مجلة الرسالة/العدد 2/النقد
→ اشتراك الفتاة في الحياة العملية | لاتينيون وسكسونيون النقد [[مؤلف:|]] |
الشلوك ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1933 |
لاتينيون وسكسونيون
أترضى أم نسخط حين تعنى الصحف السيارة بالأدب والنقد وحين تتفق مع كبار الأدباء والنقاد على أن يحرروا لها ما تحتاج إليه من الفصول فيهما؟ في ذلك ما يدعو إلى الرضى من غير شك فهذه الصحف السيارة منتشرة وهي اشد إنتشاراً من الكتب وأدنى إلى نفوس الناس وعقولهم والى عيونهم وآذانهم من المحاضرات والأحاديث فهي إذا تخدم الأدب والنقد حين تذيع رسالتهما في اكثر عدد ممكن من الناس، وهي إذا تخدم الناس حين تنشر فيهم الثقافة الأدبية وترفع دهماءهم إلى حيث يستطيعون أن يروا ويذوقوا جمال الأدب الرائع وآيات الفن الرفيع. وهي لهذا وذاك تخدم الأدباء والنقاد أنفسهم لأنها تعرفهم إلى اكبر عدد ممكن من الناس في أقطار مختلفة من الأرض فترفع ذكرهم وتعلي قدرهم وتنشر دعوتهم وتكسب لهم الأنصار والمؤيدين وهي بعد هذا كله وقبل هذا كله تخدم نفسها حين تستعين بالأدباء والنقاد على كسب القراء وتستعين برضى القراء على احتكار الأدباء والنقاد. كل هذا حق ولكن هناك حقا آخر يظهر أن ليس من سبيل إلى الشك فيه وهو أن عناية الصحف السيارة بالأدب والنقد لا تخلو من ضرر، ومن ضرر قد لا يكون قليلا. فالأدب والنقد في حاجة إلى الأناة والروية وإمعان التدبر وإطالة التفكير فإذا لم يظفر الأدب والنقد بهذا كله فهما عرضة للضعف والفتور وهما عرضة للتقصير والقصور وهما عرضة لتجاوز الحق والتورط في الباطل وهما عرضة لهذا كله للإساءة إلى أنفسهما وللإساءة إلى الأدباء وللإساءة إلى القراء أنفسهم. فإنما يكون الخير في نشر الأدب والنقد إذا نشرا على وجههما جميلين رفيعين منصفين متبرئين من هذه العيوب التي تفسد جمال الفنون العليا. وأظنك لا تخالفني في أن حياة الصحف السيارة وضروراتها وحاجتها القاهرة إلى أن تظهر في نظام وتصدر في وقت معين وتعطي قراءها ما تعودت أن تعطيهم في كل يوم أبعد الأشياء عن ملاءمة ما يحتاج إليه الأدب والنقد من الأناة والروية ومن التدبر وإطالة التفكير. ولعلك قرأت في بعض الكتب التي قصت علينا حياة أناتول فرانس وفصلت لنا بعد موته أطرافا من سيرته وأطواره في حياته الأدبية أنه شقي بهذا ثم تعوده فسخر منه وازدرى الصحف والأدب والقراء ونفسه أيضاً وعبث بهذا كله. فكان في بعض الأحي من اقل الناس عناية بما يكتب للصحف وتحريا فيه للحق ولا سيما حين كان يكتب لبعض الصحف الأجنبية فكان يلفق لهذه الصحف أي شيء ويضع اسمه في آخره ويأخذ أجره على هذا التلفيق ساخرا بالصحيفة وقرائها معتزاً باسمه منتفعاً بما يقع في يده من المال كل شهر أو كل أسبوع.
ويعظم على الأدب والنقد خطر ما تحتاج إليه الصحف السيارة من السرعة والنظام حين لا يكون الأدباء الذين يكتبون لها في الأدب والنقد مقصورين على أدبهم ونقدهم بل تضطرهم ظروف الحياة العامة والخاصة إلى أن يتجاوزوهما فيكتبوا في السياسة أيضا. فهذه السياسة على أنها من حيث هي شر على الأدب لأنها تستغرق من جهد الأديب وميوله وعواطفه مقداراً عظيما كان ينبغي أن يخلص للأدب، يشتد شرها ويعظم لأنها تتأثر هي أيضا بحاجة الصحف إلى النظام والسرعة وبطروء الأحداث السياسية وتطورها واضطرار الكاتب إلى أن يتبع هذا التطور ويسايره ويكتب في ألوانه المختلفة. فإذا أضفت إلى هذا كله أن للأديب أو الناقد حياته الخاصة بقسميها المادي والمعنوي وحياته الاجتماعية التي تضطره إلى أن يستقبل ويزور ويجامل ويتقبل المجاملة، عرفت مقدار الجهد الضئيل الذي تظفر به فصول الأدب والنقد في الصحف من الأدباء والنقاد.
خطرت لي كل هذه الخواطر حين قرأت فصلا قيما نشرته جريدة الجهاد الغراء لصديقي الأستاذ عباس محمود العقاد صباح الثلاثاء 17 يناير.
أراد الأستاذ العقاد أن ينقد كتاب الأستاذ أنطون الجميل في شوقي شاعر الأمراء. ولم أكن أشك في أن الأستاذ سيشتد على الكتاب ومؤلفه وعلى شوقي أيضا. فمذهب الأستاذ في الأدب العصري معروف واقل ما يوصف به أنه بعيد كل البعد عن الإعجاب بشعر شوقي وعن الإقرار للذين يعجبون بهذا الشعر. وقد أشارك الأستاذ في كثير جدا من آرائه في شوقي والمعجبين بهما. ولكن الشيء الذي أخالف فيه الأستاذ اشد الخلاف والذي أكتب من اجله هذا الفصل هو هذه المقدمة التي بسطها بين يدي نقده لكتاب الأستاذ أنطون الجميل. وعرض فيها لما سماه نقد اللاتينيين ونقد السكسونيين. وأحب أن لا يغضب الأستاذ العقاد إذا اصطنعت الصراحة في بسط رأيي في هذا الفصل فلعله يوافقني على أنه في حقيقة الأمر غير راض عن الكتاب ولا مؤمن ولكنه أراد أن يكون ناقدا مجاملا لبقاً فاستعار من اللاتينيين ما يعيبهم به من المجاملة واللباقة في النقد لم يرد أن يصارح الأستاذ أنطون جميل بأن كتابه لا يرضيه من كل وجه لأنه حريص على مقدار ولو محدود من المجاملة بين الزملاء. ولم يرد أن يعيد على الناس حديثه في شوقي وشعره لأن شوقي قد مات منذ وقت قصير والنظم الاجتماعية تقضي بشيء من المجاملة للموتى وللذين رزئوا فيهم أشهراً على اقل تقدير. لم يرد هذا ولا ذاك. ولم يكن يستطيع أن يهمل كتاب الأستاذ أنطون الجميل فضلا عن أن يقرضه تقريضاً خالصاً لأن في هذا أو ذاك ظلماً لرأيه وكتمانا لما يعتقد أنه الحق فسلك في نقده هذه الطريقة الغريبة التي لا تخلو من التواء. اعتذر للأستاذ أنطون الجميل بثقافته اللاتينية وأخذه المذهب اللاتيني في النقد عما تورط فيه من خطأ بين وحكم غير مستقيم على شعر شوقي. ولست ادري أظفر الأستاذ العقاد بإرضاء الأستاذ أنطون الجميل أم لم يظفر؟ أوفق إلى مجاملته أم لم يوفق؟ أوفق إلى مجاملة شوقي والذين رزئوا فيه أم أخطأه هذا التوفيق؟ لست ادري ولكني اعلم علم اليقين أنه ظلم الثقافة اللاتينية وظلم النقد اللاتيني وظلم قراءه جميعا وأظن أن إرضاء الأستاذ أنطون الجميل أو مجاملته أهون على الأستاذ العقاد وأهون على الأستاذ الجميل نفسه من ظلم العلم والأدب والقراء جميعا.
واغرب ما في هذا الفصل الذي كتبه الأستاذ العقاد تناقض لست ادري كيف تورط فيه وهو فيما أعلم من أشد الكتاب المعاصرين في الأدب استقامة في الحكم وإيثارا للقصد وحرصا على الإصابة في التفكير. بدأ الأستاذ فصله بأن من العسير جدا أن يوفق الناس إلى الحق حين يعممون أحكامهم على الأمم والشعوب. وعلل ذلك تعليلا حسنا مستقيما ولكنه لم يلبث أن التمس لنفسه وسيلة للحكم العام على الأمم والشعوب. بل على ما هو أعم من الأمم والشعوب على الأجناس. فزعم أولا أن للاتينيين مذهبا في النقد وان للسكسونيين مذهبا آخر وان هذين المذهبين يختلفان فيما بينهما اشد الاختلاف. وزعم بعد ذلك أن أخص ما يمتاز به المذهب اللاتيني (الأناقة). وأخص ما يمتاز به المذهب السكسوني (البساطة) أو (الفطرة).
وفسر هذا بأنك إذا قرأت الناقد الفرنسي رأيت رجلا أنيقا لبقاً يقدم في أحد الصالونات كاتبه الذي ينقده على الأوضاع الاجتماعية المألوفة مجاملا متكلفا وقد يومئ إيماء خفيفا إلى بعض العيوب ولكن على سبيل النكتة أو على سبيل الحيلة في التماس الدفاع عن هذا الكاتب الذي ينقده أو الرجل الذي يقدمه إلى الصالون. أما الناقد السكسوني فهو لا يحفل بالأوضاع الاجتماعية وإنما يهجم بك فورا على الحياة الفردية، على الحياة الإنسانية، على الرجل من حيث هو رجل لا من حيث هو فرد من جماعة. ومعنى هذا أن نقد اللاتينيين سطحي مخالف لأصول العلم وان نقد السكسونيين هو النقد العلمي الصحيح الذي تجد فيه الفائدة وتجد فيه الغناء. وأنا احب أن يعذرني الأستاذ العقاد إذا قلت له في صراحة أني كنت أنتظر منه كل شيء الا التورط في هذا الخطأ الصارخ والظلم المبين. فليس من الحق بوجه من الوجوه أن الاختلاف بين النقاد اللاتينيين والسكسونيين عظيم إلى هذا الحد الذي يتصوره الأستاذ. فليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني، وإنما هناك نقد فحسب. فقد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية اللاتينية وورثته عنها الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها. فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرأوا آيات البيان اليوناني واللاتيني وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني وكونوا لأنفسهم أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره لأن هذا الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وارستوفان وأفلاطون وسيسيرون وتاسيت ومن إليهم. نعم وهذا النقد الحديث يعتمد على أصول أخرى غير الذوق، أصول تشبه العلم أو تحاول أن تكون علما وضعها أرسططاليس ومن جاء بعده من نقاد اليونان والرومان وسموها علم البيان. يعتمد النقد الحديث عند الأمم الأوربية مهما تختلف أجناسها على هذين الأصلين: الذوق الذي تكونه الثقافة اليونانية اللاتينية، والعلم الذي وضعه أرسططاليس وأصحابه. وللأستاذ أن يدرس على مهل وفي أناة وروية من شاء من النقاد المحدثين في أي أمة من الأمم الأوربية فسيرى أن هؤلاء النقاد جميعا يتفقون في أن نقدهم يقوم على هذين الأصلين اللذين أشرت إليهما. فإذا اختلفوا بعد ذلك فإنما يختلفون في الأشكال والصور باختلاف أمزجتهم الخاصة وباختلاف البيئات التي يعيشون فيها ويكتبون لها.
