الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 2/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 2/العلوم

بين الكأس والطاس
العلوم
احمد زكي
بتاريخ: 01 - 02 - 1933

ُلوم

بين الكأس والطاس

بقلم الدكتور احمد زكي

أستاذ الكيمياء بكلية العلوم

الخمر قديمة كالإنسان، خلقها من خلق الهم، وأبدعها من أبدع الحس، وأرادها أن تبقى على الدهور والأحقاب من أراد ألا يكون الكون خيراً كله ولا شراً كله.

الخمر لا وطن لها لأن الأرض وطنها، عرفها المصري والفينيقي، والإغريقي والروماني، ويعرفها التركي والألماني، والفرنسي والأمريكي، والخمر لا دين لها فقد اعتنقت جميع الأديان؛ عصرها كهان المجوس، وباركها أحبار اليهود، واتخذها يسوع رمزاً لدمه فعتقها من بعده القسيسون والرهبان، وحرمها الإسلام فاستحلها الخلفاء لما صارت الخلافة ملكا عضوضا. لم يحل لهم أنس إلا بها ولم يطب نغم إلا عليها ولا لذ غزل الا في دبيبها ونشوتها.

والخمر لا مدنية لها فقد عرفتها كل المدنيات، عرفتها أبان إشراقها ونشأتها وازدادت بها علما وهي في كبد سمائها وأوج صولتها، ثم غربت على الأكثر فيها كما تغرب الشمس في لجة البحر المحيط. كذلك شربها المدني في كؤوس من ذهب بين عمد المرمر وعلى رنين القيثار، وشربها الوحشي حيث لا كأس غير صحاف القرع ولا عمد غير غاب الغيل، ولا رنين غير زمر القصب وقرع الطبول.

وجاءت المدينة الحاضرة بعلمها وعددها، وبطبها وإحصائها وبتجاريبها في الأفراد وتجاريبها في الجماهير، وخرجت على أن لعنة الناس في الخمر وخسرهم في ذوب الرحيق. وتكونت في كل أمة أمة تدعو إلى السبيل الجديدة وتبشر بالرسالة الجديدة باسم العلم وباسم الاقتصاد في قوى العمال لزيادة الإنتاج. وزادت الدعاية حتى أن أمة من اكبر الأمم عددا أكثرها عدة وأحدثها حضارة صوت ناخبوها بتحريم الخمر، فصدر القانون بطلاق بنت الحان، فأغلقت المخامر أهدرت الدنان، وحاطوا أمريكا بسياج ثقيل من عسس يمنع الداء أن يدخل، والداء بالجسم دفين، والجسم قد يعتل من جرثومة تغزوه ولكن اكثر علته من جرثومة للموت ولدت فيه. وما هي الا سنة فأخرى حتى سالت الخمر في أمريكا سيلان الماء فيها، سدت عليها منافذ الماء، ومهابط السماء، فتفجرت كالزيت من منابع في أرضها، في عقورها ديارها، فعبها الناس اغتراقا، وعبها رجال القانون معهم؛ ومتى أبطل مداد الأوراق ما جرى به مداد الأعراق؟ ولما أصبح القانون، ذلك الشيخ الوقور المهاب، يصفع في السر أقل ويصفع في الجهر أكثر جاء منتخبوهم منذ أسابيع فرحموا الشيخ فعقروه، وهكذا عادت الخمر الشيخة تتهادى إلى عرشها، فلما استقرت فيه نظرت للإنسان فابتسمت وكان من ورائها الأجيال فابتسمن أيضا.

