مجلة الرسالة/العدد 2/في التلفون
→ الشلوك | مجلة الرسالة - العدد 2 في التلفون [[مؤلف:|]] |
العَالم المسرحيّ والسِّينمائِي ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1933 |
بين بتاح في عهد أحمس بطل استقلال مصر وعبد الجليل أحد
متطوعي القرش.
- ألو! ألو! من أنت؟
- أنا بتاح ومن أنت؟
- أنا عبد الجليل
- في أي مدينة تكون وما جنسيتك.
- أنا في البدرشين، أنا حيث تمثال رمسيس العظيم ملك مصر الفاتح، أنا في منف. . . العاصمة العظيمة التي امتلأت في عهدكم بالحكماء والقضاة ورجال العلم والفن فأين أنت؟
- أنا في نفس المدينة لكن يخيل إلى أن زمن ما يفصلنا. أنه يشبه الجبال العالية والصحارى المديدة الفسيحة. فأية أعجوبة هذه التي جعلت الأرواح تعبر الأزمان لقد أثار إعجابنا عجلاتنا التي تطوي الأرض طياً ولكن ها هو ذا شيء عجيب آخر يطوي الزمن لكن ماذا تفعل في منف.
- أنا أعمل عملا جليلا. لو استطعت أن تمد يدك وراء الأجيال إلى يدي لشعرت بالدم يجري فيها حاراً ملتهباً إن الفرح الذي يملأ نفسي لتتضاءل أمامه كنوز العالم ومفاخره.
- أن الذي تقوله عجيب. . . فأنت تصف ما أحس به تماما. فأني أنتفض سعادة وأني لأشعر أن الدنيا تصغر في عيني أمام هذا المبدأ العظيم الذي تخرج مصر لتحققه. فهل أنتم تفعلون ما فعلناه نحن منذ قرون. ماذا تفعل في منف؟
- أني هنا اجمع القرش
- تجمعون القرش؟ ماذا تعني
- أعني أننا نجمع من كل مصري شيئا يتبرع به. شيئا تافها من ثروته. فإذا جمعنا هذه الثروات الضئيلة جمعنا ثروة ضخمة - وماذا تفعلون بهذه الثروة الضخمة؟ لست أفهمك فلعل الاتصال الذي بني وبينك قد اضطرب، فان عقلي لا يستطيع أن يدرك من الذي يجمع هذه الثروات الصغيرة ولمن يجمعها - ثم لماذا. آه، لعلكم تخشون المجاعة فتجمعون اليوم ما يقيكم شرها غداً وليس هذا شيئا عجيبا. لا يا صديقي لسنا نجمع هذه الثروات الصغيرة لشيء مما يجري في بالك. بل نجمعها لنشيد بها مصانع تخرج لنا ملابس نلبسها ومآكل نأكلها، وأثاثاً نؤثث به بيوتنا.
ولكن من الذي يقوم بهذا الجمع؟ - الشعب، الشبان الذين أنا أحدهم. فأنا أترك العاصمة حيث الراحة والترف والهدوء. لأجوس خلال منف التي أصبحت قرية صغيرة فيصيبني التعب، وألقى أحيانا الأعراض، وأرى غالبا الفقر، فتذهب نفسي حسرات في الحالين ومع ذلك لست أيأس ولا أتقهقر.
- أنه إحساس الأمة، بدأ غامضاً، ثم اتضح شعورا ثم استحال فكرة ثم تجسد عملا.
