مجلة الرسالة/العدد 2/الشلوك
→ النقد | عمالقة السود واكثر الهمج وحشية الشلوك محمد ثابت |
في التلفون ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1933 |
عمالقة السود واكثر الهمج وحشية
للرحالة الكبير الأستاذ محمد ثابت
الشلوك طائفة من الزنج تحتل قسما من منطقة السدود في أعالي النيل ويحكمهم ملك يسمى ولا يزالون يتعقبون ملوكهم إلى الجد السادس والعشرين ودولة هذا الـ أو كما يلقبونه تمتد غرب النيل بين كاكا وتونجا وشرق النيل من جنوب كودوك إلى التوفيقية وعلى ضفتي السوباط الأولى ولهم نحو 1300 قرية من أكواخ مخروطية من القش والطين يسكنها نحو أربعين ألفاً. وهم خاضعون تماما لملكهم الذي يبلغه الجواسيس كل أمر جل أو صغر أولاً بأول، ومن أقصى حدود بلاده إلى مركزه المختار في قاشودة على بعد ستة أميال من كودوك. وهم معروفون بالقوام السمهري وبطول السوق وبروز عضلاتهم، جلدهم لامع براق والمقاتل منهم لا يرى خارج كوخه بدون حربته الطويلة ذات السن العريض. ومعها حربتان قصيرتان (ولا يحملون الأقواس والسهام) وسلاح من خشب كأنه الوتد مدبب الطرف ويستخدمون صحافا بعضها من خشب مستدير والبعض من جلد فرس الماء.
وأخص ما يسترعي النظر شعور الرجال التي يرسلونها تنمو ثم يشكلونها أشكالا غريبة بعد أن تبطن بروث البقر. أما النساء فيحلقن مقدم الجمجمة ويتركن شعراً قصيراً جداً في مؤخرها فتبدو المرأة كأنها صلعاء. ويتعهد شعر الرجال (حلاق) عمله محترم لديهم يتوارثه عن أجداده وهو في شهرته ومقامه يلي الرماة والمقاتلة، يأتي الرجل ويجلس أمام كوخ الحلاقة في الشمس المحرقة ويبدأ الرجل غسل الشعر ونفشه ببول البقر ثم يترك مدة في الشمس تناهز نصف ساعة وأنت ترى القمل والحشرات تجري على رقبة الرجل، وأيدي الحلاق والرائحة الكريهة منبعثة منها تعبق في الجو. وخلال ذلك يعد الحلاق المادة التي سيشكل بها الشعر. فيأتي بإناء من فخار ويخلط به بعض الطين والروث والبول والصمغ ويعجنه ثم يبطن به الشعر في مهارة فائقة ثم يجفف في الشمس ويأخذ في قطع زوائد الشعر بمدية حادة ويدهن جسد الرجل ببول البقر الذي يستخدمونه جميعا رجالا ونساء. بعد ذلك يرش فوق الشعر مسحوقا من حرق روث البقر ممزوجا بالثرى ليأخذ الشعر لونه المطلوب. والعادة أن يتعهد الحلاق شعر رجلين معا لكي يعرف كل نظام شعره إذا ما رأى شعر أخيه ولا تستخدم المرآة عندهم. وأجر هذا العمل شاة أو معزى، ويغلب أن يتعهد الشبان شعرهم هكذا قبل الزواج والحرب وقبل الرقصة الدينية. ولكي لا يفسد نظام الشعر إذا أحس أيلام الهوام التي تتزايد في رأسه كل يوم يضع الحلاق أثناء العملية إبرا من الخشب فتخلف خروقا منها يمكن للرجل أن يحك رأسه بعصي مثلها. وأصعب ما يعانيه الشخص من شعره ليلا إذ ينام على قطعة من خشب يرفعها حاملان وهو لا ينجو من هذا العذاب ولا من عذاب القمل الا إذا مات أحد أفراد العائلة، فعندئذ يجب حلق الرأس وتركها حتى ينمو الشعر ويستأنف تعهده من جديد.
