مجلة الرسالة/العدد 2/بيت الراعي
→ في الأدب الغربي | مجلة الرسالة - العدد 2 بيت الراعي ألفريد دي فينيي |
العلوم ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1933 |
للشاعر الفرنسي الفريد دفني
- 2 -
- 1 -
أيها الشعر أيها الكنز. يا جوهرة العقل. أن عواصف القلب كزوابع البحر لن تستطيع أن تعوق رداءك المتعدد الصبغة عن أن يجمع ألوانه، لكن ما أن يراك السوقة وأنت تلمع فوق جبهة نبيلة حتى تضطرب حواسهم لبريق سناك الناصل في أعينهم، الغامض على أفهامهم، فتنطلق ألسنتهم بالنيل منك وقلوبهم تكاد تنخلع من الهلع.
- 2 -
إنما يخشى حماسة الإلهام ضعاف النفوس. أولئك الذين لا يقوون على الاستقلال بعبئه والصبر على لظاه. وفيم تنكبه والحياة تضاعفها نيران العاطفة ولكم من قبس الهي تصيبنا ناره من حين إلى حين. تلك هي الشمس وهو الحب وهي الحياة ومع ذلك فهل من يود أن تنطفئ نارها. أننا نعتز بها ونحن ساخطون عليها.
- 3 -
لقد أستحقت إلهة الشعر ابتسامات التهكم وإمارات الاستهتار التي يستثيرها مرآها منذ أن اتجهت ببصرها إلى العاهرين فأضطرب مقالها ونزل صدقها منزل الشك وحرم عليها أن تعلم الحكمة وأصبحت اليوم إذا صاحت بعابري الطريق أن أفسحوا أفسح لها السائر في غير هيبة ولا احترام.
- 4 -
يالك من فتاة لا عفة لها. يا ليتك صنت وقارك يا سليلة ارفيوس. إذا ما كنت تذهبين إلى حيث لا يليق بك إلى الشوارع وملتقى الطرق تنشدين الأغاني بصوتك المختنق المتهدج. إذا ما كنت تلصقين بجانب فمك باقة الشعر اللاذعة كالذبابة، وبجانب عينك الزرقاء معنى الرمز المستهتر.
5 -
لقد سقطت منذ حداثتك. ففي اليونان أسكرك عجوز بقبلته وكان أول من خلع عنك ثو كهنوتك ثم أجلسك على فخذيه بين جماعة من الشبان، ولا يزال على جبينك آثار من غض قبلاته! وفي ولائم هوراس كنت تغنين وأنت تثملين بالشراب، وجاء فولتير فقادك إلى البلاط تحت أبصارنا جميعاً.
- 6 -
يالك من قسيسة خبت نارها. هاهم أعظم الناس خطراً لا يضعون على جباههم من تاجك إلا بعضه. هاهم تقف أقدامهم وكأنما يتعثرون في خطاياك حتى أنه لمن الإهانة لأحدهم ألا يكون شاعراً. ينثرون أفكارهم مع رياح المنصة فتدور بها عمياء كالقدر ثم تحملها إلى غير مستقر.
- 7 -
متكبرون متعالون في مواقفهم الكاذبة وأن مادت الأرض تحت أقدام أولئك التريبون خطبهم الفانية تتملق الجماهير التي تلتف حولهم وتصفق لعباراتهم أولئك الجماهير الذين يتجددون باستمرار في هذه المسارب الضيقة. هؤلاء النظارة لا يحملون لأولئك الممثلين السياسيين إلا أزهاراً لا رائحة لها وما لها من غد في أغلب الأحيان.
- 8 -
ُافْقهم تحده جدران صالتهم حيث يقومون بألعابهم الكاذبة والشعب يسمع عن بعد ضوضاء مجادلاتهم ولكنه لا ينظر إلى تلك الألعاب الا كما ينظر أبناؤه ونساؤه مضطربين إلى ذلك الحدث العجب. آلة البخار ذات المائة ذراع.
- 9 -
ترى الفلاح المعتم يسخط عندما يوقف محراثه ويترك فلاحته لينتخب ومع ذلك ها هو أحد محامي اليوم قد استقر في أعماق نفسه احتقار ما نصيبه الخلود. ذلك المحامي الذي يشك في خلود النفس ويعتقد في خلود أقواله هو. أيها الشعر أنه يسخر من رموزك الموقرة وأنت للمفكرين الحقيقيين موضع الحب الذي لا يفنى.
- 10 -
كيف تصان الأفكار العميقة ما لم تتجمع نيرانها في ماستك النقية التي تحفظ سناها المتركز. تلك المرآة الصافية الوهاجة المتينة (بقايا ما يبيد من دول) ذلك الحجر الخالد الذي تعثر به أقدامنا عندما نبحث عن أنقاض المدن الفانية فلا تجد لها من أثر.
- 11 -
أيتها الماسة الفريدة ليضيء شعاعك للعقل الإنساني مواضع خطواته البطيئة المتخلفة. ليضعك الراعي على قمة منزله لكي نستطيع أن نرقب عن بعد الشعوب تطوى سبيلها. لما يصح النهار وما نزال عند أوائل أشعته الفضية التي تسبق بزوغ الفجر وتميز أفق السماء من مستوى الأرض.
- 12 -
ما تكاد الشعوب تفطن لنفسها وسط حشائش العوسج التي نبتت حولها وهي غارقة في سباتها. ها قد أخذت أيديهم المتضافرة تشق سوقها لتضع الجهاز الأول. ما تزال البربرية تمسك أقدامنا في غمدها. وما يزال رخام الأزمنة الساحقة يعلو إلى ما فوق خواصرنا. ما أشبه كل رجل نشيط بالإله (ترميس).
- 13 -
على أن روحنا الوثابة تفيض بالنشاط، فلنشق الحجب عن مكنون قواها والمكنون موجود وان توارى عن النظر. للنفوس عالم تجمعت به كنوزها وان لم نستطع لها لمسا. بين أحضان الله تضام الوجود وفي منطقه تركزت حكمة البشر كما تركزت أجسامنا في فضاء الأرض.
محمد عبد الحميد مندور
ليسانسيه في الآداب