عسير جدا أن يقال إذا أن هناك نقدا لاتينيا ونقدا سكسونيا وأن هذين النقدين يختلفان في الجوهر والطبيعة، ثم اعتذر إلى الأستاذ بعد هذا من أني لا أستطيع ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يقره على رأيه في النقد اللاتيني، بل أنا لا أقضي العجب من تورط الأستاذ في إعلان هذا الرأي الغريب فليس من الحق أن النقد اللاتيني سطحي وليس من الحق أن هذا النقد يعتمد على الأوضاع الاجتماعية ويهمل الإنسان من حيث هو إنسان. هذا كلام لا يمكن أن يقبل مع أن من الأشياء المقررة التي يتلقاها الشبان في المدارس أن قوام الأدب الفرنسي الكلاسيكي إنما هو بالضبط: إلغاء هذه الفروق والأوضاع الاجتماعية التي تمتاز بها الأمم والشعوب فيما بينها بل التي تمتاز بها البيئات المختلفة في أمة بعينها والاتجاه إلى الإنسان من حيث هو إنسان إلى هذا القدر المشترك بين الناس جميعا من العقل والشعور. على هذه القاعدة يقوم الأدب الفرنسي الكلاسيكي كما يقوم عليه الأدب اليوناني القديم والأدب كله بما فيه من شعر ونثر ونقد، فكيف يقال في أدب يقوم على هذا الأصل أنه سطحي يقوم على الظواهر والأوضاع الاجتماعية.
ولأدع الأدب بمعناه العام ولأتحدث عن النقد وحده ولن أحدث الأستاذ عن نقد بوالو وفولتير وغيرهما من النقاد الذي عاشوا قبل الثورة فان حديث هؤلاء يطول، وإنما أتحدث إلى الأستاذ عن النقد الفرنسي في القرن الماضي، واسأله كيف يستطيع أن يقول أن هذا النقد سطحي يعتمد على (الأناقة) و (اللياقة) والأوضاع الاجتماعية ويهمل الحقيقة الإنسانية البسيطة؟ ألم يقرأ سانت بوف؟ أن قراءة لفصل واحد لهذا الكاتب الذي ملأ الدنيا نقدا لأنه أنفق في النقد صفوة حياته تقنع الأستاذ ومن هو اقل من الأستاذ جدا إلماما بالأدب والنقد بان سانت بوف كان أبعد الناس على أن يكون رجلا من رجال الصالونات يقدم الكتاب والشعراء إلى الناس في أناقة ولباقة وظرف ومجاملة. ولعل الأستاذ يعلم أن أهم ما أخذ به سانت بوف من العيب إنما هو تعمقه أسرار الناس وبحثه عن دخائلهم وتتبعه لحياتهم الفردية فما ينبغي أن يعرف وما ينبغي أن يجهل وعرضه هذا كله على الناس لأنه كان يرى أن فهم الأدب رهين بفهم الشخصية الفردية للأدباء الذين ينتجون. ولو قد وقع شوقي رحمه الله بين يدي سانت بوف كما وقع لمارتين لقرأ الأستاذ العقاد في نقد شوقي صحفا ترضيه كل الرضى وتخالف كل المخالفة ما قرأه الأستاذ في كتاب صديقنا أنطون الجميل. لم يكن سانت بوف رجل صالونات وإنما كان يغشى الصالونات فيرى ما كان يحدث فيها ويتخذه وسيلة لتعرف ما يقع من وراء الأستار.
كان اقل الناس انخداعا بما يتحدث به الأدباء عن أنفسهم وبهذه الصور الخلابة التي يعطونها لحياتهم فيما ينشئون من شعر أو نثر، فكان يبلغ بذلك أقسى القسوة. فليقرأ الأستاذ إن أراد أحاديث الاثنين وليقرأ الصور وليقرأ كتابه عن شاتوبريان وأصحابه وليقرأ كتابه عن بورويال وتين؟ ماذا يقول الأستاذ عنه؟ أكان صاحب أناقة ولباقة واعتماد على الأوضاع الاجتماعية وهو الذي أنفق جهدا عنيفا ليقيم النقد الأدبي على أساس من العلم؟ وقد قرأ الأستاذ من غير شك لا أقول كتبه في نقد الفرنسيين بل أقول كتابه في تاريخ الأدب الإنجليزي.
زعموا أن بشاراً سئل عن جرير والفرزدق أيهما أشعر؟ ففضل حريرا وقال فيما قال أن النوار امرأة الفرزدق فبكاها النائحات برثاء حرير لامرأته:
لولا الحياء لعادني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
فليسمح لي الأستاذ أن اذكره بأن الإنجليز أنفسهم لا يزالون يعتمدون إلى الآن على كتاب تين في تاريخ الآداب الإنجليزية ومع ذلك فليس أدبهم في حاجة إلى من يؤرخه من الأجانب.
وبرونتير ماذا يقول فيه الأستاذ؟ أكان صاحب أناقة ولباقة وظرف وصالونات وهو أقل النقاد الفرنسيين حظا من هذا كله، وهو أول من حاول أن يقيم النقد الأدبي على مذهب دروين في تطور الأنواع وفي النشوء والارتقاء. وأميل فاجبه ولنسون وبيدييه وجول لمتر واناتول فرانس وبول بورجيه وبول سودي والنقاد الذين لا يزالون يملئون الصحف والمجلات الكبرى في فرنسا نقدا في الأدب والفن، ما بال الأستاذ لا يقرؤهم ليتبين أحق أن النقد اللاتيني يعتمد على الأناقة واللباقة والأوضاع الاجتماعية والتماس والنكتة.
لقد فرغت الآن من قراءة فصل للكاتب الفرنسي مارسل دوشومان في مجلة العالمين التي صدرت في أول يناير لو قرأه الأستاذ لعرف أن النقد الفرنسي أبعد ما يكون النقد عن لهو الصالونات وظرفها. في هذا الفصل يحاول الكاتب أن يهدم أسطورة آمن بها الأدباء جميعا عن حياة شاتوريان كانت تصور دعابته ولهوه وكان هو قد انتهى في آخر حياته إلى تصديقها والتخييل إلى الناس أنها قد وقعت بالفعل فإذا الكاتب يثبت بالأدلة القاطعة أن هذه الأسطورة لا تعتمد على أساس ويعتذر إلى القراء لأنه أضاع عليهم قصة غرامية كانوا يجدون فيها لذة وجمالا. كلا ليس النقد اللاتيني سطحيا ولا يستطيع من قرأ منه شيئا ذا بال أن يقول أنه سطحي بل هو مضطر إلى أن يقول مع الكاتب الفرنسي برونتير أن النقد الحديث إنما نشأ ونما آتى أطيب الثمر وأصحه وألذه في فرنسا وفي فرنسا وحدها.
وأنا أحب أن لا يظن الأستاذ العقاد أني أدافع هنا عن الثقافة اللاتينية على حسابات الثقافات الأخرى. فأنا من أشد الناس إكبارا للثقافة السكسونية وإعجابا بما عرفت منها. ولكني كنت وسأظل من أقل الناس حديثا عنها وحكما عليها لأني لا أحسنها وأحب أيضا أن لا يعتقد الأستاذ أني اكتب هذا الفصل متأثرا بالثقافة اللاتينية التي نشأت عليها كما نشأ الأستاذ أنطون الجميل. فالناس جميعا يعلمون أني نشأت على الثقافة العربية الخالصة ولم أتصل بالثقافة الأوربية الا بعد أن تقدم بي الشباب.
إنما هو الحق الذي يجب أن يقال، والعلم الذي يجب أن ينصف والقراء الذين يجب أن نجتهد في أن لا نقدم إليهم الا ما نثق بأنه الحق الذي لا غبار عليه. والحق الذي لا غبار عليه في هذه المسألة هو أن الأستاذ العقاد تعجل وجامل فأخطأ الصواب، وأقام أحسن الدليل على أن التعميم في الأحكام على الشعوب مزلة للأقدام وسبيل إلى الظلم.
أما بعد فأن لي في كتاب الأستاذ أنطون الجميل رأيا أن لم يظهر في هذا العدد فسيظهر في العدد الذي يليه.