ومما يعانيه شبانهم الاختبار الذي يجوزونه كي يحوزوا لقب المقاتلة في سن الخامسة عشرة فتصحب كل واحد منهم خليلته ويذهب الجميع إلى ضفة النهر، وتمسك كل خليلة برأس صاحبها وتميلها نحو النهر وتأخذ في تشجيعه على أن يحتمل ما سيحل به من ألم. وسرعان ما يجيء طبيب ويشق جبهة الغلام بمدية حادة فلا يجرؤ واحد أن يتأوه وإلا كان خزيا كبيرا، وبعد ذلك تغسل الفتاة الدم في النهر وتنتهي الحفلة. وكل صبية هذا الجيل يلقبون باسم حيوان معين يتخذ شعارهم كالأسد أو الأفعى وما إليها. وكثيرا ما تقطع المدية شريانا فيموت الصبي من كثرة ما يفقده من الدم، والذي يعيش منهم يصبح مساهما في بقر القبيلة ويخول له الحق في الاشتراك في الرقص العام وينظر إليه الجميع نظرهم إلى الرجال. قبيل اجتياز هذا الاختبار يعتبرون أطفالا مفتقرين إلى حماية الرجال وينامون في أكواخ الخدم.
والشلوك أهل مياه وانهار لا عمل لهم سوى الرعي وصيد حيوان السمك فهم يسيرون في المياه بسرعة مدهشة حتى ولو غاصوا فيها إلى أكتافهم. ولا يذبحون ماشيتهم قط بل يستمدون منها اللبن. وبعد ذلك تستخدم بدل النقود في المبادلة وهي لديهم مقدسة ويبتاعون من النوبيين شمالهم الفول السوداني وهو غذاء رئيسي عندهم وقلما يزرعون شيئا، اللهم إلا بعض الذرة والطباق فهم كسالى. وكل عائلة تحل كوخين أو ثلاثة يحوطها سور في جانبه الداخلي إسطبل. البيوت نظيفة تحوي ثلاثة أكواخ واحد للزوج وزوجه والثاني للطبخ والثالث للخدم والأولاد. وأحب مشروباتهم المريسة وزوارقهم جذور منقورة من نخيل، أو أعواد توثق في شكل مجوف يحمله الرجل إذا شاء. والشلوك إذا صادوا فرس الماء حفظوا لحمه لوقت الحفلات، وإذا صاد أحدهم فرسا بدون مساعدة غيره لبس سوارا من عاج حول ذراعه. وكثيرا ما يهاجمهم وحش كالأسد والفهد فيرديه الواحد منهم بحربته وعندئذ يأخذ جلده ليحفظه ويلبسه في الحفلات ليدل على بسالته.
والشلوك يعيشون في قرى مكتظة عكس أمم الباري والنوير الذين لا تزيد مجموعتهم على عائلة واحدة، فالشلوك لهم نظام عائلي وثيق وقانون موحد لذلك قلما تقتتل شيعهم وكثيرا ما يستعملون السم الذي يلطخون به سهامهم في قتل الغير. وملكهم لا يذوق طعاما ولا شرابا إلا بعد أن يتناول من أحد تابعيه قبلة. أما زينتهم فعقود من خرز ملون تلبس صفوفا بعضها فوق بعض وقد تغطي الرقبة كلها وقسما من الصدر، وهي دليل الغنى والجاه ويلبسها الرجال أيضا. واللون الأزرق عندهم بشير الحظ السعيد لذلك يلبسه الأطفال فكلما كثر الخرز دل على جاه أبويه. وبعض الشبان يلبسون سوارا في الساعد والعقب، وهذا يدل على أنهم قتلوا من الحيوان أسداً أو فهدا أو فيلا. والطبخ والزراعة أو الخزف والمريسة وحمل المياه من عمل النساء. أما الرجال فلا يصح لهم أن يقوموا بهذه الأعمال المهينة إلا إذا طعنوا في السن. ولعمل المريسة يوضع بعض الذرة في سلة مع مسحوق من روث البقر والثرى وكلها توضع في ماء راكد لمدة أسبوع حتى تتخمر، ثم تنقل إلى جرة من فخار وتغلى في الماء ويؤخذ السائل العلوي ويبرد ثم يشرب، وكلما نضبت أضيف الماء إليها وأعيد غليها وهكذا وهذا الخمر قوي مسكر.
