيه على أعنة السلطان رجال من (أبناء الشعب) كمصطفى كمال ورضا بهلوي وستالين وموسليني وهتلر وكابللرو وكارديناس. فماذا عندنا من الأدلة على إن العصاميين في الزمن القديم كانوا أعجب وأدنى إلى البطولة في صنيعهم من هؤلاء؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من نخوة الحب وفروسية العاطفة مثل ما عرضه لنا العصر الحاضر في غرام ملك الإنجليز السابق وصديقته السيدة سمبسون. فماذا عندنا من الأدلة على إن غرام هيلانة في طروادة المزعومة كان أعجب وأدنى إلى البطولة من هذا الغرام؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من أطوار الشعوب ما عرضته لنا الثورة الأسبانية والثورة الروسية من قبلها وعرضته معها الثورات في مصر والهند والصين. فماذا عندنا من الأدلة على إن عصر الثورة الفرنسية أو عصور ثورات اليونان والرومان كان لها نصيب من العجب وجلائل الخطوب أوفى من هذا النصيب الذي شهدناه؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر أنجب في كل أمة نموذجاً يمثلها كما أنجب عصرنا سعد زغلول وغاندي وسون ياتسن وشيان كاي شيكر وفيصلاً وابن سعود
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر فيه ما في عصرنا من الحقائق التي تشبه الخيال، والعبر التي تشبه نوادر الأمثال، والشواهد التي تتعدد على كل ملاحظة من ملاحظات النفس الإنسانية والبواعث القومية والطوارق السياسية. فعندنا وعلى مسمع ومشهد منا مصداق كل رأي حام في ذهن فيلسوف، وتطبيق كل مذهب دعا إليه داعية قديم أو حديث في عالم النظريات
وليس في تاريخ بني الإنسان مخاطرات أهول ولا أنبل من مخاطرات ركاب الطيارات والمظلات والغواصات المتفجرة والسفن المدمرة التي يقع فيها الخطر كل يوم ويقع فيها الإقدام كل يوم، ولا مبالاة بالموت ولا بالخطر كأنهما رياضة من اللهو أو لعبة من العاب الرهان
فإن كنا لا نسمي ما نبصره ونسمعه عجائب وروائع ولا نحسبها معارض للبطولة والنبوغ فقد غيرنا الأسماء وقد بدلنا اللغة، وقد أصبحنا مطبوعين على النظر إلى البعيد دون النظر إلى القريب
نعم إننا ننظر حولنا إلى عظيم في الشعر من طراز شكسبير فلا نرى له نداً بين الشعراء المعاصرين. ولكن النوابغ من طراز شكسبير تتساوى فيهم جميع العصور ولا يستأثر بهم القرن الذي نبغوا فيه، وهكذا كان أبناء القرن السادس عشر خلقاء أن يبحثوا في زمانهم عمن يضارعون نوابغ القرن العشرين في العلم والاختراع والموسيقى والفن كافة فلا يجدوا بينهم أنداداً لهم يضارعونهم كثرة وقيمة؛ وإن العصر الحديث مع هذا ليفهم قصائد شكسبير خيراً مما فهمها معاصروه، ويقدره خيراً مما قدروه، ويمثل رواياته أكثر وأجمل وأبرع وأكفل بالإقبال والإعجاب مما كانوا يمثلونها في حياته
أذكر أنني رأيت منذ سنوات في إحدى الصحف الإنجليزية صوراً لبعض العظماء الغابرين في أزياء العصر الحديث، شفعتها الصحيفة بهذا السؤال: هل تعرفهم؟
وحق للصحيفة أن تسأل سؤالها الآن. لأن الصور التي رأيناها لأولئك العظماء قد سلبتهم كثيراً من الهيبة وبددت ما حولهم من هالات الفوارق والمسافات التي يوحيها اختلاف المظاهر والأزياء.
وإن حاجتنا اليوم لشديدة إلى متحف يستعرض لنا عظماء الأمس في أزياء اليوم، وعظماء اليوم في أزياء الأمس، لنعرف مقدار ما تضيفه إلى الغابرين من هيبة الفوارق والمسافات ومقدار ما نسلبه المعاصرين من جراء الألفة والمقاربة
فإن تعذر علينا أن نرسم ذلك المتحف عيانا فلنرسمه بالظن والتقدير. ولنرجع إذن إلى مقاييسنا وموازيننا نلمس مواضع الزيادة والنقصان فيها، ونصلح جوانب الغلو والبخس في كفاتها، ونغنم تصحيح الميزان في الحكم على الرجال والأزمان، لأن هذا التصحيح غنيمة أنفس وأجدى من تفضيل نابغ على نابغ أو ترجيح جانب على جانب. إذ لا ضرر ولا قصور في اختلاف التفضيل والترجيح متى صحت النظرة واستقام القياس. تلك هي الحقيقة فيما يقال عن ندرة البطولة والنبوغ بيننا كما أراها
أما تواتر القول بندرتها بين جماعة من الناقدين منهم أناس فضلاء محبون للإنصاف فله أسباب قد نعود إلى تفصيلها ومناقشتها
عباس محمود العقاد