وبعد فما الخمر الا الكحول، وهو ماء ولا ماء، ماء في مظهره ونار في مخبره، وقد اتخذ أشكالا عدة، وأسماء عدة فأسموه البيرة أسموه النبيذ وأسموه الوسكي وكل هذه تحويه أن قليلا أو كثيرا وهي تفقد أسماءها بفقده، ومن السخف ما يباع أحيانا بأنه بيرة لا كحول فيها. والبيرة تنتج من تخمير الشعير وبها ما بين 4 إلى 10 في المائة من الكحول ومقدار لا بأس به من أجسام صلبة ذائبة شبه السكر نتجت من تحلل النشاء الذي كان بالشعير. والبيرة المعتادة لونها اصفر وطعمها مرير بسب عشب يضاف إليها. والنبيذ ينتج من تخمير عصير العنب وبه ما بين 6 إلى 8 في المائة من الكحول ولونه أحمر ويتعاطاه الكثير من الفرنجة على الطعام كما يتعاطون الماء. وهناك نوع آخر من النبيذ ويسمى البرط وبه ما بين 15 إلى 20 في المائة. وبالأنبذة غير الكحول مواد سكرية وحوامض كحامض الطرطير تعطيها طعما ذاعقا. أما حسن طعمها وطيب ريحها اللذان يشيد بهما الشعراء فيرجعان على الأكثر إلى اتحادات بين ما بالأنبذة من حوامض وما بها من كحولات إذ (تتأستر) هذه بتلك فتنتج ما يشبه الزيوت العطرية طعما وطيبا. ويزيد هذا (التأستر) على الزمن، لذلك تختزن الخمر فلا ترى الشمس أحقابا طوالا. قال أبو نواس يتمدحها:

عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم

لأحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم

وأما الشمبانيا فهي أخت النبيذ، فأبوهما الكرم، إلا أن لونها أصفر، ويرجع هذا إلى أنهم يعصرون العنب سريعا فلا يمهلون الصبغة التي بقشرته أن تجري في العصير فتخمره، وغير هذا فانهم يختزنون هذا العصير في أبان تخمره في زجاجات مقفلة سنتين وثلاثا فينحبس بها غاز الكاربون الناشئ من التخمر تحت ضغط كبير، لذا تفور الشمبانيا عند فتحها، ولذا كان طعمها حريفاً كالكازوزة بسبب هذا الغاز ومقدار الكحول الذي بها كالذي بالنبيذ تقريبا.

ويوجد عدا هذه من الأشربة الروحية أنواع لا حصر لها يختلف مقدار الكحول الذي بها اختلافا كبيرا، ومن ذلك الوسكي ويحضر من تخمير الحبوب ثم تقطيرها، والكونياك ويحضر بتقطير النبيذ ولذلك ترتفع نسبة الكحول بكليهما إلى 30 و 60 في المائة. ومن الناس من يتخذ من كحول الحريق شرابا وهو يحتوي نحوا من 90 في المائة من الكحول الخالص ويضيفون إليه أصباغا وزيوت تجعله غير سائغ في الحلق، ولكن حلوق الجهال من الفقراء يسوغ فيها كل كريه مر. ويشرب المرء الخمر كائنة ما كانت فتمتص المعدة فالأمعاء الكحول امتصاصا سريعا فيذهب إلى الدم ثم إلى كل غشاء من أغشية الجسم فيحترق فيها إلى غاز الكاربون والماء احتراقا سريعا كذلك، ولا تبقى منه بالجسم بقية، فهو ليس بطعام بالمعنى المعروف ويخرج مقدار من الكحول قد يعلو إلى 8 في المائة في البول ومن الرئة في التنفس، لذلك تشم رائحته في الفم. ومن الناس من يسترق الشراب ثم يحسب أن رائحته علقت بأشداقه فيغسل فاه حاسبا أنه قد تستر، ويسير في الناس مطمئنا ورئتاه تدفعان بالسر في صوت جهير ابلغ من صوت الشفاه.

ويتعاطى الناس الكحول للأثر الذي يكون منه في المخ والأعصاب فأول ما يحدثه نشوة تثور فيها قوى المخ فيشتد الفكر ويحتد الخيال ولكنه فكر ثائر وخيال مضطرب، وتزول عن الإنسان أثناء ذلك الدقة في العمل ويقل ضبطه للأمور فتكثر الأخطاء. قام الأستاذ (دلنج) أستاذ فن العقاقير بجامعة ليفربول بتجارب على زوجه فكان يسقيها مقادير مختلفة من الكحول ويملي عليها قطعا تكتبها على الآلة الكاتبة ويعدّ الأخطاء. وخرج من ذلك على علاقات طريفة بين مقادير الكحول وبين الأخطاء الناتجة دلت في مجموعها على أنه بالرغم من حدة الذهن وسرعة الإلهام تقل قدرة الضبط في الإنسان. قيل لشاعر فكه في ذلك فقال: إذن لا بأس عليّ من الخمر، استوحي بها في الليل، وأصحح أخطاء الوحي بالنهار. ولعل من اجل هذا أن من الشعراء والكتاب من كان لا يكتب إلا إذا شرب، وذلك مشهور عن الكاتب الإنجليزي المعروف شارلز دكنز، فقد كان لا يكاد يستفيق، كان كالشمعة يضيء للناس وهو يحترق. وتعقب دائما فترة الإيحاء هذه فترة خمود عميق يكل فيها الذهن وتنثلم الحواس.

وفعل الخمر بالعواطف يناهض فعلها بالعقل، فمن الناس من يخف به الفرح حتى ليذهب بوقاره، ومنهم من تأتيه الكآبة فلا يكاد يحبس دمعه، ومنهم من يرتاع فيهلع قلبه خوفا وفرقا، ومنهم من يشجع فيغفل عن عواقب الأمور. ومن المثل الأخيرة الجراحون فان منهم من لا يستطيع حمل المشرط إلا إذا نقع حواسه بنقيع إبنة العنب.

ولعل هذا ما حدا إلى الجمع بين الخمر وبين كل لذة ولا سيما ما اتصل منها بعاطفة كالغناء والنساء. وهو الذي جمع كذلك بين الخمر وبين كل كآبة، فكم من عزيز قوم تجهمت له الحياة في حب أو وشيجة أو مال فلم يطقها، ولم يطق الموت، فأمات نفسه حيا بالكأس تتلوها الكؤوس. وقد وجدوا أن المستهلك من الشراب يزيد في الضائقات المالية التي تعتري الأمم زيادة كبرى.

ولعل اخطر ما في الشراب الإفراط فيه حتى تتأصل عادته. يشرب الشارب فيكثر، ويشرب والمعدة ملأى بالطعام ويشرب وهي خالية فيكون امتصاص الجسم له في الحالة الأخيرة أشد وسريانه أسرع والى المخ أوحى؛ فتقصر فترة الانتعاش الأولى إلى العدم وتسرع الحواس فتغيم والبصر فيتغبش فيرى الواحد اثنين، وتصيت الأذن ويخف الرأس ويضيع الحكم على الأمور ويرغو الفريسة ويزبد وتأخذه رغبة في الشجار والتحطيم، ثم يسقط جسدا هامدا في غشية تتعطل فيها قوى المخ جمعاء إلا النزر اليسير الذي يكفي لإجراء الدم وإخراج الأنفاس، ثم يصحو من نوم عميق محموم الجسد مصدع الرأس فاقد القوى، بالأذن رنين لا يسكت، وبالقلب وجبة لا تسكن، فلا يجد خلاصا من تلك الأعراض المؤلمة إلا بإعادة الجرعة وهي حقا تزيلها وتزيلها سريعا. قال الأعشى:

وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها

ولكنه شفاء لا يدوم إلا قليلا، فيأخذ المسكين يتداوى من داء بداء حتى يصبح الشراب عادة أشد تأصلا في أعراقه من تأصل الروح فيها، وتسوء في هذه الأثناء معدته لأن الكحول مهيج شديد لأغشيتها، ويعتريه فيه التهاب مزمن لا تنفع فيه حيلة الأطباء، وتتحلل مادة كبده فتتليف أو تتدهن؛ وتقل مقاومة الجسم عامة للأمراض، ولكن اخطر من هذا أن المخ يفسد فيصبح صاحبه في اضطراب دائم ورعشة لا تهدأ وإذا هو أتاه النوم العاصي فبأحلام مروعة أروع منها أحلام اليقظة إذ ترى عينيه في الجهرة الجرذان تخرج من الحيطان والزبانية تختبئ له في كل الأركان، وتسمع أذنه الأحياء المتحركة تسبه والأشياء الجوامد تلعنه ويتسابق جسمه وعقله إلى الفناء في منحدر زلق لا تقف الرجل فيه!