الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 205/خاتمة المأساة الأندلسية

مجلة الرسالة/العدد 205/خاتمة المأساة الأندلسية

مجلة الرسالة - العدد 205
خاتمة المأساة الأندلسية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 06 - 1937


الصراع الأخير بين الموريسكيين وأسبانيا

للأستاذ محمد عبد الله عنان

بينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادث خطير هو مصرع محمد بن أمية؛ وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة؛ وكانت عوامل الخلاف والحسد تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة، وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه وفروسيته ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه الحقد في نفوس نفر من ضباطه؛ وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله، فنقول انه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل له عشيقة حسناء تسمى (زهرة) فانتزعها محمد منه قسراً، فحقد عليه، وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزور على لسانه خطاباً إلى القائد العام (ابن عبو) يحرضه على التخلص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة في المعسكر الموريسكي، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر محمد بن أمية. وقتلوه بالرغم من احتجاجه وتوكيد براءته؛ واستقبل الجند الحادث بالسكون؛ وفي الحال اختار الزعماء ملكا جديدا هو (ابن عبو) فتسمى بمولاي عبد الله محمد، وأعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي وصفناه. وكان مولاي عبد الله اكثر فطنة وروية وتدبراً، فحمل الجميع على احترامه؛ واشتغل مدى حين بتنظيم الجيش واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرباً قوامه زهاء عشرة آلاف بين مجاهد ومرتزق ومغامر

وفي أواخر أكتوبر سنة 1569 سار مولاي عبد الله بجيشه صوب (أورجبة) وهي مفتاح غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته، وهرع الموريسكيون في شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة؛ وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة (لافيجا)، وقد كان قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى. وكان فيليب الثاني حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية وعجز القادة المحليين عن قمعها؛ قد عين أخاه الدون جون (خوان) قائداً عاماً لولاية غرناطة؛ ولما رأى الدون جون اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه، فخرج في أواخر ديسمبر على رأسي جيشه، وسار صوب (وادي آش)، وحاصر بلدة (جاليرا) وهي من امنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي منهم فرقة ترية، فهاجمها الأسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدة، فسقطت في أيديهم بعد مواقع هائلة أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات اعظم ضروب البسالة، وقتل فيها عدة من أكابر الأسبان وضباطهم، ودخلها الأسبان دخول الضوارى المفترسة وقتلوا كل من فيها، ولم يفروا النساء والأطفال، وكانت مذبحة رائعة، (فبراير سنة 1570) وتوغل الدون جون بعد ذلك في شعب الجبال حتى سيدون الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هنالك قوة أخرى من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى (الحبقي) تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الأسبان في سيدون ومزقت بعض سراياهم، وأوقعت الرعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم عدة كبيرة، ولم يستطع الدون جون أن يعيد النظام إلا بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره حتى وصل إلى اندرش في مايو سنة 1570

وهنا رأت الحكومة الأسبانية أن تجنح إلى شئ من اللين خشية من عواقب هذا النضال الرائع، فبعث الدون جون رسله إلى الزعيم الحبقي يفاتحه في أمر الصلح، وصدر أمر ملكي بالوعد بالعفو التام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع ماعدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قضي عليه بالموت؛ فللم يصغ إلى النداء أحد. ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائيا بأن أسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام وإنها غير أهل للوفاء، فعاد الدون جون إلى استئناف القتال والمطاردة وانقض الأسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين يمعنون فيهم قتلاً وأسراً؛ وسارت قوة بقيادة دوق سيزا إلى شمال البشرات واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في عدة معارك غير حاسمة وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي؛ وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهم الموقف ورأى اتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعا، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شئ، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوة القاهرة؛ واتفق المفاوضون على أن يتقدم الحبقي إلى الدون جون بإعلان خضوعه وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الأسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت إقامتهم، وفي ذات مساء سار الحبقي في سرية من فرنسا إلى معسكر الدون في اندرش وقدم له الخضوع وحصل على العفو المنشود

ولكن هذا الصلح لم يرض الموريسكيين، ولم يرض بالأخص مولاي عبد الله وباقي الزعماء، ذلك لأنهم لمحوا فيه نية أسبانيا النصرانية في نفيهم ونزعهم عن أوطانهم؛ ففيم كانت الثورة إذاً، وفيم كان النضال؟ لقد ثار الموريسكيون لأن أسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي إذ رآه يروج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعوا إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه إلى معسكره بالحيلة؛ وهنالك اعدم سراً

