مجلة الرسالة/العدد 187/في الأدب المقارن
→ أنا والأحمر | مجلة الرسالة - العدد 187 في الأدب المقارن [[مؤلف:|]] |
ضوء جديد على مأساة شهيرة ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1937 |
الإنسان
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
إذا ما استقر الإنسان في موطن آمن، وارتقت عقليته، لم يعد يكتفي بتوفير حاجاته الجسدية واتقاء قوارع الطبيعة، بل بدأ يفكر في نفسه ومنشئه وغايته؛ لم يعد يكتفي بقبول الحياة على علاتها ومداراة غوائلها، بل راح يتساءل عن ماهيتها وغايتها وما بعدها، وأجاب عن تساؤله ذاك بما تتيح له عقليته البدائية من تفسيرات فطرية، بعضها صادق وأكثرها وهمي؛ ثم ما يزال كلما ترقى في مدارج الفكر يعاوده الشك من حين إلى حين في تلك التفسيرات، ويثور على عقائده المتوارثة، ويتناولها بالتعديل والتهذيب، فيكون من ذلك الدين والفلسفة
ويشارك الأدب الدين والفلسفة في التعبير عن تأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن نشأته ومصيره، فيحفل الأدب شيئاً فشيئاً بآثار تفكير الإنسان في الحياة والموت، وافتخاره بقوته وسيادته، وجزعه من ضعفه وقصور حيلته، واعتداده بمبتدعاته في مجال العلم والفن والصناعة، وارتياعه من تضاؤل آثاره تلك جميعاً إزاء قوى الطبيعة وأبعاد الكون؛ وتصطبغ تأملاته تلك في عالم الأدب بصبغة البشر والتفاؤل حيناً، وبصبغة التشاؤم والقنوط حينا، حسب ما يسود المجتمع من عوامل الحيوية والثقة بالنفس والإقبال على أسباب المتعة والحبور، أو دواعي الانخذال وسقوط الهمة وفتور العزيمة، وحسب ما يخالج الأديب الفرد من بشر ملازم أو طارئ، وتشاؤم مصاحب أو عارض.
فتأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن مكانه في الكون، واهتمامه الدائب بسبر قواه وامتحان قدرته واستكناه غاياته ومراميه، كل هاتيك من أظهر ميزات المجتمع المتحضر والأدب الحي. وقد كان ذلك الاهتمام الملح بالإنسان: قواه وطباعه ومواطن ضعفه، ومفاخره ومعايبه ومصائره ومطامحه، من أبرز ظواهر الحضارة الإغريقية وخصائص الأدب الإغريقي والفنون الإغريقية، ففيها تنويه بالجمال الإنساني وترنم بالبطولة الإنسانية، وفيها بجانب ذلك عرض لنقائض الإنسان ومغامزه، وفيها إشادة بما تمهد له الحياة من أس المجد والابتداع والتمتع والسرور، وتصوير لما تفرضه عليه من هوان وصغر وقهر وآلام، وما تبسط له من فجاج الحرية وما تكبله به من مشعبات القيود؛ وليست مواضيع الدرامة اليونانية المتعددة في صميمها إلا موضوعاً واحداً: هو اصطدام مطامع الإنسان بصرامة الأقدار
ولحفول الأدب الإغريقي على ذلك النحو بدراسة الإنسان، سميت الآداب الإغريقية أو الكلاسية عامة منذ عهد النهضة الأوربية (بالإنسانيات)، فإن الاطلاع عليها لم يكن كشفاً للعالم القديم فقط، بل كان كشفاً للنفس الإنسانية ذاتها، تلك النفس التي كانت قد أهملت في العصور الوسطى اشد الإهمال، وازدريت شر الازدراء، بتأثير الكنيسة التي ذهبت في تضليل العقول مذهباً بعيداً، فزعمت الإنسان شريراً خاطئاً بالطبع، وعلمت الإنسان أن فيه نزعة من الشيطان، لا يذهب مسها عنهم إلا العصا في الصغر، ودوام التندم والاستغفار في الكبر. وهكذا عكست الكنيسة بجهالتها غاية الدين الذي لم يأت إلا لتوطيد ثقة الإنسان بنفسه وتمكين اعتقاده بحاضره ومستقبله، فلا غرو خمد الأدب في تلك العصور، إذ لا أدب ولا حياة إلا حيث للإنسان ثقة بالإنسان
وقد ورث الأدب الإنجليزي فيما ورث عن الأدب الإغريقي تلك النزعة الإنسانية، وحفل كما حفل أدب اليونان بتمجيد الإنسان من جهة، والأسى لتلاعب الأقدار به من جهة أخرى: فمواضيع روايات شكسبير الكبرى كهملت وعطيل وماكبث هي مواضيع الدرامة اليونانية: فهي تدور حول أبطال أو عظماء نالوا من المجد وشرف المحتد وفضائل الشجاعة والقوة والعقل شأوا عظيماً، ولكن كل مزاياهم تلك تذهب هدراً من جراء مغامز في شخصياتهم تتسلل منها أصابع القدر إلى سعادتهم فتنغصها، وإلى مجدهم فتثله؛ ورواياته بجانب ذلك تعج بشتى الدراسات للطبائع الإنسانية، التي تثير الروعة والإكبار تارة، والشفقة والأسى مرة، والاحتقار والاشمئزاز حيناً، والسخر والضحك طورا.
وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث في الأدب الإنجليزي ألفينا نفس ذلك العراك المستمر بين النفس الإنسانية الجادة في تحقيق مطالبها ومطامحها، وإثبات شأنها وخطرها، وبين القدر الصارم القوانين السادر في جبروته. لم يزد بعد تقدم العلم وتذليل قوى الطبيعة إلا تجسماً واستفحالاً. وقد نقله هاردي من عالم الرواية التمثيلية التي تدور حول الأبطال والملوك، إلى القصة المقروءة التي تدرس المجتمع العادي، وتتناول أوساط الناس ودهماءهم، وليست (تس) الفقيرة إلا نظيرة (أوفيليا) المنعمة، ولا (يهود المغمور) في طموحه إلى القوة إلا قريع (مكبث) المشهور في تطاوله إلى العرش: مطامح إنسانية، وآمال في المتعة والسعادة، وأقدار ماضية تعترضها وتبطش وهي عمياء بطش جبارين
وقد كان الموت ولن يزال عدو الإنسان اللدود، وبلاءه الأكبر، واللغز الأعظم الذي استغلق على فهمه، ووقف له بالمرصاد كأنما يسخر من كل ما يبني وما يجمع، ويتهكم بكل ما يأتي وما يدع، ويقنعه في ذروة نجاحه ومجده وسعادته بعبث سعيه وإدراكه؛ ومن ثم امتلأت الآداب بذكر الموت وصولته وإزرائه بالحياة والاحياء، واتيانه على الجبابرة، وتسويته بين العلية والسوقة، وبين العالم والجاهل، وتمزيقه شمل الألاف، وتعفيته لآثار السرور والفوز بوصل الأحبة، وعبثه بحور العيون وبياض الأجياد والنحور. وقد تفنن الخيام في رباعياته في صوغ هذه المعاني وتحليتها بالصور الفاتنة المنتزعة من الطبيعة ومن الجمال الإنساني، ومن مجالس الصفو والشراب
وبجانب الموت تمثلت الرهبة لعيني الإنسان في مظاهر الطبيعة الرائعة، وقواها المصطرعة، وفجاجها المترامية، ومخلوقاتها المقتتلة في سبيل الغلب والبقاء، وصممها عن آلامه وأشجانه، وغفلتها عن أفراحه وأتراحه، ومضيها على عاداتها حسنت به الحال أو ساءت، وخلودها على رغم فنائه، وطيها جيلاً من الناس بعد جيل؛ فامتلأ الأدب بذكر ذلك كله. ومن جميل أمثلته مقطوعة هوجو (الطبيعة والإنسان) التي يقابل فيها بين شباب الطبيعة وشيخوخته، ونضارتها وجفاف عوده، وبقائها ووشك ذهابه، ويتنبأ بقيام جنازته بين معالم أعيادها، وبمضيه غير ما سوف عليه منها، ولا محسوس فقدانه.