- لا بد أن تكونوا شعبا ناضجاً جدا. أن القوة التي فيكم هي القوة التي خلقنا بها الفنون وأوجدنا العلم ولكن في نفسي سؤالا يضايقني فدعني أسألك إياه! ماذا كنتم تلبسون قبل هذه المصانع التي تريدون تشييدها. هل كنتم عراة. ثم ماذا كنتم تأكلون. هل كنتم في صوم؟ - لا، لقد كنا نشتري ثيابنا من غيرنا من الدول كذلك كنا نبتاع طعامنا. هل سمعت صرختي التي دوت. لقد أحسست بمثل مروق السهم في جسمي حين سمعتك تفوه بهذه الحقيقة المريرة. لقد شعرت بالألم، حين عرفت أن أحفادنا يعيشون متسولين لا يعرفون كيف يحيكون ثوبهم أو يصنعون طعامهم. . أنتم أهون من العبيد ماذا كنتم تفعلون لو منعوا عنكم الطعام، وحجزوا عنكم الثياب. - اطمئن، اطمئن يا أخي. فمصر اليوم من أولها إلى آخرها في ثورة على هذا الحال الأسود. وهو ينقشع وتبدو من بعد أضواء فجر جميل. فها أنا ذا قلت لك أننا نخرج فنؤسس مصانع تغسل عن كرامتنا هذه الإهانة التي جعلتك تصرخ. ومصر أنت تعرفها تستطيع أن تنتج لأبنائها كل شيء الثياب التي يلبسون، والطعام الذي يأكلون. ولكن أبناء أوروبا القارة التاجرة التي لم تعرفوها، عودونا أطعمة خاصة، وألواناً من الثياب بعينها، فأصبحنا لا نستطيع أن نعيش بدونها فاستوردناها منهم. ثم خلقوا لنا صنوفا من الزينة فاشتريناها منهم ودفعنا ثمنها غالياً. وبذلك تسربت أموالنا إلى جيوبهم.
إن أشد أنواع الاستعباد استعباد الروح والفكرة. ففي بلادنا اليوم أعداء ولكنا لا نحس بهم لأن معتقداتنا ونظام حياتنا وأسلوب تفكيرنا، لم يصلوا إليها ولم يؤثروا عليها. فنحن أحرار ولكنهم هم أنفسهم المستعبدون فقد جاءوا إلى مصر فغيرت عاداتهم وأخلاقهم وجعلتهم أمة جديدة (لعلك أنت في منف لتحارب هؤلاء الأعداء) - نعم، أنا مع مئات الألوف من أبناء مصر كل منا في صدره قلب لو وضعت يدك عليه لأحسست بعالم يهتز ويموج، في أيدينا سهامنا وأقواسنا وهي تشتعل حرارة هي حرارة هذه القلوب. ثم ترتفع من حناجرنا أهازيج هي أهازيج الفوز والانتصار. وأمامنا قائد هو أحمس تحيطه الأفئدة وتجري وراءه الأرواح، وتتابعه العيون. لا يقول شيئا إلا فعلناه ولا يشير بيده إلا أسرع إليه الشباب كله، في جسمه جروح لا تعد وفي جبينه شج هو خير من تاج. سنسير اليوم صفوفاً صفوفاً تحجب كثرتها قرص الشمس، وتسير أقدامنا تطرق الأرض طرقة متسقة موسيقية تطمئن لها الروح فتنشط لها النفس. ثم تتقدمنا العجلات الحربية فيها الشبان الذين كشفت ثيابهم عن أذرعهم القوية الجبارة، وصدورهم التي ترتفع وتنخفض انتظاراً للمعركة التييرتفع فيها اسم مصر، أني سعيد يا أخي، أني سعيد، فدعني أغني وأرقص. فان ساعة الفوز قادمة - ولكن ألا تفكر في أنك قد تموت!
- أموت! ما أبدع وما أروع! وهل ثمة ميتة أعز من هذه الميتة؟ لقد مات في معركة أمس صديق لي فلما اقتربت منه أساعده وجدت شفتيه تضطربان وعليهما بسمة. ثم همس في أذني. . ما أسعدني ليهبك الله شرف هذا الموت!
ولقد أصاب سهم جنب ابن عمي، فذاق عذابا لو نال الأهرام لذابت، ولكنه كان يغمض عينه ويضغط على شفتيه، وتملأ الصفرة صفحة وجهه وهو لا يكاد يئن. أنه يستعذب الألم، أنه يستطيب العذاب، ما دام ذلك من أجل هذا الوطن الذي نعيش فيه. إن مصر لتهب القوة والجلد والصبر. أنها لتخلق من الجبناء الضعفاء مغامرين أقوياء. دعني يا صديقي أغني فان ساعة المعركة قادمة، سنمضي مثلكم في جيوشنا السلمية: صفوف منظمة، أساليب محكمة وأيمان يملأ القلب. كل سنة نشيد مصنعاً تصنع فيه الكرامة المصرية العتيدة سليمة من جديد. وفي كل لحظة نبشر بمصر التي وهبت للدنيا الفن والحكمة، وعلمتها الزراعة والصناعة ورفعت للعالم مشعلا لم يرتفع له منذ آلاف السنين.
سيد فتحي رضوان
سرير رقم 33 المستشفى الإسرائيلي 15 يناير سنة 933