مجلة الرسالة/العدد 187/أنا والأحمر
→ قرآن الفجر | مجلة الرسالة - العدد 187 أنا والأحمر [[مؤلف:|]] |
في الأدب المقارن ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1937 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
غضبت على ذات دل وحسن. ومن النساء من تدل ولا حسن لها. ومن هن الجميلة التي لا تدرك قيمة ما وهبها الله؛ ولكن هذه عارفة مدركة أصح أدراك وأدقه. وآية ذلك إنها لا تنفك تؤكد خصائص جمالها وتبرزها بألوان الثياب، وأسلوب التفصيل، وبطريقة تسريح الشعر وفرقه، وبحركاتها ومشيتها ولفتة وجهها، والجانب الذي تؤثر إن تمنحكه منه، وابتسامتها وخطرتها ووقفتها، وبالصورة التي تعرضها على عينك وهي متكئة على ظهر كرسي أو حافة شرفة، إلى آخر ذلك إذا كان له آخر
وسر هذا الغضب أنها تؤمن بالدلال - كما لا يسعها إلا إن تفعل - وأني أنا أؤمن بقول المتنبي عليه ألف رحمة:
زودينا من حسن وجهك مادا ... م فإن الجمال حال تحول
وصلينا نصلك في هذه الدن ... يا فإن المقام فيها قليل
فلها عقلها وطبيعتها، ولي عقلي وطبيعتي؛ ومن أجل ذلك نحن مختلفان متجافيان - تراني فتعرض عني، وأرها فأتجاوزها بعيني، كأنها ليست هناك؛ وتراجع نفسها أحياناً فتصفو وتقول عفا الله عما سلف، وتومئ إلي إيماءة تجعلها خفيفة خفية من الكبر والتردد، فأتجاهل وأتعامى وأتباله، فترجع إلي شر مما كانت به من الغضب والسخط، وتمنحني كتفها أو توليني ظهرها، وتمضي الأيام على هذا التقاطع الشديد - أخرج إلى الشرفة وتكون هي مطلة فتأخذني عينها، فما أسرع ما تتناول مصراعي الشباك وتغلقهما بعنف لا داعي له سوى أنها تريد إن تسمعني صوت الإغلاق لأدرك معناه. وأكون أنا في الشرفة فتظهر في نافذتها أو شرفتها، فلا أكاد أراها حتى اعبس وأمط بوزي. كان من سوء حظي ألا استطع إن اقف في الشرفة دقائق من غير إن تسد الفضاء أمامي، ثم أدور دورة سريعة وارتد إلى الغرفة ملتمساً الوقاية من جدرانها
ولم يكن هذا حالنا من قبل، بل كنت أقبل عليها فتهش لي وتريني وميض أسنانها والتماع عينيها، وكنت ألقاها فتدنو مني حتى لاحس أنفاسها العطرة على وجهي، وتضع راحتها البضة على قلبي وتقول لي: (كيف حال هذا المسكين الذي لا يمل الدق بل الوثب؟) فأقول (أتريدين إن يمل)
فتقول (أعوذ بالله. . ما هذا الكلام يا شيخ. .)
فأصرف الكلام عن وجهه وأقول (إنه يدق لي ولك، فلا عجب إن كان يتوثب)
فتبتسم لي - في عيني - وتقول: (ألا يمكن إن يفتر ذكرك لي - يفتر قليلا - ليرتاح هذا القلب بعض الراحة. . إنه عنيف الدق وأنا أشفق عليه)
فأقول (لا تخافي عليه ولا تجعلي إليه بالك. . دعيه يدق فإن هذا عمله وواجبه في الحياة)
ثم نمضي معه إلى حيث يروق القعود ويطيب الحديث وتحلو النجوى ويحسن الغزل، ونرجع ضاحكين وتنام ملء عيوننا
وقلت لها مرة (لماذا هذه المساحيق كلها. . ما حاجتك إليها؟ كيف يمكن إن يفتقر إلى زيفها هذا الوجه الخارج من الفردوس؟
فضحكت وقالت (أهو زيف. .؟)
قلت مغالطاً (أنه تأكيد لا حاجة بك إليه)
قالت (يا خبيث. . اعترف أنك تريد إن تقبل فمي وتخشى إن يعلق بشفتيك الأحمر!)
قلت (إلا يكون مجنوناً أو أعمى ذاك الذي لا يشتهي إن يقبل هذا الفم الجميل!)
قالت (لا تغالط. . دع العموم إلى الخصوص)
قلت (أتتعمدين إن تضعي هذا الأحمر إذن؟)
قالت (لا. . هي عادة ليس إلا. .)
قلت ملحاً: (أتكرهين إن أقبلك. . أو بعبارة أصرح فإن عفريت الصراحة ركبني اليوم. . إلا تشتهين هذه القبلة التي تقيمين في سبيلها الحواجز وتضعين الأسلاك الشائكة أو الأصباغ العالقة؟)
قالت (مالك اليوم. . ماذا جرى لك؟)
قلت: (إن الذي جرى لي هو هذا. . أنت تعرفين إني احب فمك. . وأنت لا تكرهين إن أضع شقتي على شفتيك. . وتعرفين أيضاً أني شديد الكره لهذا الأحمر السخيف، وتعرفين فوق هذا أن أزالته سهلة إذا هو علق بفمي منه شيء يسير أو كثير، ولكني مع ذلك أكرهه لله. . هكذا أنا. . خلقني الله كذلك ولا حيلة لي. . فلماذا تصبغين به شفتيك على الرغم من ذلك. . ليس الأحمر في ذاته هو الذي يضايقني ولكن تعمد وضعه. إذا كان الدلال هو الباعث على ذلك فإن الدلال ميسور بغير الأحمر. وعلى أن الدلال حسن وجميل، وهو يشحذ الرغبة ويقوي الحب إذا كان في حدود الاعتدال ولم يجاوز المعقول أو المحتمل. . أي ما يسهل على الرجل احتماله بلا عناء شديد أو مرهق، ولكن المرأة لا تفهم هذا مع الأسف، وهي لا تزال تلح في الدلال وتلح وتلح حتى يسأم الرجل وتنتفخ مساحره ويتعذر عليه الصبر ويضيق صدره فيفتر حبه، لأنه يكلفه فوق ما تطيق أو ما يمكن إن تحتمل طبيعته، فتذهب المرأة تقول غدر الرجال وعدم وفائهم وتقلبهم؛ ولو أنصفت للامت نفسها ولأدركت أنها هي التي أملته وأزهقت روحه
فقطبت وقالت (أهذا تهديد؟)
قلت (وهذا خطأ آخر. . فليس فيما أقول تهديد وإنما هو عجب واستغراب يدعو إليهما اختلاف الطبيعتين. .)
فقاطعتني وقالت (قل إن طبيعتك المتجبرة تريد إن تجعل مني ملهاة لنفسك لا تخالف لك إرادة ولا تعصي لك أمراً. .)
فقاطعتها وقلت: (كلا: ليس هناك تجبر ولا شبهه، إنما أشرح لك ما تغريك به طبيعتك وما تغريني به طبيعتي. .)
ولا أحتاج إن أروي ما قالت وقلت، فإن في مقدور القارئ إن يتصور ذلك، وأكبر الظن إن تجارب مثل هذه مرت به وعاناها، فما تعيش المرأة بغير الرجل ولا رجل بغير المرأة إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة؛ ومتى عاش رجل وامرأة فلا مفر من أن تسوقهما الطبيعتان إلى الشجار والنقار في بعض الأحيان، وأكثر ما يحدث ذلك من جراء توافه لا قيمة لها، ولا يجري في الخاطر إن تجر إلى خلاف.
وقد حاولت يوم ذاك إن ألاعبها وأمازحها بعد فتور الحدة وذهاب السورة، ولكن تعبي ذهب عبثاً، ورجعنا وقد أيقن كلا منا أن هناك سرا أعوص لما أبدى صاحبه من الجفاء وضيق الصدر.
ولقيتها بعد ذلك، فقلت لنفسي إن العتاب يجدد مرارة الخلاف ولم يكن لي ولا لها مفر من الكلام والنفاق، فقد كنا في حفل حاشد من المعارف والأهل، وانفض السامر فناولتها ذراعي وقلت (تعالي فإن بي حاجة إلى الهواء الطلق، فابتسمت، فتوهمت إنها نسيت ما كان بيننا أو آثرت مثلي إن تطويه. وإذا بها تقول لي أول ما تقول ونحن في السيارة (إنك مستبد) فعجبت وقلت: (كيف.؟ لقد كنت أظن أني من ألين خلق الله وأسلسهم قياداً) (فصاحت بي (أنت. . تقول إنك سلس القياد. . أعوذ بالله. .)
قلت وأنا أحول إن أصرفها عن هذا الموضوع الشائك (طيب. . آمنا وسلمنا. . مستبد مستبد. . كما تشائين. . والآن يا جاحدة. .)
وكنت أنوي إن أمازحها، ولكنها قاطعتني بسرعة وحدة: (جاحدة. . لماذا بالله. . هه)
فقلت لنفسي إن ليلتي لاشك سوداء. . وأنا رجل أكره الجدل العقيم ولا يثقل على نفسي شيء مثله، ولست أعرف لي صبراً عليه؛ غير أني ضبطت نفسي ولم ادع عنانها ينفلت من بين أصابعي فقلت: (معذرة: إني أضحك ولا أعني ما أقول)
قالت (واعترف أنك مستبد)
قلت (إذا الاعتراف بما ليس في يرضيك، فهأنذا اعترف وأمري لله)
قالت (كلا. . إنما أريد اعترافاً صريحاً لا مكابرة ولا تحفظ فيه)
قلت (فليكن؛ ولكن ما خيره؟. ماذا يفيدك إن اقر لك بأني مستبد؟. أما إن هذا لغريب)
قالت (اعترف والسلام. . لست أريد فلسفة)
قلت (اعترفنا يا ستي. . فهل راق مزاجك ورق)
فضحكت وقالت: (نعم) قلت: (إذن امسحي الأحمر الذي صبغتي به شفتيك، أو دعيني امسحه لك بهذا المنديل. . إنه نظيف)
قالت (كلا) وأصرت على الرفض والتأبي فقلت: (إلا تدركين أنك مغرورة؟) فاحمر وجهها كأنما أفرغت على وجنتيها كل ما في الدنيا من الأحمر، فقلت وقد تعمدت إن اثقل عليها: (نعم مغرورة. . ولم أكن أحسب شوقي رحمه الله صدق في قوله: والغواني الخ. . تعرفين الباقي. . وأحسبك تتوهمين أن حياتي رهن بأن تمسحي هذا الأحمر. . أو أن روحي معلقة بِشفتيك وما يكون أو لا يكون عليهما من الأصباغ السخيفة. . ثقي أن الأمر ليس كذلك. . وإنما انصح لك بمسح الأحمر لأنه. . .)
وأمسكت إشفاقا عليها من اللفظ القاسي الذي كان على لساني فسكتت ولم تقل شيئاً والغريب أنها بعد إن نزلت أمام منزلها وودعتها تعمدت إن تقف هنيهة قبل إن تدخل من الباب وتخرج منديلا صغيراً وتمسح به الأحمر عن شفتيها وفي يدها الأخرى مرآة الحقيبة
وكان هذا أخر عهدي بلقائها وكلامها
ولا تزال المعركة ناشبة، واحسبنا سنمل هذه الحرب الباردة - حرب الشفاه الممطوطة والأكتاف المهزوزة والإشاحة بالوجه والأعراض بالعين وتقطيب الحواجب وتجعيد الجبين، إلى آخر هذه المناظر المضحكة، ولولا أني لا اعدم القدرة على رواية الجانب المضحك لانفلقت، ولكنت حرياً أن ألقي السلاح وأعدل عن الكفاح، ولكنها هي متكبرة. . أوه جداً جداً. . وأنا كما تعرف. . دائم الضحك - هذا أولا - وأما ثانياً فإني لا أنفك أقول لنفسي: لقد عشت قبل عهدها دهراً طويلا لا تحس بالحاجة إليها ولا تعرف إنها موجودة. وإنك الآن لتحيا بغيرها، ولا تعدم نعيما تفيده بدونها ومن غير طريقها، فماذا ينقصك ولماذا تعني نفسك بالتفكير في الأمر كله؟. . دع كل شيء للظروف والمصادفة. . وليكن ما يكون. . . ولكن يخطر لي أحياناً أني قد ألقاها ولا أرى على شفتيها هذا الأحمر، فماذا يكون العمل حينئذ؟. أقول لك. . دع هذا أيضاً للمصادفة وإلهام الساعة، إن التدبير هنا قلما يجدي أو يصح. .
ولكن ضحكي يحنقها، وابتسامي يثير سخطها، وأنا لا أستطيع أن أكره نفسي على التعبيس بلا موجب، وهذا هو البلاء والداء العياء، فإنها تتوهم أني أسخر منها فتزداد لجاجة في الصد والإعراض، واحسبني سأظل هكذا أبداً. . أفسد على نفسي متع الحياة بسوء تصرفي وقلة حكمتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
إبراهيم عبد القادر المازني