مجلة الرسالة/العدد 195/الأقلام العربية في المهاجر الأمريكية
→ من مشاكلنا الحاضرة | مجلة الرسالة - العدد 195 الأقلام العربية في المهاجر الأمريكية [[مؤلف:|]] |
هكذا قال زرادشت ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1937 |
للأستاذ يوسف البعيني
لا يجهل أحد في مصر وسائر الأقطار العربية تلك النهضة الفكرية الأدبية التي يقوم بها فريق من خيرة كتابنا وراء البحار، فهنالك خطباء وشعراء وكتاب من الطراز الأول يعززون القومية العربية، ويغذون الجاليات بثقافتها وتاريخها وآدابها.
ولدي رسائل عدة من صفوة الكتاب هنالك يحمدون فيها (للرسالة) دعوتها، ويباهون بنهضتها، ويرونها بحق كتاب الشرق الجديد وديوان العرب المشترك.
ومن هؤلاء الكتاب المعجبين بالرسالة عبقري مجدد ملك آداب الفرنجة فاجتذبها إلى بيانه العربي في حين تخطف هذه الآداب عدداً كبيراً من الناشئة حتى في عقر دارنا.
وهذا العبقري هو الأستاذ يوسف البعيني الذي لا تخلو جريدة أو مجلة عربية في شمالي أميركا وجنوبها من بدائعه، وقد رأى أن يرسل إلي القطعة الآتية لتنشر في الرسالة فاتحة لما سيتبعها من رسائل لإخوان لنا وراء البحار من حقهم أن تخصص لهم صفحة في ديوان العرب المشترك.
والى القراء هذه القطعة الرائعة
ف. ف.
حب وغرام
في كتب الحب وقصص الغرام مقاطع مشربة بالعهود، وصفحات مبطنة بالوفاء. فعندما يصغي الشاعر الحساس إلى رنين ألفاظها وهمس معانيها تطفو عليه موجة مترعة باليأس والحنين. وكثيراً ما يشاهد في قرارتها أحلامه المبعثرة بين فجر الماضي ومسائه
ومن يتفهم مرامي تلك الصفحات الغرامية يعلم أن كاتبيها وضعوها لتكون رمزاً إلى العهود على مدى الليالي والأيام. . . وأروع ما في الحياة عندي هي العهود. . أجل العهود التي تعطينا صوراً جلية عن أسرار القلوب وخفايا الأرواح
فإن أكثر الحفارين عندما أرادوا أن يرسموا المثل الأعلى في الحب لم يجدوه إلا في العهود. . . وهكذا أدرك الشعراء أيضاً أن أجمل ما في الشعر صفحة غرامية تعبر عن الوفاء. . . ومتاحف العالم اليوم طافحة بدمى الحفارين. كما أن قصص الشعراء زاخرة بأخبار الحب والغرام. وفي اعتقادي أن الشاعر في صفحاته، والحفار في دماه، إنما كانت بغيتهما تخليد العهود!!
ولكن هل في الحياة حب مغموس بالوفاء، وغرام منحوت من العهود؟ أم هما موجودان فحسب في أحلام الشعراء ودمى الحفارين؟ من يدري. . . وكل ما أعمله هو شاذ عن أفهام الناس وعن أذواقهم
أنا لا أريد أن أبحث عن صحة تلك الأحلام وعن خطأها، ولا أبتغي البحث عن جمال تلك الدمى وعن عللها؛ وإنما أريد أن أتحدث عما فيها من حب وغرام. وهما أقرب إلى العهود منهما إلى شيء آخر
فلقد قرأت في الكتاب الشعري الأنيق - تهاليل الفجر - الذي أخرجه الكاتب المجدد (بيير لويس) موضوعاً شيقاً عن رسائل الراقصة الروسية الساحرة - إيذادورا دونكان - التي كانت ترسلها إلى حبيبها التعس (إيفان بارشوف) عندما بلغها خبر مرضه وأنه يلهج باسمها فوق سرير آلامه. وإني لمورد في ما يلي هاتين الرسالتين المشبعتين بغرام الراقصة الجميلة وحبها المفعم بالوفاء
- 1 -
أيها الحبيب!