ويخال بعض الناس خطأ أن اللحم أهم غذاء لديهم على أنهم لا يأكلون إلا لحوم السمك وأفراس الماء، أما لحوم البقر فلا تؤكل إلا في الحفلات. ومن أطعمتهم المحبوبة خليط من مسحوق الفول السوداني والذرة والسمك النيئ تطهى في جرة من فخار، وكذلك لحم فرس الماء يمزج بالفول السوداني وعشب اسمه صفصاف. وتكثر حفلات الرقص بعد شرب المريسة في الليالي القمرية خصوصا ليلة البدر وكلهم يرقصون والحراب في أيديهم، وقد لعب الخمر بلبهم ويقرع القوم طبولهم المزعجة وسط القرية التي تتجمع بيوتها في شكل دائرة تتوسطها ردهة فسيحة والطبول تقرع من وسطها في باكورة الصباح إعلانا للناس بأن حفلة الرقص ستقام الليلة. وكلما اختلفت قرعات الطبول اختلفت حركات الرقص ودلت على الغرض منه أهو للمطر أم الحرب أم الدين أم الفتيات أم الموت ورقصة الفتيات تبدأ بعد بزوغ القمر مباشرة والغرض منها تعارف الفتيان بالفتيات إذ ترى الفتيان قبل الغروب مرحين انتظارا لملاقاة فتياتهم ويصرفون زهاء الساعة في تعهد شعورهم ولبس جلود القطط والأنمار والتحلي بصنوف لا تحصى من الخرز والودع وما إليها. وقبيل الغروب تفد الجماهير شبانا وشيبا وتصف جرار المريسة بحجومها الكبيرة وسط الدائرة والى جانبها أطباق من الذرة واللحم نصف المطبوخ، فإذا ظهر النور بدأ المسنون من النساء والرجال في دائرة ومن داخلها جماهير الشباب من الجنسين ويظلون مرحين يتحادثون حتى يقبل الزعيم ومن خلفه اتباعه يحملون الطبول وأدوات الموسيقى فينصت الجمع ويتداخل الفتيان والفتيات في صفين ثم تعزف الموسيقى والطبول وبين أن وآخر يرتل الكل أغنية. وما تكاد تنتهي حتى يعلو قرع الطبل وتموج صفوفهم وبيدهم الحراب التي تتلألأ في ضوء القمر. ثم يسرع أحدهم إلى الوسط مخترقاً صفوف الشابات والشباب وهناك يتمايل ويهاجم كأنه يصارع وحشاً ثم يعاد الغناء ثانية، وبعد ساعة على تلك الحال يشرب الكل المريسة، ويبدو صف آخر من الراقصين بعد انسحاب الأول الذي يظل عاكفا على جرار المريسة يرتشف منها ما يشاء، وأخيراً يختلف الكل في الرقص تاركين الحراب ويتقدم كل شاب في صف الشبان إلى فتاة في صف الفتيات وترفع السواعد بمحاذاة الأكتاف ويقفز كل زوج قفزات منظمة لكن دون أن يلمس الفتى خليلته والفتيات يظهرن دلالهن ويحاولن أسر الرجال واستمالتهم بما يفوق ما تأتيه المرأة الغربية، فهي مثلا تبرز ثدييها بين آن وآخر ثم ترفع عنهما قطعة القماش المهفهفة ثم تعيدها وكثيرا ما يفعل ذلك أمام القاضي في المحاكم فتؤثر فيه وما يكاد الليل ينتصف حتى تكون المريسة قد أخذت بلبهم فيختفي الحابل بالنابل وبمجرد انسحاب الزعماء والمتقدمين في السن يأتي الشبان والشابات بما لا يتصوره العقل بل وبما يستنكره الخلق الفاضل القويم.
الزواج: ولا تتزوج الفتاة قبل الخامسة عشرة وبفضل رقصة الفتيات يمكنها أن تتعرف بالكثير من الفتيان، والزوجة يمكن شراؤها بالقطعان، وللرجل شراء ما استطاع من الزوجات. لأن ذلك دليل الجاه والغنى، وقبل أن تتم صفقة الشراء هذه يجب أن توافق هي على هذا الزوج وفي العادة تكون قد رغبت فيه أبان حفلات الرقص، وهي تحب أن يكون غنيا بقطعانه ومزارعه، والعجيب أن الفتاة تؤثر الزوج الذي يستطيع بماله أن يشتري زوجات كثيرات غيرها. وقبل إتمام الزواج تقدم الهدايا (الشبكة) كعشر من المعزى وثلاث من الحراب وعشرين خطافا للصيد (سنارة) وما إليها. وخلال تلك الفترة يبدأ التعارف بينهما (نظام شبيه بنظام الغرب) ففي حفلة الرقص يقود الأخ أخته إلى حلقة الرقص والخجل يبدو على وجهها وهناك يسألها زعيم القبيلة أن تعترف بجميع علاقات الحب التي حصلت مع فتيان آخرين من قبل وهي تخشى ألا تقول الصدق لأن الأخبار كلها تصل الزعيم أولا بأول. وبعد تلك المداولات بين الزعماء والعروس تقرع الطبول فينصت الجميع وهنا تكرر الفتاة ذكر أسماء الفتيان الذين أحبوها من قبل فيحضر كل منهم إلى وسط الدائرة ويحكم عليه من الماشية والأغنام ومتى جمعت تلك القطعان قدمت كلها مهراً للزوج، أما الفتاة فلا عقاب عليها متى صدقت في الاعتراف ومتى أقر الزعماء ذلك ولا عار على الفريقين من ذلك فالاعتراف من جانب الفتاة والغرامة من جانب الفتى عقاب كاف وترضية حسنة. والظاهر أن هذا التصرف لا يرمي إلى منع الفساد الخلقي بقدر ما يرمي إلى تزويد الزوجين بالمال والمتفرجين بالطعام والشراب والرقص.
وعند ميلاد غلام تقدم الهدايا للأب من قطعان يربو عددها بالتوالد حتى إذا ما أضحي الطفل رجلاً قدمت له بعد أن يجوز (حفلة الرجال)، وإذا مات أحدهم دفنت الجثة أمام الكوخ الذي كان يقطنه ويلف الجسم في أفخر ما كان لديه من ثياب أن وجدت والى جانب الأسلحة وأدوات الطبخ وكل ما يلزم للحياة الأخرى ما عدا أدوات الزينة. والجسم يمد في القبر على ظهره وتوضع تحت الرأس وسادة من خشب للرجال ومن قش للنساء والأطفال. وإذا مات الزعيم دفن داخل باب كوخه وأغلق سنة كاملة، بعدها يهدم. وعند دفن الميت تقام حفلة (رقص الموتى) فيجتمع الأهل وقد لطخوا جسومهم برماد من حرق روث البقر ويولول الجميع وفق قرعات الطبول البطيئة ويمثل الراقصون ما يدل على شجاعة المتوفى وفضله ويقدم الناس لأهله الطعام والشراب وتستهلك مقادير عظيمة من المريسة وقبل شروق شمس اليوم التالي ينسى الحزن بتاتا.
وفي رقصة الموت يمثلون موقعة يؤخذ فيها النساء والأطفال والماشية أسرى وهذه الرقصة تقدم في أي وقت من النهار بمجرد سماع القوم لقرع الطبول نداء لها فيتزين كل بما لديه من أدوات البسالة من ريش وجلود وحراب وما إليها ويتقدم المقاتلون ذهابا وجيئة ويضربون الأرض برجولهم وحرابهم التي كثيرا ما تنثني أو تتكسر ثم يهاجمون الأكواخ التي فيها أسرارهم ويسوقونهم فيها بشراسة زائدة وسط تهليل يصم الآذان مسرعين نحو الزعيم والدماء تسيل من الجروح التي تخدش بها وجوههم وجسومهم ثم يتقدم الطبيب بعد فيضمدها بعصير بعض الأعشاب.
وإذا قام نزاع بين قبيلتين أدى إلى قتال عنيف ولا تتنازل إحداهما عن الأخذ بالثأر إلا إذا تساوى عدد الضحايا من الفريقين ولا يمكن لأية قوة مقاومتهم لأنهم يلجأون إلى صيد الناس بسهامهم المسمومة.
تاريخهم: ويرجح بعض الكاشفين أنهم وفدوا من منطقة البحيرات ولم يحلوا مكانهم هذا إلا منذ أربعة قرون. وفي سنة 1504 غزوا سنار لكن غزاهم البقارة سنة 1861 وفي 1874 ثاروا على الحكومة المصرية في السودان وفي 1890 خلال ثورة المهدي ثاروا ضد تجار الرقيق من العرب والدراويش لكنهم هزموا وسيق عدد كبير منهم إلى أم درمان ولهذا السبب تجدهم يبغضون العرب، ويظهر أنهم يمتون بصلة إلى الدنكا وبعض قبائل البحيرات مثل (كافروندو) لتقارب لغاتهم وبعض عاداتهم.