وقد كان شكسبير معنياً بالموت موكلاً بالتفكير فيما بعده، ينطق بذلك أبطاله كهملت، الذي يتأمل في الموت في خلوته، ويؤم المقابر حيث يرى الحفارين يعبثون بالجماجم وحيث يشهد دفن حبيبته في ريعانها. ولا يمل شكسبير ذكر الموت والبلى، حتى في شعره النسيبي، الذي يتسم لذلك بمسحة الحزن والكآبة. ولشيرلي مقطوعة رائعة في الموت سارت بعض أبياتهم مسير الأمثال، وهي تطابق في شتى المواضع معاني رباعيات الخيام. ومن احسن أشعار التأمل في الموت في الإنجليزية قول كيتس، وقد كان لضعف بنيته ما يزال متمثلا شبح الموت: (حينما يخامرني الخوف من أن أقضي قبل أن أجني كل ثمار عقلي الوافرة، وقبل أن تحويها الكتب المكدسة كما تحوي البيادر المحصول الناضج؛ وحينما أشاهد على وجه الليل المرصع بالنجوم رموزاً من الغمائم لرواية تجري في علو، وأذكر أني ربما لا أعيش حتى أرسم ظلاً لها بيد الإلهام السحرية؛ وحينما اشعر يا جميلتي الوشيكة المضي إني لن أراك بعد، ولن أنعم بتلك القوة الساحرة: قوة الحب الأعمى، عند ذلك أقف وحيداً على شاطئ الدنيا الرحيبة، وأفكر حتى يصير الحب والمجد هباء)
وتمثلت رهبة الطبيعة لأدباء الإنجليزية في البحر وهياج أواذيه واصطخاب عواصفه، واطراد ثورته وبعد غوره، ومن روائع آثار الشعراء في هذا الصدد أبيات تنيسون التي نظمها وقد قصد البحر مفكراً مهموماً، يبغي العزاء عن فقد صديق له حميم، ومنها قوله: (تكسر أيها البحر على صخورك الباردة الكالحة، وطوبى لابن الصائد إذ يتصايح هو وأخته لاعبين، وتمضي الجواري المنشآت إلى مرافئها بسفح التل. ولكن من لي أنا بمصافحة تلك اليد التي غابت، وذلك الصوت الذي سكت). واستعار شلي رحب البحر وشدة أسره وصرامة صروفه، للتعبير عن صرامة الزمان وبطشه بالإنسان. قال يخاطب الزمان: (أيها البحر الذي لا يسبر غوره، والذي أمواجه السنون، والذي قد غدت أواذيه أجاجاً من ملح دموع الإنسان، والذي يطوي في مده وجزره أطراف الإنسانية، ويبشم من فرائسه وإن يكن ما يزال يعوي طلباً لسواها فيلفظ بقاياها على شطوطه غير الكريمة ولا الوثيرة)
واسترعت تفكير الأدباء أحوال المجتمعات التي رضيها الإنسان لنفسه مقاماً وما يداخلها من نقائص لا يخلو من بعضها مجتمع أو جيل، وما في بعض أنظمتها من تقييد للحريات وهضم لحقوق بعض الأفراد أو الطبقات، فنددوا بتلك المساوئ ونادى بعضهم بإصلاح تلك المفاسد التي تهبط بالإنسان عن رتبته التي هو جدير بها في الكون، وتعترض سيره إلى ما ينشده من كمال؛ فكان منهم رادة حركات النهوض والإصلاح؛ بل نادى بعضهم بفض المجتمع والعودة إلى الطبيعة. وبمثل تلك الكتابات الاجتماعية تحفل كتابات فلتير وروسو. وقد كانت هذه النزعة ضئيلة المظهر في الآداب القديمة؛ أما في الآداب الحديثة فهي تتعاظم وتشتد جيلا فجيلا. فالنقد الاجتماعي والحض على الإصلاح غرض حديث من أغراض الأدب يضارع غرضه القديم من التعبير عن الجمال والإفصاح عن الشعور الفردي
فالتفكير في شأن الإنسان ماضيه وحاضره ومستقبله من مميزات الإنسان المتحضر المثقف، وهو لا يكف عن هذا التفكير طوال حياته؛ ولا تزال أشباح الماضي والمستقبل والحياة والموت ماثلة أمامه، يكون لنفسه في شأنها فلسفة تختلف عمقاً واتساعاً وإقناعاً، وتختلف في مدى قربها من اليقين والجزم، أو قيامها على الشك والرفض. على إن هذا التفكير الإنساني يفرض نفسه فرضاً شديداً على كل أديب أو كل مثقف أو كل إنسان، في فترة خاصة من فترات حياته، بل أزمة من أزمات وجدانه، يشتد فيها تفكيره في نفسه وبني جنسه، ويحفزه إلى التساؤل والثورة على الحياة الإنسانية حادث نفساني يؤثر فيه أثراً عمقاً: من خيبة أمل أو إخفاق حب أو موت عزيز، فتتسم آثار الأديب في تلك الفترة بالتمرد والتشاؤم والكابة؛ وقد يحاول إصلاح العالم دفعة واحدة ويدعو الناس إلى حياة جديدة تصورها له أحلامه، ثم ما يلبث إن تخلف الحقائق المتحجرة ظنونه وتثبط هياجه وتروض جماحه، فيعدل حياته بما يلائم ظروف الحياة الإنسانية البطيئة التغير الوئيدة الخطى، فتعود آثاره الأدبية مشرقة بالبشر متغنية بمباهج الحياة بدل الإمعان في التفتيش عن معايبها
ولسريان الحياة في دماء الشعب الإنجليزي وغلبة التفاؤل على أمزجة أبنائه، كان أدباؤه إذا راعتهم نقائص الحياة الإنسانية وشرورها، وأحزنهم ضعف الإنسان وشقاؤه، لم يلبثوا إن يتحولوا عن ذلك الجانب الأسود من الصورة إلى جانبها الأبيض، ويطلبوا العزاء بما في الحياة من جمال عما فيها من قبح، فيشيدون بمقدرة الإنسان على الجلاد وبراعته في الابتكار، وبطولته وماضيه الحافل بالعظائم، ويترنمون بمفاتن الطبيعة وما يصيب الإنسان عندها من رخاء بال وراحة نفس، ويطلبون السلوى قبل كل شيء بممارسة فنهم الذي يصور تلك الحياة ويحكيها حكاية تروي من نفوسهم مالا ترويه الحقيقة الواقعة، يصور آلامها تصويراً يخفف تلك الآلام عن نفوسهم، ويحكي مفاتنها ونعمها التي فاتتهم حكاية تشفى صدورهم. فتمثيل الأديب للحياة في فنه يشعره كأنما قد أحاط بتلك الحياة وتمكن من أعنتها، ويكسبه ثقة بنفسه وإيمانا بقدرته على الابتداع والإتيان بجديد من عنده.
فتنيسون حين فقد صديقه الحميم سالف الذكر توفر على إنشاء قصيدة طويلة في ذكراه، ولكنها لم تقتصر على ذكراه بل امتدت إلى شتى نواحي الحياة وشملت نظرته العامة إليها؛ وشكسبير حين مرت به أزمته النفسية الكبرى بإخفاق آماله في الحب والصداقة، نفس عن صدره بمآسيه الكبرى، وفيها لا نرى الإنسان ألعوبة عاجزة في يد الأقدار، بل نرى في آثار بطولته ما يملؤنا روعة ويبقي أمامنا نور الأمل؛ وورد زورث حين تبددت أحلامه في المجتمع الإنساني الفاضل الذي خال الثورة الفرنسية منجلية عنه، مرت به غيمة قنوط عابسة لم يقشعها عنه إلا تعزيه بمحاسن الطبيعة وقضائه الوقت متفيئا ظلالها مصوراً آثارها في شعره. وفي عبادة الجمال الطبيعي والإنسان كان كيتس يجد مفزع روحه مما يتكنفه من بأساء الحياة وما يمض عيشه من فتكات الداء
ومن أبدع الأشعار التي تعرض جانبي الصورة ناصعهما وحالكهما، وتجسم ضعف الإنسان وفناءه، وتمجد قوته وعبقريته، مقطوعة شلي المسماة (أوزيماندياس المصري) وفيها يقول: (قابلت مسافراً من أرض قديمة قال: تقوم في الصحراء ساقان من الحجر ضخمتان عديمتا الجذع، وقد ارتمى بجانبهما وجه مهشم يكاد يغور في الرمال، تنطق تقطيبته وشفته المعوجة كبرياء وعظمة هادئة، بأن المثال قد أجاد قراءة تلك الصفات التي ما تزال حية مطبوعة على ذلك الحطام الجامد، وقد فنيت اليد التي صورتها والقلب الذي غذاها، وقد لاحت على القاعدة هذه الكلمات: اسمي أوزيماندياس، ملك الملوك. انظروا إلى آثاري أيها الجبابرة وأقروا يائسين، وليس بجانب ذلك شيء باق، قد أحاطت بذلك الحطام الهائل المهدم رمال موحشة منبسطة جرداء تمتد إلى مالا نهاية)؛ فهنا وصف شائق أخاذ لعظمة الملك وبراعة الفنان، وتصوير رائع لسطوة الموت وبطشة الفناء
وفي الأدب العربي نرى تزايد هذا الاهتمام بالإنسان نشأته وأحواله ومصيره، بتزايد حظ العرب من الحضارة والثقافة: ففي الأدب الجاهلي وفي صدر الإسلام لا نعثر إلا بالأبيات المتفرقة يتأمل فيها الشاعر في ضعف الإنسان وقصر حياته، وتلاحق همومه، واتصال آماله برغم ذلك، وشدة إقباله على الحياة وتغاضيه عما وراءها. وفي ما عدا تلك النظرات الخاطفة والمواعظ العارضة، لا يكرث الشعراء أنفسهم كثيراً بالتساؤل فبما كان وما سوف يكون، بل لكل منهم شأن يعنيه من حاضره، فمتغزل عاكف على هواه مترنم بليلاه، ومفتخر يشيد بمجد نفسه ومكان قبيلته، ومداح مجتهد في استدرار صلات الأمراء، وهجاء ممعن في إثخان غريمه. ومما أثر عن متقدمي الشعراء في التأمل في حال الإنسان وقول القائل:
مَنَعَ البقاَء تقلبُ الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وقول الآخر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول؟ ... أنحب فيُقضى؟ أم ضلال وباطل؟
ويتزايد التفكير في خلق الإنسان وغايته كلما أنتشر العلم والفلسفة: فنرى في شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام من آثار ذلك فوق ما نجد في شعر الأخطل والشماخ جميل، حتى يبلغ ذلك التفكير مداه بنضج العلوم والفلسفة في القرنين الثالث والرابع، ويبدو ذلك واضحاً في آثار شعراء العربية الكبار: أبن الرومي والمتنبي والشريف والمعري: لكل من هؤلاء فلسفة إنسانية منثورة في إنحاء شعره، ونظرة إلى الحياة تلائم طبعه ومذهبه: فابن الرومي يرى الحياة فرصة من الجمال الطبيعي والإنساني يجب إن تغتنم، ومتعة للحس والروح يجب أن تباكر. والمعري يرى حياة الناس شقاء وشراً متصلا. والشريف يرى مثله الأعلى في الفضيلة والمعاني. والمتنبي يرى الناس سواما يحر فيهم القتل ويحق لمثله إن يسود فيهم ويعتلي، فلسان حاله قوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روَّى رمحه غير راحم
كما إن جُماع فلسفة المعري قوله:
فأف لعصريهم: نهار وحندس ... وجنسي رجال منهم ونساء
والحق إن المعري كان أشمل هؤلاء جميعاً نظرة، وأنفذ شعراء العربية جميعاً فكرة، وأشدهم شغلا بالحياة، وعناء بأمر الإنسان والأحياء، وتفكيراً في ماضي الإنسان ومستقبله، وتبصراً في أحوال مجتمعاته ودياناته، وله في كل ذلك من مستنير الأفكار المصبوبة في جزل الألفاظ والأساليب ما ينزله أرفع مكانة بين الشعراء المفكرين، على ما يشوب تفكيره في أكثر مواضعه من مسحة التشاؤم القاتم المغرق الذي هو وليد عصره المضطرب، وحياته الكئيبة، وبنيته السقيمة، وأعصابه المرهفة.
وفيما عدا المعري نرى أدباء العربية عامة أقل عناء بشؤون الإنسان وشغلا بالحياة وغايتها من أدباء الإنجليزية؛ وهم أكثر منهم قبولا للحياة على علاتها، ورغبة في اغتنام متعاتها والتغاضي عن سوآتها، وأقل تمرداً ولجاجاً في الأزمات النفسية. والأديب العربي أكثر تحدثاً عن نفسه وعاداته وآدابه ولباناته منه عن الإنسان عامة؛ وهذه النزعة السمحة الراضية ترجع إلى العوامل أهمها طيب المناخ الذي يبعث البشر والثقة، والإيمان الديني الذي بعثه الإسلام في نفوس أبنائه وبثه في مجتمعهم، والإسلام اكثر تغلغلا في حياة معتنقيه وتسرباً في أرواحهم وتجسما في مظاهر مجتمعهم من غيره من الأديان. هذا إلى أن الحكم المطلق لم يكن يسمح للأدباء بنقد المجتمع والنظم نقداً جريئاً، وإنما كان يروضهم على الاندماج في ظروف الحياة المحيطة بهم، والتعود على اجتناء خيرها واتقاء شرها، كما قال الشاعر:
وإن امرأً أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
فلم يكن أدباء العربية يطيلون الوقوف بمهامه الشكوك ومضايق الأزمات النفسية، بل سرعان ما كانوا يشيحون عما يطوف بهم من خيالاتها علماً بأن من أطال الفكر في الحياة وغايتها، والإنسان ومصيره، أقامه الفكر بين العجز والنصب، كما قال المتنبي، وحين كانت تطيف بهم تلك الحالات النفسية العابسة، ويثير شجنهم وجزعهم ما يلاحظون في حياة الإنسان ومجتمعه من نقص وشر، لم يكونوا يتأسون كما يتأسى شعراء الإنجليزية بمحاسن الطبيعة، فقلما أعاروا محاسنها التفاتاً، كما أنهم قلما اكترثوا لفجائعها وأهوالها، ولو كانوا يتعزون بذكر البطولة الإنسانية، فما يكاد يكون لها في آدابهم أثر؛ أو بتاريخ الأمم العظيمة، فما كانوا يذكرون من آمرها إلا غرور مشيديها وتقويض الزمان لأركانها، ولا بالتأمل في مخلفات فنون تلك الأمم، فما كانت توحي إليهم إلا بضعف الإنسان وبطلان مساعيه وقد التفت المتنبي إلى شرقي الإمبراطورية الإسلامية المترامية فقال:
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا؟
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحد ضيق
والتفت إلى غربيها فقال:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
إنما كان أدباء العربية إذا جزعوا لضعف الإنسان وقصر مدته وشرور مجتمعه، يجدون مفزعهم من الحزن والقنوط في (الفضيلة الاجتماعية): في الأخلاق القويمة التي تكسب الإنسان حسن الأحدوثة الموروث حبها عن العرب الأقدمين، وتنجيه من شرور المجتمع الذي لا يد له بإصلاحه، والذي لا تنال شروره عادة إلا من يستهدف لها بسوء فعله، وتكسبه رضى ربه وتضمن له عقبى الدار. ومن ثم زخر الأدب العربي بروائع الحكم ونبيل التمدح بمكارم الأخلاق، وهذا باب من أشرف أبواب الأدب العربي وبه يمتاز على غيره، ومن محاسن ما فيه من ذلك قول إياس بن القائف:
إذا زرت أرضاً بعد اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فاكرم أخاك الدهر ما دمتما معا ... كفى بالممات فرقة وتنائيا
وقول الشريف:
لغير العلا مني القلى والتجنب ... ولولا العلا ما كنت في العيش أرغب
غرائب آداب حباني بحفظها ... زماني، وصرف الدهر نعم المؤدب
فالعرب كانوا منذ جاهليتهم أمة اجتماعية ذات ميل غريب إلى الاجتماع، وفضيلة اجتماعية أصيلة، واستعداد متمكن للتحضر والتعاون، وأن يكونوا أمة مصلحة، يأنسون بالاجتماع ويتفاخرون بحسن الجوار وسيادة العشيرة وخدمتها معاً، ويشتغلون بمتعات تلك الحياة الاجتماعية عن طول الندب لنقائص الحياة وشوائبها، وطول التشكك والتحير في منشأ الكون ومنتهاه، وميلهم الطبيعي ذاك واضح الأثر في شعر شعرائهم، وفضيلتهم الاجتماعية تلك هي مرجع ازدهار العمران في كل بلد وطئوه، حالما وطئوه، على حين نشر الإغريق الخراب في شرقي البحر الأبيض حين هبطوه، واستغرقوا قروناً طويلة في الاستقرار وتشرب الحضارة.
فخري أبو السعود