مجلة الرسالة/العدد 195/في طريق الوحدة
→ هكذا قال زرادشت | مجلة الرسالة - العدد 195 في طريق الوحدة [[مؤلف:|]] |
الزهاوي في أوائل أيامه وأواخرها ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1937 |
(محرم) بين السنة والشيعة. . .
للأستاذ حسين مروة
أما أن اليقظة الإسلامية قد غمرت دنيا المسلمين على رحبها - فهو مما لا ريب فيه، وأما أن المصلحين من مختلف الأقوام الإسلامية قد خطوا هذا العام المنصرم إلى الوحدة والتقريب بين القلوب خطوة واسعة مباركة - فهو مما لا يخامرنا فيه أدنى هاجس من الشك، ولسنا اليوم بصدد التدليل على هذا كله، ولسنا كذلك نحاول أن نذهب في تصوير الأمر مذهباً يغشى على الحقيقة فنجني الجناية الكبرى على هذا الأمل المشرق الذي نمشي على هداه إلى المثل الكريم الأعلى الذي ننشده
لقد عمل المصلحون في الآونة الأخيرة كثيراً، واستطاعوا أن ينشئوا خلقاً جديداً في المسلمين، خلقاً يقول، إن حوادث التاريخ إذا استحال أن يتغير مجراها فتنقلب عما وقعت عليه فليس من المستحيل أن نغير نحن مجرى أهوائنا المتدافعة، ونقلب هذه الأفكار السائدة علاقات أهل القران رأساً على عقب أو نستبدل بها خيراً منها، فإذا نحن أمة متكتلة تظلها راية الله العليا، تلك راية الإسلام الحنيف، ولكن هنالك خلفاً آخر في المسلمين لما يزل من خلق الأيام الغابرة السوداء، الأيام التي أخذ الناس فيها بالجانب البغيض من صفحتي التاريخ الإسلامي، وأعرضوا عن الجانب الحبيب الأغر اللامع، وهذا الخلق في المسلمين - وهو كثير وآ أسفاه - يجب على المصلحين أن يرحموه، أن يشفقوا على ذهنيته الضيقة الساذجة فلا يوقرونها بما لا تطيق احتماله وهي على هذا الضيق بفهم الأمور، وأن يأخذوا بيده إلى مشارق النور بهوادة ورفق حتى يلمس الحق هو بنفسه، وأن يتملقوا أحاسيسه المختولة المخمورة بأغنيات التعصب - وناهيك بالتعصب ضارباً على وتر الأحاسيس الواهنة - ولا يحسبن القارئ الكريم أنني أدعو إلى اتباع العامة ومجاراة أهواء الدهماء ونزعاتها الهوجاء، فأنا - شهد الله - من أشد الناس نقمة على جماعة العلماء الذين يتملقون السواد، ويهابون اندفاعات الجماهير، ويسترون - من أجل ذلك - الحق خشية من غضب هؤلاء عليهم، فيقطعون معايشهم ويحطمون عروش أمجادهم، ويؤثرون عرض الحياة الدنيا على أن ينطقوا بكلمة الصدق ويقيموا شعائر الحق. غير أني - على ذلك - أخشى هذ الفريق من رجال السوء الذين يستغلون ذهنية الجماهير لأنفسهم ويسخرونها لأهوائهم، فإذا ما تناسى المصلحون شأن الدهماء، وإذا ما أغمضوا أعينهم عما في نفوسها من حقير العواطف وفي عقولها من ساذج الإدراك، فقد يقوم هذا النفر المستغل يدعو بالويل والثبور، ويرفع عقيرته البغيضة نافخاً في الجماهير روح الفرقة، عاملاً على صدع الصف، ضارباً بآمال المصلحين عرض الأفق فتصبح الآمال الحية أشلاء أباديد، فيجب على القائمين اليوم بأمر الإصلاح - والحال هذه - أن يقيموا الأوزان للجواهر قبل الاعراض، وأن يحفلوا باللباب دون القشور، وأما الأعراض وأما القشور فليس من ضير علينا أن ندع للذين يحفلون بهما أمر ما يحفلون به حتى يتبين لهم أن العرض عرض فينبذونه، وأن القشر قشر فيطرحونه؛ وليس من ضير علينا أن نستكفف شر ذلك النفر العائش على تمليق العامة بأن نحسم بعض القضايا التي يتخذها القوم هؤلاء مطية للغرض الأدنى، ووسيلة لإثارة النعرات المفرقة، وهيج العواطف الحانقة.
وفي طليعة هذه القضايا التي يطل رأسها اليوم - ورجالنا المصلحون يجهدون بجمع الشمل ورأب الصدع - قضية تقف بطائفتي المسلمين. السنة والشيعة على مفترق الطريق - والعياذ بالله - بعد أن كان يغمرنا موج من الفرح لهذه الظاهرات المباركة الطالعة علينا هنا وهناك ببشائر الوحدة الإسلامية المنشودة، ذلك أننا اليوم - حين نكتب هذه الكلمة - نعيش في شهر من الشهور التي تحمل إلينا من ذكريات الماضي البعيد صوراً ذات ألوان مختلفة. وأشكال متباينة في ظاهر الأمر، وإن هي كانت في الجوهر والروح، وفي نظر الذين يزنون الإسلام بميزانه الصحيح متسقة أحسن الاتساق، منسجمة أكمل الانسجام. إننا اليوم في شهر محرم الحرام، وشهر المحرم هذا ذو صفحتين من الذكرى كلتاهما ذات خطر عظيم، وكلتاهما ذات شأن كبير في نفوس المسلمين؛ ففي إحدى صفحتيه يحمل ذكرى هجرة المنقذ الأعظم، رسول الله، محمد بن عبد الله، عليه صلوات من ربه وبركات، ذكرى هجرته إلى يثرب حيث قامت سوق الإسلام وعمرت، وحيث استفاضت أنوار الشريعة الغراء لألآءة الرواء، ضافية البهاء، ثرة الأضواء؛ ويحمل في صفحته الأخرى ذكرى عاشوراء، ذكرى حادثة الطف الدامية حيث استشهد ريحانة رسول الله ﷺ: الحسين بن علي مجاهداً في سبيل الحق، وحيث نجم - لأول مرة - قرن الانقلابات الخطيرة، والثورات الداخلية الجياشة.
هاتان صفحتان من الذكريات الإسلامية ذات الشأن يحملهما شهر المحرم، ويطلع بهما على المسلمين، فتستقبله طائفة من ناحيته الأولى فتجعل يوم مطلعه عيداً ميمون النقيبة، محمود الأثر، أغر الجبين، وتستقبله طائفة من ناحيته الثانية فتجعل يوم استهلاله مأتماً قاتم اللون، أغبر الوجه، دامي القلب؛ وتنظر - من بعد - كل طائفة إلى أختها النظر الشزر، وتتباعد وجهة النظر، وتتسع شقة البين، ويطل النفر المستغل برأسه وينفخ في بوقه؟ وهذا هو الشر المستطير الذي نريد أن نكفكف من عاديته في وجه الحركة الإصلاحية القائمة اليوم، وهذا هو الأمر الجلل الذي نحاول أن يخفف المصلحون من سورته، وهأنذا أضع - في ختام هذه الكلمة - اقتراحاً على رجالنا العاملين في حقل الوحدة الإسلامية، أرجو أن يجدوا فيه حلاً حاسماً لهذه القضية التي يرى القارئ خطورتها. وأرجو إلى إخواننا علماء الأزهر المصلحين أن يقولوا كلمتهم في (الرسالة) الكريمة حول هذا الباب ليرى العالم الإسلامي رأيهم المحترم المرموق بالتقدير:
يجمع المؤرخون - يا سادتي - على أن مقدم الرسول الكريم ﷺ إلى المدينة المنورة كان في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، أي بعد أول المحرم بشهرين واثني عشر يوماً، كما جاء في تاريخ الطبري ج2 ص253 باب (ذكر الوقت الذي عمل فيه التاريخ)، وفي مروج الذهب للمسعودي ج1 ص401، وفي غيرهما من مصادر التاريخ الإسلامي الموثوق بروايتها؛ وتدل الروايات في هذا الباب على أن أول من أمر بالتاريخ في الدولية الإسلامية هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وأنه هو اختار هجرة النبي ﷺ مبدأ للتاريخ الإسلامي، وقال يومئذ كلمته الصادقة الحكيمة حيث جمع الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله، فقال: (لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل)، وتدل هذه الروايات نفسها كذلك أنه هو - عمر - اختار شهر المحرم مبدأ لشهور السنة الهجرية قائلاً أيضاً نبدأ بالمحرم (فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام) والحق فيما قال من هذه الناحية، غير أنني أقول الآن:
مادام قد وقع الاختيار على بدء السنة الهجرية بشهر المحرم لهذا الغرض الذي جاء في كلام الخليفة الثاني الكريم، وجرت على ذلك السيرة في عصور الإسلام جمعاء، فلتبق هذه السيرة مستمرة ولا ضير، ولا نريد أن نبدع بدعاً في هذا، أما ذكرى الهجرة نفسها، الذكرى التي هي لا غير مبعث تقديس المسلمين لرأس السنة الهجرية، وهي التي يحتفلون بها، ويجعلون يومها عيداً كريماً مباركاً - أقول: أما هذه الذكرى نفسها، فليس من غضاضة في أن يكون الاحتفال بها، وأن يكون عيدها الميمون في يومها الذي وقعت فيه الهجرة النبوية الشريفة على التحقيق، في يومها التاريخي الصحيح حيث يكون عيداً للمسلمين كافة: يشتركون بأفراحه، ويتبادلون مظاهر السرور، ومجالي الاغتباط. وإذا ما جاء شهر المحرم - من بعد - اشتركوا جميعاً كذلك في مشاعر الألم، وهواجس الحزن للمأساة الإسلامية الرائعة التي تمثلت في طف كربلاء، وكرموا نبيهم ﷺ بالتأسي به إذ جاء في الأسانيد الصحيحة أنه ﷺ كان يستشعر الحزن في هذا الشهر: شهر المحرم، فنكون بذلك قد وضعنا حجر الزاوية في بناء الوحدة الإسلامية المرجوة، ولا نكون قد فرطنا في شيء من ما جريات التاريخ، ولا نقضنا شعيرة من شعائر السلف أو حرمة من حرمات الإسلام.
فما قولكم يا سادتي؟؟
النجف
حسين مروة