مجلة الرسالة/العدد 2/القصص
→ العلوم | على هامش السيرة - حفر زمزم القصص طه حسين |
قصة عراقية ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1933 |
على هامش السيرة
حفر زمزم
للدكتور طه حسين
(2)
لا هم قد لبيت من دعاني ... وجئت سعي المسرع العجلان
ثبت اليقين صادق الأيمان ... يتبعني الحارث غير وان
جذلان لم يحفل بما يعاني ... لا هم فلتصدق لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان
كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضا يملأ الفضاء من حوله، نقيا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقر لا يضطرب فيه الا هذا الصوت العريض النقي وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية ثم تهوي بها محتفرة ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه ويسمع صوته ويرد عليه رجع هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت.
لا هم فلتصدق لنا الأماني
حتى إذا امتلأ المكتل حمله بذراعيه الضعيفتين وأسرع بشيء من الجهد إلى خارج المسجد فألقى ما فيه ثم عاد وأبوه يرفع المعول في الجو ويهبط إلى الأرض ويملأ فضاء البيت بصوته النقي العريض والعرق يتصبب على جبينه ولكنه لا يحس جهدا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداءً من النور نقيا ولكنه ثقيل همد له كل شيء وآوى له الناس إلى بيوتهم يقيلون. وانقطعت له الحركة وخفتت الأصوات إلا هذه الجنادب التي يروقها وهج الشمس ويسكرها لهب القيض فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء وقد اخذ الغلام يحس لذع الجوع وحر الضمأ ولكنه لا يقول شيئا بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأ. وهما في ذلك إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء يحمل إلى الرجل والغلام شيئا من طعام وشراب حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي هذا غداؤك وغداء الصبي قد أعدته سيدتي العامرية هيأته بيدها وهي تعزم عليك لتصيبن منه ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث: لقد قال الناس جميعا وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود وأنت فيما أنت فيه من جد يضني وجهد يهلك لا تقيل ولا تستريح ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء. بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها. وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله. أن فيها لشواء غريضاً وأن فيها للبناً يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام. وأن فيها لماء عذبا ومن يدري؟. لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف، فأنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة وقد امتلأ المكتل فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك. ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا (إليك يا غلام فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وأبنه).
ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد أنقطع وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه ثم، يدير عينه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحداً. ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضى والإشفاق:
(هلم يا حار أنظر هل ترى ماء؟ - كلا يا أبت وإنما أرى ذهبا وسلاحا - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج: أن وراء هذا الأمر لسرا. ولكن هلم يا بني فما أرى الا أن الظمأ والجوع قد أجهداك).
وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعماً وأحسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة فيستخرج ما فيها فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل وإذا سيوف ودروع. فيكبر ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ. فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد وإذا شباب قريش وشيوخها يقبلون سراعاً مزدحمين يسرع ببعضهم حب الاستطلاع ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة ويسرع بفريق منهم باعث ديني غامض فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعا واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزاً وعرفوا حقيقة هذا الكنز وقوموا ذهبه الخالص وصناعته البارعة وما فيه من سيوف ودروع أداروا أمرهم بينهم. لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة إنما هو لقريش فقد وجد في المسجد وكل ما وجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف فهم الذين إحتفروا وهم الذين ظفروا وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة. وتنازع القوم وطال النزاع واختصم القوم واشتدت الخصومة وعبد المطلب صامت مطرق لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز وأنت احقنا بان ترى رأيك فيه!. قال عبد المطلب في هدوء وأناة ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة فما حفرت ولا ظفرت الا بأمر خفي وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف وأنكروا جميعا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئا وما كان لهم أن يقولوا شيئا! ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذن إلى الكعبة وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح وها هو ذا يضرب بقداحه ثم يضرب ثم يضرب بين قريش والكعبة فتخرج القداح للكعبة ثلاثا ويصيح عبد المطلب لقد ظهر قضاء الله فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش. . تفرقوا يا بني عبد مناف فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب. أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة، وأما هذه السيوف فستعلق عليها، وأما هذه الدروع فستدخر في خزائنها. ثم ألتفت إلى أبنه وقال هلم يا حارث اتبعني لنمض فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غل وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر أنتحوا ناحية وأقاموا يرددون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد المطلب. ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا الكعبة قد جردت مما علق عليها من ذهب وسلاح.
وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونا مكدودا راضيا مع ذلك لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له. ولكنها لم تعرض عنه ولم تتجهم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت وألح في السؤال. قالت: وبم تريد أن ابتهج ولم تريد أن ابتسم؟ لقد علمت منذ زفني أبي إليك أني قد تزوجت رجلا لا كالرجل. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك. ثم عاد إلى الأمل أول أمس ثم ها أنت ذا ترد إلى اليأس مظلما حالكا قبيح الوجه بشع المنظر كأنه الغول. ماذا!؟ يأم بك الطائف أربع ليال يهيب بك ويلح عليك رامزا حينا مصرحا حينا مصراً دائماً حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه وأشفقت أن تسلمه إلى قريش أو إلى عبد مناف. فيقال (ألقى بيده ونزل عن غنيمته فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البنية تحليها بالذهب وتعزها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك!؟ لله أنتم يا معشر قريش!؟ أنكم لتكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نكبر نحن في البادية ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا إلى بطاحكم هذه حاجين ولا معتمرين ولكنكم قوم ضعاف تكبرون ما لا يكبر ويغركم أن أفئدة الناس تهوي إليكم تحسبونهم يقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة، وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض. وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق. هلا طاولت قريشا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إلى، لقد كان فيه غنى لك ولهذا الصبي الذي تعنيه وتضنيه منذ ألم بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة إذا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالا ولما استطاعوا بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفرق وعبثت بنفسك بقية من كبرياء فأفقرت نفسك وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالا. قال عبد المطلب محزونا: هوني عليك يا سمراء وأقلي اللوم فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غيرة الحرص على المال وما أحب لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة الحديث عن المال. وما أرضى لك وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تغضي من أمر قريش. أن فيكم أهل البادية لطباعاً غلاظاً ونفوساً يملؤها الطمع أنتم لا تحسون الدين ولا تقدرون الغيب ولا تؤمنون الا بما ترون ولا تخافون الا القوة الظاهرة. لقد كنت احسب أن مقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء فإذا أنت اليوم كما كنت يوم أنحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وادخل الخصب على بني عامر. فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما مخبوء لأمر يراد وأني لمن قوم لا يحبون الغصب ولا يستأثرون بما ليس لهم ولا يعقدون الحقوق، فان تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقنك فذمي رحالك غداً وألمي بأهلك فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض مغضبا وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.
وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله وحتى اضطربت له مجالس قريش في أفناء البيت فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقا يلقى من الجن شططا ويريد أن نلقى منه شططا. اقبلوا إليه سراعاً يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز أو عثر على غنيمة ليغلبنه عليها وليعطنه منها نصيب رجل من قريش وانتهوا إليه. وهو يكبر ويصيح هذا طي إسماعيل هذه بئر زمزم، هذه سقاية الحاج، لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.
فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة وانبطت لهم هذا الماء يستقون منه إذ ضنت عليهم الينابيع فوصلتك رحم، لتعرفن لك قريش هذه اليد. قال ما أنتم وذاك؟ هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إلى من السماء. وهذا شرب ساقه الله إلى سأسقيكم منه أن أردت. ولكني اسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا يا ابن هاشم أنك لتسرف على نفسك. وتشط على قومك وتختلق إلى السماء. أن هذه الأرض ليست لك وإنما هي لله ثم لقريش، وأن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان. فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم خلوا بيني وبين الماء. فوالله لن تبلغوا مني شيئا أنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم. ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يردعني كيدكم ويحميني من ظلمكم. أنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به وأني اقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد. وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش وكاد الشر أن يقع بين القوم ولكن عبد المطلب قال: يا قوم فيم قطع الأرحام وحفر الذمم وإراقة الدماء؟ أني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه. فليكف بعضكم عن بعض ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.
وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام فاجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر ونفد ما كان معهم من ماء واشتد بهم الظمأ واحرق أكبادهم الصدى وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار بها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد ليس فيها عين ولا بئر ولا شجرة ولا عشب وإنما هي ارض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام وقد يئس القوم من كل روح وقنطوا من كل وجهة فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم يا قوم إنما هو الموت فانتم بين اثنتين: أما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهباً لسباع الأرض والجو لا تواريكم يد في التراب ولا تؤوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه وأما أن يقوم بعضكم على بعض ويواري بعضكم بعضا فيكوم لكل منكم حفرته وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وان تقيموا فأيكم ذهب الصدى بنفسه ورآه أصحابه وبكوا عليه. فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد به الحياة إلى أقصى أجل. قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته. وتناقل القوم بعض الشيء يفكرون في أولادهم وآخرتهم ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال. ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.
كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: (يا معشر قريش ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وان فيكم لبقية من قوة وان في ابلكم القدرة على الحركة وفضلا من النشاط لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها، هلم فاضربوا في هذه الأرض فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا) ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث وإذا الآمال تحيا. وإذا النشاط يتجدد وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه وينهض عبد المطلب إلى راحلته حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت به وهمت لتندفع ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون فإذا عين غزيرة قد أنفجرت تحت خف الراحلة وإذا هي تفور وإذا الماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!.
هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد. هلم فاشربوا واسقوا ابلكم وأملأوا مزادكم هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القاتمة المحرقة.
والقوم يضجون بالرضى والغبطة وأن للإبل من حولهم لأطيطاً ملؤه الرضى والغبطة أيضاً. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم وتشعر بالسرور والحزن، روى الناس ورويت الإبل، ورويت الأرض وقالت رسل قريش لعبد المطلب عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا وان الذي سقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك هو الذي سقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.
وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالما موفوراً مظفراً. فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: (حبذا شيبة مسافراً وحبذا شيبة مقيماً! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم. أنه لا يريد كثرة الولد. وأي نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه). ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمر بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة وهي أم جماعة من ولده بينهم عبد الله.