الدين: ولهم إله اسمه (فوك قادر ومسيطر خلق كل شيء إلا أنهم خاضعون لما يسمونه نيكوانج وهو خليط من الوثنية وعادت الأجداد والأرواح، فهم يرون أن أول جد لهم هو نيكوانج الذي يعمل وسيطا بينهم وبين الإله الأعظم الذي لا يدركه أحد وهو (فوك) فهم يقولون في وقت الضيق (أن فوك قد غضب علينا) ويصلون لنيكوانج للشفاعة وروح هذا تحل كل ملوكهم ويرون أن روح الموتى تزورهم في المنام وتؤثر على حياة الأطفال، وهم يتخيلون الله دوامة هوائية تنتابهم كثيرا وتحمل الرماد عقب إحراق العشب في عمد سوداء عالية، ويقولون بأن الله أسود اللون لأنه لا يرى ويسكن الظلام، وإذا مات الإنسان عاد إلى ربه، وعند الصلاة يقول الشلوك: يا إلهي اتركنا وحدنا ننجو فأنت عظيم، لا يمكن لأحد أن يتكلم معك أنت الله ومن تقتل منا يموت. أنت مقر روحنا فاتركنا ننجو، والباقون يستمعون وهم منصتون وحرابهم في أيديهم بعضهم واقف والبعض راكع. ولتقريب فكرة الآلهة من الناس يفترضون له وكيلا شبيها بالإنسان هو نيكوانج. يتوسلون إليه قائلين: نيكوانج قد أعطاك الله الأرض فاحكم الشلوك وارج لنا ربك يجعل البقرة التي سنذبحها قربانا مقبولاً لديه، ثم يقتلون البقرة ويغسلون دم الحربة بالماء ويخلطون هذا الماء بالروث الذي يخرجونه من أحشائها ويرشونه على الناس جميعا. ورأيهم في الخلق يتلخص في أن الله هو الخالق، خلق طبقتين مسطحتين: العليا وهي السماء والسفلى وهي الأرض ثم خلق النبات والشجر. وأول حيوان ظهر الجاموس ثم الإنسان وكلم الله الجاموسة قائلا: تعالي غداً أعطك حربة. فسمع الإنسان ذلك وذهب خلسة لما خيم الظلام فلم يره الله فتقدم وهو يمشي على أربع وينفر كأنه الجاموس فقال الله من هذا؟ فأجاب أنا من له قرون متجهة إلى الوراء فجزع الله وأعطاه الحربة ولما جاءت الجاموسة تخور قال الله ألست أنت التي أخذت السلاح مني؟ قالت لا بل الإنسان فأعطاها قرونها وأهاجها على الإنسان أنى لاقته.
ولما خلق الإنسان كان أحمر اللون لأنه شغل من طين النهر ثم ذهب إلى التربة السوداء وخلق الجنس الأسود ولما انتهى خلقه فرك يديه فسقط الطين منها فتاتا هو القمل الذي التصق بشعر الإنسان وضايقه ولذلك اخترع له الله الموس للتخلص منه. وفريق منهم يرى أن الله أمر زوجته فولدت توأمين أسود وأبيض وكانت تحب الأسود وتبغض الأبيض وأمر الله بتربيتهما. وحدث مرة أن مد الأب رجله وأمر أن يلعقها الولدان فخضع الأبيض لأنه عبد وأبى الأسود فأحب الله لذلك الأبيض وحاباه وقال لزوجه إن ابني هو هذا وسأملكه على الأسود يبيع فيه ويشتري وسأمده بالأسلحة التي تسوده على كل شيء.
والطبقة الأرستقراطية تشمل أو وأولاده نيارت وأحفاده ني آريت - وأحفاد أحفاده كواني آريت وهؤلاء فقط هم وارثو الملك أما العائلات المتفرعة عن الملوك الأقدمين فتسمى أورورو ولهم نفوذ عظيم. إلى هؤلاء طبقة قوية وهم أطباء السحر تتمثل فيهم قوة القسس والأطباء وام نيكوانج يسمى كي يا تتمثل في التمساح ولذلك قدسوه وفي كل قرية هيكل لنيكوانج وهو كوخ باسق حوله كوخان عاليان يزين أعلاها حراب بيض النعام وذلك لأن نيكوانج وفد من الصحراء يمتطي نعامة. وإذا مات الملك تزوج صغار زوجاته من بعض أقربائه أما الطاعنات في السن فيصبحن خفر المعابد وبنات الزعماء هن بنات نيكوانج وعند زواجهم تقدم الضحايا لزوجة نيكوانج الكامنة في بطن التمساح فيؤخذ عنز ويذبح على حافة نهر. وعجيب أن تفد التماسيح لأكل الدم أما اللحم فيرسل لحارسات المعابد وهم إذا رأوا دوامة ترابية سجدوا لها لظنهم أن الله (فوك) يسير مختبئا فيها وهذه العواصف تكثر في شهور الجفاف خصوصا بعد اشتعال النار الذي يكثر عندئذ في العشب والغابات.
وإذا تخلف المطر أقاموا رقصته لمدة ثلاث ليال أو أربع حول معبد نيكوانج عند الغروب وهذه هي الرقصة الوحيدة التي يلبسون لها الأردية. والعادة أن ينتظر الزعيم كوجور بعد الجفاف متحينا فرصة يرجح نزول المطر فيها ثم يقرع الطبول للرقص ويصلون وهم وقوف وجوههم إلى السماء في غير حراك ساعات طويلة وكلهم أيمان بأن المطر سينزل سراعاً وفي داخل المعابد ترى مذبحا للضحايا من الغنم يقام من الخشب وترى فوقه بعض الطعام والمريسة يقدمها كل من أراد التقرب من الوسيط نيكوانج.
حفلة تتويج الملك: والملك ينتخبه زعماء القبيلة من أفراد العائلة المالكة، وفي يوم التتويج يفد من فاشودة إلى الضفة الجنوبية لنهرهم المقدس تحوطه مجامع الحرس بحرابهم ويجتمع أهل القبائل بجيوشهم سائرين من القرى نحو أسبوعين على الأقدام. ويجب أن لا يتخلف أحد الزعماء ويلبس الملك جلبابا مخططا وحزاما مزدوج اللون الأزرق والأحمر وطربوشا أحمر قانيا وهو شعار الملكية ثم يركب حماراً ويظهر على ضفة النهر يحوطه الجند من العمالقة وعليهم الجلباب الأحمر فيحيي الجماهير الملك بحرابهم المرفوعة حتى يجلس على جلد نمر ويقدم أهل كاكا أقصى بلاد الشلوك شمالاً عجلا أبيض ويقدم أهل تونجا أقصى بلادهم جنوبا فتاة صغيرة. والبلاد يقسمها النهر المعدني قسمين جار ولواك ولكل منها زعيم وتحت هذين زعماء القرى فيتقدم أهل الشمال بالثور إلى النهر في مواجهة الملك ويهجم زعيمهم فيخترق الثور بحربته ثم تتبعه سهام الناس من كل جانب فيسقط الثور ويسيل الدم إلى النهر ثم يتقدم زعيم الجنوب إلى الملك وبيده الفتاة عارية فيستلمها الملك ويصيح الكل قائلين (أيوه! أيوه!) وعندئذ يمكن لأهل الشمال أن يتخطوا النهر إلى الضفة الجنوبية. ويبدأ التتويج بأن يغسل الملك بالماء الساخن ثم بالماء البارد لكي لا تؤذيه تقلبات الجو حراً وبرداً ثم يعامل بخشونة وقسوة من الجميع وعليه أن يطيع ويخضع لكي يتعلم التواضع ثم يركع له الجميع إجلالا لأنه ابن نيكوانج ثم يلبسونه خفاً في قدميه من جلد فرس الماء الغفل الخشن ليمضي به على مضض فيفهم معنى الفقر والتقشف ثم يقدم له الخدم بعض لحم الغزال وفرس الماء إشارة إلى توافر اللحم والقناعة في أكله ثم تقدم المريسة بمقادير كبيرة لكن عليه أن لا يسرف في شربها ليدلهم على أنه قنوع ثم يجري إليه ثلاثة شبان بحرابهم تصوب إلى صدورهم فيدفعها الملك بيده إلى تلك الصدور حتى تدمى دلالة على أنه سيحكم حكما صارماً لكنه في عدل ورحمة. وأخيراً يقف الملك ويخاطب الزعماء ثم يتقدم منثنيا فيركع الجميع إجلالا (وهذا ما يفعله القوم دائما كلما رأوا الملك) وهو يتكلم في تؤدة ووقار فيجيب القوم بصيحاتهم (أيوه! أيوه!) كلما فاه بعبارة واحدة.