الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 195/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة/العدد 195/هكذا قال زرادشت

بتاريخ: 29 - 03 - 1937


للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

في الجزر السعيدة

ها إن التين يتساقط عن أشجاره عطر النكهة حلو المذاق وقشوره الحمراء تتشقق بسقوطها، وأنا هو ريح الشمال يهب على هذه الأثمار الناضجة. إن تعاليمي تتساقط إليكم أيها الصحاب كمثل هذه الأثمار فتذوقوها الآن عند ظهيرة من أيام الخريف وقد صفت فوقكم السماء.

سرحوا أبصاركم فيما حولكم من خيرات الأرض ثم مدوا بها إلى آفاق البحر البعيد فليس أجمل لمن فاض رزقه من أن يتطلع إلى الأبعاد

لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان الكامل

إن الله افتراض وأنا أريد ألا يذهب بكم الافتراض إلى أبعد مما تفترض إرادتكم المبدعة

أفتستطيعون أن تخلقوا إلهاً؟ إذن أقلعوا عن ذكر الآلهة جميعاً، فليس لكم إلا إيجاد الإنسان الكامل

ولعلكم لن تكونوا بنفسكم هذا الإنسان الكامل ولكن في وسعكم أن تصبحوا آباء وأجداداً له. فليكن هذا التحول خير ما تعملون

إن الله افتراض وأنا أريد ألا يتجاوز بكم الافتراض حدود التصور، فهل تستطيعون أن تتصوروا إلهاً؟ فاعرفوا من هذا أن واجبكم هو طلب الحقيقة فلا تطمحوا إلى ما يبلغه تصور الإنسان وبصره وحسه، فأمسكوا بتصوركم كيلا يتجاوز حدود حواسكم

يتحتم عليكم أن تبدأوا بخلق ما كنتم تسمونه عالماً من قبل فيتكون عالمكم من تفكيركم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون المعرفة. وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟

على من يطلب المعرفة ألا يتورط في ما يرده العقل من المعمي لسوف أفتح لكم قلبي فلا تخفى عنكم خافية فيه، فأقول لكم: لو كان هنالك أرباب أكنت أتحمل ألا أكون رباً؟ إذن ليس في الكون أرباب

لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة، وها هي تستخرجني الآن

إن الله افتراض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا الافتراض من اضطراب دون أن يلاقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النسر تحليقه في أجواز الفضاء؟

إن الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم، فالزمان لدى المؤمن وهم، وكل فان في عينيه بطل وخداع، فهل مثل هذه الأفكار إلا أعاصير تتطاير فيها عظام البشر وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افتراضات يدور المبتلى بها على نفسه كالرحى حتى يموت

أفليس من الشر والافتيات على الإنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحول ولا تغيير؟

إن الرموز وحدها لا تتغير، وطالما كذب الشعراء، غير أن خير ما يضرب من الأمثال ما يصور الحاضر وآتي الزمان فتأتي حجة لكل زائل لا نقضاً له

ليس في غير الإبداع ما ينقذ من الأوجاع ويخفف أثقال الحياة، غير أن ولادة المبدع تستدعي تحولات كثيرة وتستلزم كثيراً من الآلام

أيها المبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير الميتات لتصبحوا مدافعين عن جميع ما يزول

على المبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الولادة الجديدة أن يتذرع بعزم المرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها

لقد اخترقت لي طريقاً في ميتات النفوس والأسرة وأوجاع المخاض غير أنني كثيراً ما نكصت على أعقابي لأنني أعرف ما تقطع الساعات الأخيرة من نياط القلوب.

ولكن ذلك ما تطمح إرادتي المبدعة إليه، وبتعبير أشد صراحة ذلك هو المقصد الذي تريده إرادتي

إن جميع ما في من شعور يتألم مقيداً سجيناً وليس غير إرادتي من بشير يؤذن بالمسرة، ويأتي بالإفراج عن الشعور

إن الإرادة وحدها تتحرر، وما بغير هذه الآية من شرعة صحيحة للإرادة وللحرية، على هذا تقوم تعاليم زارا

بعداً وسحقاً لكل وهن وملال يشل الإرادة ويوقف كل تقدير وإبداع

إن طالب المعرفة يشعر بلذة الإرادة والإيجاد وبلذة استحالة الذات إلى ما تحس به في أعماقها، فإذا انطوى ضميري على الصفاء فما ذلك إلا لاستقرار إرادة الإيجاد فيه. وهذه الإرادة هي ما أهاب بي للابتعاد عن الله وعن الآلهة، إذ لو كان هنالك آلهة لما بقي شيء يمكن خلقه

إن طموح إرادتي إلى الإيجاد يدفعني أبداً نحو الناس اندفاع المطرقة فوق الحجر

أيها الناس إنني ألمح في الحجر تمثالاً كامناً هو مثال الأمثلة أفيجدر أن يبقى ثاوياً في أشد الصخور صلابة وقبحاً

إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاسية على هذا السجن فأرى حجره يتناثر

أريد أن أكمل هذا التمثال، إن طيفاً زارني وألطف الكائنات وأعمقها سكوتاً قد اقتربت مني

لقد تجلى بهاء الإنسان الكامل لعيني في هذا الخيال الطارق فما لي وللآلهة بعد:

هكذا تكلم زارا

الرحماء

لقد، بلغني، أيها الصاحب قول الناس: (أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بين قطيع من الحيوانات)

وكأن أولى بهم أن يقولوا: إن من يطلب المعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات

إن طالب المعرفة يرى الإنسان حيواناً له وجنتان حمراوان ولم يراه هكذا؟ أفليس لأنه كثيراً ما علته حمرة الخجل؟

هذا ما يقوله طالب المعرفة أيها الصحاب: - إن تاريخ الإنسان عار في عار

ولذلك يفرض الرجل النبيل على نفسه ألا يلحق إهانة بأحد لأنه يستحي جميع المتألمين

إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة في رحمتهم، فإذا ما قضي علي بأن أرحم تمنيت أن تجهل رحمتي وألا أبذلها إلا عن كثب. أحب أن أستر وجهي حين إشفاقي وأن أسارع إلى الهرب دون أن أعرف. فتمثلوا بي أيها الصحاب

ليت حظي يسوقني أبداً حيث ألتقي بأمثالكم رجال لا يتألمون وفي طاقتهم أن يشاركوني آمالي وولائمي وملذاتي

لقد قمت بأعمال كثيرة في سبيل المتألمين ولكن كنت أرى أن الأفضل من هذا زيادة معرفتي في تمتعي بسروري. فإن الإنسان لم يسر إلا قليلاً منذ وجوده وما من خطيئة حقيقية إلا هذه الخطيئة

إذا نحن تعلمنا كيف نزيد في مسرتنا فإننا نفقد معرفتنا بالإساءة إلى سوانا وباختراع ما يسبب الآلام

ذلك ما يدعوني إلى غسل يدي إذا أنا مددتها لمتألم، بل وإلى تطهير روحي أيضاً، لأنني أخجل لخجله وتؤلمني مشاهدتي لآلامه ولأنني جرحت معزة نفسه بلا رحمة عندما مددت له يدي

إن عظيم الإحسان لا يولد الامتنان بل يدعو إلى إخماد الحقد، وإذا تغلب تافه الإحسان على النسيان فإنه يصبح دوداً ناهشاً

لا تقبلوا شيئاً دون احتراس، وحكموا تمييزكم عندما تأخذون ذلك ما أشير به على من ليس لهم ما يبذلونه للناس

أما أنا فممن يبذلون العطاء وأحب أن أعطي الأصدقاء كصديق؛ أما الأبعدون فليتقدموا من أنفسهم لاقتطاف الأثمار من دوحتي فليس في إقدامهم على الأخذ ما في قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم

غير أنه من اللازب أن يقطع دابر المتسولين لأن في الجود عليهم من الكدر ما يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم

وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر المضللة فإن تبكيت الضمير يحفز الإنسان إلى النهش وإيقاع الأذى

وشر من كل هذا الأفكار الحقيرة وخير للإنسان أن يسيء عملاً من أن تستولي المسكنة على تفكيره

إنكم تقولون (إن في التفكير الملتوي كثيراً من الاقتصاد في شر الأعمال) وما يستحسن الاقتصاد في مثل هذا

إن لشر العمل أكلاناً والتهاباً وطفحاً كالقروح، فهو حر وصريح لأنه يعلن نفسه داء كما تعلن القروح، في حين أن الفكرة الدنيئة تختفي كالنواحي الفطر وتظل منتشرة حتى تودي بالجسم كله، ومع هذا فإنني أسر في أذن من تملكه الوسواس الخناس: (إن من الخير أن تدع الوسواس يتعاظم فيك لأن أمامك أنت أيضاً سبيلاً يوصلك إلى الاعتلاء)

مما يؤسف له أن يكون جهل بعض الشيء خيراً من إدراك كله؛ غير أن من الناس من يشف حتى تبدو بواطنه، ولكن ذلك لا يبرر طموحنا إلى استكناه مقاصده. ومن الصعب أن نعيش مع الناس مادمنا نستصعب السكوت

إن ظلمنا لا ينزل بمن تنفر منه أذواقنا بل يسقط على من لا يعنينا أمره.

وبالرغم من هذا، إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ لآلامه ولكن لا تبسط له فراشاً وثيراً بل فراشاً خشناً كالذي يتوسده المحاربون وإلا فما أنت مجديه نفعاً

وإذا أساء إليك صديق فقل له: إنني اغتفر لك جنايتك علي ولكن هل يسعني أن أغفر لك ما جنيته على نفسك بما فعلت؟

هكذا يتكلم عظيم الحب، لأنه يتعالى حتى عن المغفرة والإشفاق علينا أن نكبح جماح قلوبنا كيلا تجر عقولنا معها إلى الضلال.

أين تجلى الجنون في الأرض بأشد مما تجلى بين المشفقين؟ بل أي ضرر لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ عن جنون الرحماء؟

ويل لكل محب ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاقهم قال لي الشيطان يوماً: إن للرب جحيماً هو جحيم محبته للناس

وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيراً: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته

احترسوا من الرحمة لأنها لن تلبث حتى تعقد فوق الإنسان غماماً متلبداً: وما أنا بجاهل ما تنذر به الأيام

احفظوا هذه الكلمة أيضاً: - إن المحبة العظمى تتعامى عن رحمتها فإن لها هدفها الأسمى وهو خلق من تحب

- إنني أقف نفسي على حبي، وكذلك يفعل أمثالي: هذا ما يقوله كل مبدع، والمبدعون قساة القلوب.

هكذا تكلم زارا. . .

فليكس فارس