إن زهرة مخدعي التي أبقيت على أوراقها ذكراً يهولني مرآها الشاحب الحزين. . . والسراج الأحمر الذي كنت ألمح في نظراته بهجة وإغراء فيما مضى يروعني الآن منه نوره الواجم الضئيل. . . والبلبل الغريد الذي كان ينبّهني إلى اجتناء اللذات يشجوني نفوره المبهم، وصمته العميق!!
إن روحي تريد أن تستهدي إلى قرارها في ليل شوقها وحنينها فيصدها العذاب. . . عذاب فراقك الطويل الذي أورثني ملة خرساء كسكينة القبور
لقد علمت أنك تقاسي من أجلي آلاماً مبرحة. . . فهل عرفت أيها الحبيب أن في قلبي المعذب شجواً محنظلاً أمر من الموت؟
أحياناً. . . تهفو على مخيلتي أحلام ملولة مزعجة. . . أحلام سوداء مخيفة! فأحجب وجهي بكلتا يدي وأغيب في غمرة موجعة متمنية بعدها المنية لأنه لا قدرة لي على استماع أناتك وشكاواك!
أضرع إلى الله أن يرحمني بشفائك. وثق أني سأبقى سجينة مخدعي بعيدة عن خلوات أحلامي متجردة من سروري وابتسامي، هاجرة شعاع القمر الشاهد على أويقات حبنا وغرامنا حتى تعود إلى ذراعي حبيبتك
(إذادورا)
- 2 -
يا معبودي الجميل!
الآن وقد أرخى الليل سدوله على البسيطة مغلقاً بأنامله الناعمة أجفان النيام، تمر بي أشباح خفية هامسة في مسامعي اسم ذلك الحبيب الذي أجرى في أودية قلبي جدولاً لا ينقطع خريره، وغرس في حديقة روحي زهرة معطرة لا تموت.
وعلى هذا النغم الشجي المؤثر الذي تلحنه الظلمة فيردده الدجى باكياً ملتاعاً، أسمع نعيباً منذراً بمأساة مرعبة فأمسي كورقة تهب عليها الرياح السافيات.
لقد مات بيننا الحبيب صباح اليوم! مات ضمن قفصه وهو ينظر إلى الأعالي كأنه يرى بين الغيوم خيالاً عجيباً. فبكيته طويلاً وقلت في نفسي هل مات حبنا المقدس بموت هذا الطائر الصغير!
إن نفسي تنفحها الآن نار متلظية، نار محرقة تضرمها أيد مجهولة؛ فمتى تتحول هذه النفس إلى رماد هامد لا يحس؟ إن النفس التي تحس لهي شقية، إذ تحيا هائمة وراء أحلامها الشاردة. ولن أشعر بالراحة إلا عندما تغمرني بقبلاتك الطائشة
(إيذادورا)
وأذكر أنن عندما قرأت هذه الرسائل - وكلها مطلية بالحب والغرام - استولت علي كآبة خرساء بلا معنى، وأية روح مهما بلغ فهمها لفلسفة الحب لا تشعر بسلطان خفي مجنح يستأثر بها ويحملها إلى أمكنة نائية لا تنطق فيها إلا العهود، ولا يتمايل في أجوائها غير الوفاء إن هذه القبلة الطافية فوق ألفاظ العاشقة الوالهة، وهذا التوق الملح النابض بأسرار قلبها، وهذا الإيمان الثابت القاطن أعشاش صدرها. . . إن كل ذلك هل تحافظ عليه دون خداع في الحب؛ ولنفرض أن حبيبها حجبه الموت بعد حين فهل تبقى وفية له طول أيامها؟
لقد مات - إيفان بارشوف - بعد كتالة هذه الرسائل بثلاثة أسابيع. فلا أذكر إذا كانت الراقصة المغرمة قد تفجعت عليه تفجعها في رسائلها إليه. ولكني أعلم أنها نسيته سريعاً
فإنها لم تبكه بدمعة
ولم تنثر على ضريحه زهرة ولم تذكره بكلمة. . .
ولم تتلهف على أيامه الماضية
بل كانت، بل أن يجف قبره، تعانق حبيباً جديداً لتنسى في دعابه ومزاحه ذلك العاشق المسكين الذي أسكنه الدهر تلك الحفرة الضيقة الباردة ليقضي فيها زمناً مجهولاً غير عالم بما يجري في هذا الوجود
فالوفاء والعهود كلمتان نجدهما في كتب الشعراء وتماثيل الحفارين. أما في هذا العالم فلسنا نجد إلا حباً كاذباً وغراماً سريع الزوال يعقبه دائماً نسيان أبدي على أثر محو القبلة التي تتبادلها الشفاه!
وهناك حب سريع الزوال، فهو وإن مازجته الدموع وأفعمته التنهدات، تمحوه الحياة كما يمحو شعاع الشمس لهاث الطفل العالق على لوح من زجاج
في أواسط الجيل الماضي تحدث الناس عاماً كاملاً عن قصة غرامية جرت حوادثها بين الغادة الحسناء (المدموازيل إلسيت) وبين الشاعر الجميل - شارل هيكو. والذي عجب له الناس كثيراً هو هيام الحسناء بالشاعر الصغير وتفضيلها إياه على كبار رجال باريس الذين غمروها بالذهب والحلي وأحاطوها بكل أسباب الترف والأبهة والكبرياء
وقد أبقى العاشقان رواية يطرب استماعها، ويشوق موضوعها. فإن الحسناء كانت كلفة كثيراً بالشاعر إلى درجة أنها لم تكن تقوى فيها على فراقه ساعة واحدة وفي ذات يوم كحم على العاشق الفتى أن يبرح باريس شهراً على الأقل فلما عاد إلى ذراعيها صدته عنها بحجة أن قبعته المعجب بها ليست ظريفة. وإن الأشعار التي ينشدها إياها مختلسة من دفتر صغير أسود الغلاف يقبع دائماً تحت وسادة والده الشاعر الكبير فيكتور هيكو وهذه الحجة الساخرة بما فيها من ضراوة المرأة المستهترة كثيراً ما تتمثل في الحياة. ولا أشك في أن القراء يجهلون تلك القصة الدامية التي تركها الشاعر الإلهي الساحر - دي موسيه - مع جورج ساند وكيف عبثت بقلبه الرقيق لتتعلق بطبيب إيطالي لأنه لا يهمهم في الظلمة. . . ولا يحب الخمرة. . . مثل موسيه!
لقد يطول بي الحديث إذا أنا مررت بكل ما هنالك من شؤون وعبر. ولكنني مكتف الآن بإيراد لمحة وجيزة عن غرام الشاعر المشهور - شارل بودلير - مع حبيبته المعبودة - جان ديفال - التي ألهمته أشجى أشعار الحب والجمال في كتابه الخالد (أزاهير الشر) وهذه الحبيبة التي عشقها طول حياته كانت سوداء!!
وأعتقد أن الشعراء الساخرين ليضحكون من هيام الشاعر اللطيف بامرأة سوداء. نعم قد يضحكون. . ولكنه الغرام. . . الغرام القاهر الذي يستحوذ على القلب الضعيف فيقيده بالسلاسل ويغله بالأصفاد
وعلى الرغم من شغف الشاعر، ولهفة روحه، وثابت وفائه، فقد خدعته حبيبته الماكرة بعد أن نحت لها من غرامه تمثالاً ومن حبه محراباً للعبادة. ولكن هذا الخداع في الغرام. وهذه الخيانة في الحب أغنيا الأدب الفرنسي لأنهما أفاضا دموع الشاعر وأوقدا نار وجده وحنينه!
أنا لا أريد أن أشجب الحب، وأن أهجو الغرام. كلا ما إلى هذا أذهب. . بل أريد إثبات أنهما موجودان وحسب في كتب الشعراء وتماثيل الحفارين. والشاعر والحفار لا يصوران غالباً إلا كل ما سما في فضاء الأحلام وما تمدد على سرير الشعور والإحساس
الرجل الذي يعتقد خلود الغرام ووفاء الحب هو رجل مسكين يستحق الشفقة. . . إذ لا قبلة يبقى طعمها على الشفاه، ولا وعود تظل محفوظة، ولا ذكرى تحيا في القلوب
وجل ما هنالك حب كاذب وغرام خادع شبيهان بالخطوط التي ترسمها الأمواج على رمال الشاطئ فإذا لم تمحها العاصفة لا تلبث الأمواج أن تمحوها. فالحب الذي لا تبدده الحياة يبدد نفسه بنفسه، والغرام الذي لا يبعثره الموت يبعثر ذاته بذاته
هما حلم يراود الروح في المنام، ولكن اليقظة تشتته ولا تترك منه إلا أثراً دامياً يحنظل الأماني، ويشقي الآمال (البرازيل)
يوسف البعيني