ووقف الدون جوان على ذلك بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاي عبد الله، فأعلن إليه انه يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفهم، بيد انه يأبى الخضوع ما بقي فيه رمق ينبض، وانه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه على أن يحصل على ملك أسبانيا بأسره؛ والظاهر أن مولاي عبد الله كانت قد وصلته يومئذ أمداد من المغرب شدت أزره وقوت أمله؛ وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاي عبد الله أخاه الغالب، ليقود الثوار في تلك الأنحاء؛ وثارت الحكومة الأسبانية لهذا التحدي، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت؛ فسار الدون جوان في قواته إلى ودي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دوق ركيصانص إلى شمال البشرات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الأسبان في طريقهم كل شئ وأمعنت في التقتيل والتخريب، وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن أن تقف في وجه هذا السيل فمزقت تباعاً، وهدم الأسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول حتى لا يبقى للثائرين مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت دعائم الثورة تنهار بسرعة وفر كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم في أفريقية، ولم يبقى أمام الأسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير؛ بيد إن مولاي عبد الله لبث معتصماً بأعماق الجبال يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف وفي 28 أكتوبر سنة 1570 اصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد. ومصادرة أملاكهم العقارية وترك ملاكهم المنقولة يتصرفون فيها؛ ونفذ القرار الجديد بمنتهى الصرامة والتحوط، وجمع الموريسكيون في الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند في كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا داخل الأقاليم الأسبانية، وانهار بذلك المجتمع الموريسكي في مملكة غرناطة

ولم يبق إلا أن يسحق مولاي عبد الله وجيشه الصغير؛ وكان هذا الأمير المنكود يرى قواده وموارده تذوب بسرعة وقد انهار كل أمل في النصر أو السلم الشريف؛ بيد انه لبد مختفياً في أغوار الجبال مع شرذمة من جنده المخلصين، وفي مارس سنة 1571 كشف بعض الأسرى سر مخبئه للأسبان فأوفدوا رسلهم إلى معسكره في بعض المغائر وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى (الزنيش) أغدقوا له المنح والوعد إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله حياً أو ميتاً وزودوه بالعفو الشامل؛ فدبر الضابط الخائن خطة لاغتيال سيده؛ وفي ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه فحمل الخونة جثته إلى غرناطة؛ وهناك رتب الأسبان موكباً أركبت فيه الجثة مسندة إلى بغل كأنما هي إنسان حي، ثم حملت إلى النطع وأجري فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ثم جرت في شوارع غرناطة مبالغة في التمثيل والنكال، وبعد ذلك أحرقت في الميدان الكبير

- 5 -

وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت وخبت آخر جذوة من العزم والنضال في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد وقضت المشانق والمحارق والمحن المروعة على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبت ريح من الرهبة والاستكانة المطلقة على ذلك المجتمع المهيض المعذب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، في ضل العبودية الشاملة والإرهاق المطبق حقبة أخرى

على أن أسبانيا النصرانية لم تطمئن مع ذلك إلى وجود هذا الشعب المستكين الأعزل الذي مازال رغم ضعفه وذلته يملأ جنباتها بفنونه ونشاطه المنتج؛ وكانت الكنيسة مازالت تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض على مجتمع لم تطمئن إلى صحة إيمانه، وكانت الدولة ذاتها تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع ومطاردته. فهي تخشى من أن يعود إلى الثورة، وهي تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمي أفريقية، وكان التنصر المطبق قد عم الموريسكيين وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والتطور نصارى وقشتالين، يشهدون القداس، ويتكلمون القشتالية؛ غير انهم لبثوا مع ذلك في معزل تلفظهم أسبانيا النصرانية وتحيطهم بريبها وبغضها؛ وكانت ثمة منهم جموع كبيرة في بلنسية ومرسية؛ ففي عهد فيليب الثالث اتخذت أسبانيا النصرانية خطوتها الحاسمة، وأصدرت قرارها الشهير في صحف الاضطهاد، بنفي الموريسكيين أو العرب المنتصرين من أسبانيا، وإخراجهم نهائياً من جميع الأراضي الأسبانية (سنة 1609م - 1017هـ) وحشدت السفن لنقل من كان منهم في الثغور إلى أفريقية، ونزح سكان الشمال منهم إلى فرنسا حيث استقروا في لانجدوك وجويان، وبذلك انتهى الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين وطويت صفحة شعب من امجد عصور التاريخ وحضارة من اعرق حضاراته

ولكن فلك التاريخ يسير بلا هوادة؛ فقد كانت مأساة الموريسكيين ضربة لأسبانيا النصرانية ذاتها، وكانت بدء عصور التدهور والانحلال التي مازالت تتخبط أسبانيا في ظلماتها

وهل يكون من عدالة الله في أرضه وبين شعوبه أن تجتاح أسبانيا النصرانية اليوم موجة مدمرة من الحديد والنار تحصد أبناءها وحضاراتها حصداً؟ وهل تكون الحرب الأهلية الأسبانية نقمة الموريسكيين تلحق أسبانية بعد أربعمائة عام؟

(تم البحث)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان