مجلة الرسالة/العدد 187/ضوء جديد على مأساة شهيرة
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 187 ضوء جديد على مأساة شهيرة [[مؤلف:|]] |
إلى رجال التعليم: ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1937 |
2 - هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟
نظرية الاختفاء كما يشرحها الدعاة السريون
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وقد رأينا فيما تقدم إن الدعاة الملاحدة، أعني حمزة بن علي وصحبه، ألفوا في اختفاء الحاكم فرصة لاذكاء الدعوة وتغذيتها واتخذوا من هذه الاختفاء وظروفه الغامضة، مستقى جديداً للزعم والإرجاف؛ فزعموا إن الحاكم لم يقتل ولم يمت، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء، وسيعود عندما تحل الساعة فيملأ الأرض عدلاً، وأضحى هذا الزعم أصلا مقرراً من أصول مذهبهم. وقد انتهت إلينا في هذا الزعم - أي زعم الغيبة والرجعة، وثيقة هامة بقلم كبير الدعاة حمزة بن علي ذاته، وفيها يشرح لنا ظروف هذا الاختفاء وبواعثه على ضوء دعوته وأصول مذهبه، واليك ما جاء في تلك الوثيقة الهامة التي تقدم رغم غرابة شروحها ومزاعمها إلى المؤرخ مادة للتأمل:
يقدم إلينا حمزة رسالته بهذا العنوان: (نسخة السجل الذي وجد معلقاً على المشاهد في غيبة مولانا الإمام الحاكم) وهي التي يفتتح بها رسائله في متن الدعوة وأصولها حسبما أشرنا فيما تقدم
ويؤرخ الداعي هذه الرسالة بشهر ذي العقدة سنة 411هـ أعني عقب اختفاء الحاكم أو بعده بأيام قلائل، ويفتتحها بدعوة الناس إلى المبادرة (بالتوبة إلى الله تعالى وإلى وليه وحجته على العالمين وخليفته في أرضه وأمينه على خلقه أمير المؤمنين) وأنه قد سبق إليكم، اعني إلى الناس (من الوعد والوعظ والوعيد من ولي آمركم وإمام عصركم، وخلف أنبيائكم، وحجة باريكم وخليفته الشاهد عليكم بموبقاتكم، وجميع ما اقترفتم فيه من الأعذار والإنذار، ما فيه بلاغ لمن سمع وأطاع واهتدى وجاهد نفسه عن الهوى وآثر الآخرة عن الدنيا، وأنتم في وادي الجهالة تسبحون، وفي تيه الضلال تخوضون وتلعبون، حتى تلاقوا يومكم الذي كنتم به توعدون)
وإن أمير المؤمنين قد أسبغ على الناس نعمه ولم يفر عليهم شيئاً منها، ولم يبخ بجزيل عطائه، ولم يشاركهم في شيء من أحوال هذه الدنيا (نزاهة عنها، ورفضاً منه لها على مقداره ومكنته لأمر سبق في حكمته، وهو سلام الله عليه اعلم به، فأصبحتم وقد حزتم من فضله وجزيل عطائه ما لم ينل مثله بشر من الماضين من أسلافكم. . . ولم تنالوا ذلك من ولي الله باستحقاق ولا بعمل عامل منكم من ذكر وأنثى؛ بل منة منه عليكم ولطفا بكم ورأفة ورحمة واختباراً ليبلوكم أيكم احسن عملاً، ولتعرفوا قدر ما خصكم به في عصره من نعمته وحسن مننه وجميل لطفه وإحسانه، وعظيم فضله دون من قد سلف من قبلكم)
وأنه قد أجرى عليهم الأرزاق والنعم من الذهب والفضة والخيل المسومة والأقطاع والضياع، ورفعهم إلى ذرى المراتب وشرفهم بأرفع الألقاب، حتى غدوا سادة يحكمون ويطاعون، وعاشوا في نعماء ورغد، فاقبلوا على الدنيا واعتزوا بها، وظنوا إنها سبيل الفوز في الآخرة، وتظاهروا بالطاعة في حين أنهم متمسكون بالمعصية؛ ثم يقول الداعي:
(ثم من نعمة الباطنة عليكم إحياؤه لسنن الإسلام والإيمان، التي هي الدين عند الله وبه شرفتم وطهرتهم في عصره على جميع المذاهب والأديان، ومزيتم من عبده الأوثان وابانهم عنكم بالذلة والحرمان وهدم كنائسهم ومعالم أديانهم. . . وانقادت الذمة إليكم طوعاً وكرهاً فدخلوا في دين الله أفواجاً: وبنى الجوامع وشيدها وعمر المساجد وزخرفها، وأقام الصلاة في أوقاتها والزكاة في حقها وواجباتها، وأقام الحج والجهاد وعمر بيت الله الحرام، وأقام دعائم الإسلام، وفتح بيوت أمواله، وأنفق في سبيله، وخفر الحاج بعساكره، وحفر الآبار، وآمن السبيل والأقطار، وعمر السقايات، واخرج على الكافة السدقات، وستر العورات، وترك الظلمات، ورفع عن خاصتكم وعامتكم الرسوم والواجبات، وقسم الأرض على الكافة شبراً شبراً، وفتح لكم أبواب دعوته، وأيدكم بما خصه الله من حكمته ليحثكم على طاعته وطاعة رسوله وأوليائه عليهم السلام، فشينتم العلم والحكمة وكفرتم الفضل والنعمة، وآثرتم الدنيا كما آثروها قبلكم بنو إسرائيل في قصة موسى عليه السلام، فلم يجبركم ولي الله عليه السلام، وغلق باب دعوته واظهر لكم الحكمة وفتح لكم خارج قصره دار علم حوت من جميع علوم الدين وآدابه وفقه الكتاب في الحلال والحرام والقضايا والأحكام. . . وأمدكم بالأوراق والدواة والحبر والأقلام، لتدركوا بذلك ما تمضون به وتستبصرون. . .)
ثم يقول حمزة بعد إن يستعرض أعمال الحاكم على هذا النحو - إنهم - أي الناس، لم يزدادوا إلا ضلالاً وإثما، وتمادوا في غيهم وفجورهم؛ وينعى على الناس هذه النازلة الأليمة ويحذرهم من عواقبها، ثم يقول مشيراً إلى اختفاء الحاكم: (فقد غضب الله تعالى ووليه أمير المؤمنين سلام الله عليه من عظم إسراف الكافة أجمعين، ولذلك خرج من أوساطكم، قال الله ذو الجلالة والإكرام: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، وعلامة سخط ولي الله تعالى تدل على سخط الرب تبارك وتعالى. فمن دلائل غضب الإمام غلق باب دعوته ورفع مجالس حكمته، ونقل جميع دواوين أوليائه وعبيده من قصره ومنعه عن الكافة سلامه، وقد كان يخرج إليهم من حضرته ومنعهم لهم عن الجلوس على مصاطب سقائف حرمه، وامتناعه عن الصلاة بهم في الأعياد وفي شهر رمضان، ومنعه المؤذنين أن يسلموا عليه وقت الآذان ولا يذكرونه، ومنعه جميع الناس أن يقولوا مولانا ولا يقبلوا له التراب، وإنهاؤه جميعهم من الترجل عن ظهور الدواب، ثم لباسه الصوف على أصناف ألوانه، وركوبه الأتان، ومنعه أولياءه وعبيده الركوب معه حسب العادة في موكبه، وامتناعه عن إقامة الحدود على أهل عصره، وأشياء كثيرة خفيت عن العالم، وهم عن جميع ذلك في غمره ساهون. . .
ومن ثم (فقد ترك ولي الله أمير المؤمنين سلام الله عليه الخلق أجمعين سدى، يخوضون ويلعبون في التيه والعمى الذي آثروه على الهدى)
ويختتم الداعي رسالته الغريبة بتكرار الدعوة إلى التوبة والاستغفار، وأن يتجه المؤمنون بأبصارهم إلى الطريق التي سلكها أمير المؤمنين (وقت أن استتر) وأن يجتمعوا فيها بأنفسهم وأولادهم، وأن يطهروا قلوبهم، ويخلصوا نياتهم لله رب العالمين، وأن يتوسلوا إليه بالصفح والمغفرة وأن يرحمهم بعودة وليه إليهم. . . (والحذار الحذار أن يقفوا أحد منكم لأمير المؤمنين أثراً ولا تكشفوا له خبراً، ولا تبرحوا في طريق يتوسل جميعكم. . . فإذا أطلت عليكم الرحمة خرج ولي الله أمامكم باختياره راضياً عنكم، حاضراً في أوساطكم، فواظبوا على ذلك ليل نهار قبل أن تحق الحاقة ويغلق باب الرحمة وتحل بأهل الخلاف والعناد النقمة، وقد أعذر من أنذر. . . . الخ).
ويؤرخ الداعي رسالته بذي القعدة سنة إحدى عشر وأربعمائة، وينعت نفسه فيها بمولى دولة أمير المؤمنين، ويذيلها بالحث على نسخها وقراءتها والعمل بما فيها.
وهذا السجل يعتبر وثيقة مدهشة، وربما كان بروحه وأسلوبه أقوى رسائل الدعاة وأهمها، ومما يلفت النظر بنوع خاص ما يطبعه من حرارة وأسى، وإذا كنا لا نستطيع أن نؤمن بأن الداعي يصدر فيه عن إيمان حقيقي، فإنه ينم على الأقل عن براعة الداعي في عرض ما يريد أن يعتبره الناس أساساً لعقيدة مدهشة، هذا إلى أن هذا (السجل) يعتبر وثيقة تاريخية هامة بما يقدمه إلينا عن أعمال الحاكم وتصرفاته المختلفة في بادئ عهده ثم في خاتمته.
على أنه ما يلفت النظر أيضاً أن الروايات الإسلامية والنصرانية، المعاصرة والمتأخرة، لا تشير أية إشارة إلى هذا (السجل) الذي يقول لنا الداعي إنه وجد معلقاً على المشاهد، ولو وقعت مثل هذه العلانية في إذاعة السجل بمساجد مصر لما أغفلت الرواية الإشارة إليها، ولعل الدعاة حاولوا إذاعته فلم يفلحوا، وقد اشتدت عليهم وطأة المطاردة عقب مصرع الحاكم كما رأينا فلاذوا بالاختفاء والاستتار. واصدر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله ولد الحاكم سجله الشهير الذي يتبرأ فيه من هذه المزاعم الخارقة التي قيلت في أبيه وفي أسلافه، وفيه يعلن اعترافه إلى الله (بأنه وأسلافه الماضين وأخلافه الباقين مخلوقون اقتداراً ومربوبون اقتساراً، لا يمكلون لأنفسهم موتا ولا حياة، ولا يخرجون عن قبضة الله تعالى) وأن جميع من خرج منهم عن حد الأمانة والعبودية لله عز وجل، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ وأنه قدم إنذاره لهم بالتوبة إلى الله من كفرهم، فمن أصر فسيف الحق يستأصله
وإلى جانب هذه الوثيقة التي كتبها حمزة بن علي عقب اختفاء الحاكم. والتي يحاول فيها أن يعلل هذا الاختفاء وان يشرح بواعثه، وأن يطمئن المؤمنين على رجعة سيده ومولاه، توجد بين رسائل الدعاة وثيقة أخرى عنوانها (الغيبة) تمس نفس الموضوع من ناحية اخرى، وقد كتبت بعد اختفاء الحاكم بثلاثة اشهر عن لسان قائم الزمان (أي الحاكم بأمر الله) بقلم داع مجهول، والظاهر إن كاتبها هو المقتني أحد أكابر الدعاة واحد (الحدود الخمسة): وقد وجهت إلى أهل الشام خاصة، وفيها يذكرهم قائم الزمان بالعهد الذي قطعوه، ويحذرهم من الدجال الذي يزعم أن الألوهية انتقلت إليه، والذي عاند الموحدين وحاصرهم، ويقول إن الدين لا يصح إلا عند الامتحان، ثم يخاطب الموحدين بقوله: (معشر الموحدين، إذا كنتم تتحققون أن مولاكم لا تخلوا الدار منه وقد عدمته أبصاركم. . . وإذا فسدت المعدة ضرت البصر؛ فهكذا إذا كانت المادة واصلة إلى النفوس الصحيحة، فينظروا صورة الناسوت نظراً صحيحاً، وإذا كانت المادة من فعل الأبالسة ومادة النطقاء والأنس وشرائعهم فيفسد النظر وما ينظر إلا بشر)
(واعلموا معاشر الموحدين لمولانا الحاكم المعبود سبحانه وتنزه عن الحد والمحدود أن قائم زمانكم يطالبكم، وقد شهدتم في مواثيقكم بعضكم على بعض بما شرطتموه على نفوسكم. . .)
ثم يشير إلى أن كثيراً من الموحدين ارتدوا عما كانوا أقروا به وهو الاعتراف بألوهيته، ويحذرهم من سلوك هذا الطريق؛ ويشير إلى (الدجال) ويقول إنه قتل الكثيرين بسبب عبادة الحاكم؛ وأن المولى غني عن عبادتهم، وإنما هي أعمالهم ترد عليهم.
ثم يقول: (ألم تعلموا أن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه. . معشر الأخوان أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم)
ويلوح لنا أن هذا (الدجال) المشار إليه في هذه الرسالة إنما هو عبد الرحيم بن الياس ولي العهد، ووالي الشام؛ فقد اشتد في مطاردة الدعاة، حينما ظهرت دعوتهم بالشام، وفتك بكثير من أتباعهم وأنصارهم، وهو ما تشير إليه الرسالة.
(النقل ممنوع - للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان