الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 161/بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق

مجلة الرسالة/العدد 161/بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق

مجلة الرسالة - العدد 161
بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 03 - 08 - 1936


دين المتنبي

للأستاذ سعيد الأفغاني

عاش في هذه الدنيا قبل ألف عام رجل قضى إحدى وخمسين سنة يعمل في حياته للمجد؛ ركب إليه المكاره واقتحم الغمرات؛ أراد مرة من طريق الدين فخاب، ثم راوغه من طريق الولاية فأخفق، ثم مضى قُدُماً يجالد دون سبيله هذه جيوشاً من أذى الأعداء ونكاية الحساد وكلب الزمان وتخلف الجد

تقاذفته الأقطار ضارباً في الأرض: من حلب، إلى دمشق، إلى فلسطين، إلى مصر، إلى العراق، إلى فارس؛ حتى إذا ملأ الدنيا وشغل الناس وقفل راجعاً من شيراز وشارف بغداد وحط في سوادها الغربي، أحاط به أعداؤه في دير العاقول ليغتالوه، فقاتلهم قتال المستبسل المستميت حتى سقط دفاعاً عن نفسه وشرفه، فصعدت روحه إلى بارئها يحاسبها على ما قدمت في عاجلتها من خير أو شر

وإذا كان موضوعنا البحث في دين الرجل فلا بد أن ننبه قبل الشروع فيه إلى أنا سنخرج على ذلك السخف التقليدي الذي توارثناه في عصورنا الأخيرة جيلاً عن جيل، في تكفير الناس من أجل كلمة قالوها أو عمل قاموا به؛ نتعلق لذلك بأوهى الأسباب ونتكلف له كل التكلف لنخرج مسلماً عن دينه وإن كرهناه، أو نؤول له ما زل به لسانه إن أحببناه. تعقد لذلك المجالس في المساجد والمدارس وعند السلطان، وتؤلف الرسائل وتثار الفتن وتراق الدماء، حتى لقد سؤل الشيطان لبعض الحكام أن يتخذ من عبدة الهوى هؤلاء مطايا يركبها إلى غاياته فيمن يكره من كل آمر بمعروف أو جبّاه بحق أو ثائر على ظلم، فما أسرع ما كانت تخرج الفتيا بالتكفير، وما أسرع الحاكم حينئذ إلى البطش والفتك

ولولا الخروج عن الموضوع لأفضت في شرح هذه الناحية من تاريخنا وما أدت إليه من سوء العقبى، وما جرت على العلم والدين من ويلات وخراب، وخاصة أخريات عصور الجهل، يوم كان يضطلع بهذه المهازل شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية. وحسب المرء أن يذكر على سبيل التمثيل آراء المحبين والمبغضين في أجلاء الصحابة - رضي الله عنهم - صدر تاريخنا، ثم أقوال هؤلاء وهؤلاء في الحلاّج ومحي الدين بن عربي وتلك الطبقة. بل مالي أعمد إلى التاريخ البعيد وفي فجر نهضتنا مثل صالحة من ذلك. فاذكروا إن شئتم الأئمة جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا ومن لف لفّهم. ألم يرفعهم قوم إلى درجات المصلحين المجتهدين، ويهبط بهم آخرون إلى دركات الكفار أعداء الدين؟!

وغريب منهم هذا الفضول والتطفل والله تعالى لم يجعل إلينا أمر الناس، حتى نزج أنفسنا في هذه المزالق. ومتى ملك بشرٌ أمر بشر والله يقول: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء.) أما كان في خوَيصة أنفسهم ما يشغلهم عن الناس والتحكم في آخرتهم؟ وما كان أقربهم من إنصاف لو عرضوا القول أو الفعل على الحق فسموا الأشياء بأسمائها وحكموا عليها بالخطأ أو الصواب ولم يحمّلوا النصوص ما لا تحمل ووكلوا أمر الناس إلى الله، إذن لو فروا على أنفسهم عنتاً طويلاً ووقتاً سيسألهم الله عن إنفاقه في هذه السفاسف والآثام، وجهوداً لم يرزقهم الله إياها ليفرقوا دينه شيعاً ويؤلبوا عباده بعضهم على بعض

وأنا إذ أعرض لدين المتنبي فإنما أحكم على أقوال قالها وعلى هنات صدرت عنه، فأعرضها على الحق، وسواء على الباحث، إذا اجتهد وأخلص، أكان المتنبي بعد ذلك مسلماً أم ملحداً، فما لنا إيمانه ولا علينا كفره، ولا يملك إنسان لإنسان عذاباً ولا ثواباً

أمهد لبحثي بكلمة عن الحالة الدينية في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وهو الأمد الذي عاش فيه شاعرنا؛ وأنا حين أفيض فيه إنما أتكلم عن المتنبي نفسه لشدة العلاقة بين الرجل وعصره، ولأن كل شيء من أحوال ذلك العصر كان يهيئ للدعوات السياسية والدينية. وسنرى أن تنبؤ أبي الطيب ليس بالأمر الأد في ذلك الزمن الذي يعج بالأحزاب والنحل وأهل الأهواء

كان الدين أروج التجارات حينئذ في جميع الأقطار الإسلامية؛ فمن بغى ملكا تذرع له بالدين، ومن أراد ثورة جعل شعارها الدين، ومن دعا إلى نحلة فإنما سلاحه هذا الوتر الحساس من النفوس؛ ودولة بني العباس إذ ذاك منكمشة في رقعة صغيرة في العراق، تعيش مع ذلك خاضعة لسلطان الأمراء المتغلبين من الفرس أو الديلم أو الترك، والانتساب إلى آل بيت الرسول - ﷺ - أمضى سلاح يصرفه الخوارج وأرباب الأطماع كان في حلب بنو حمدان وهم علوية، وأنقرض الأغالبة في المغرب فدعى للفاطميين في رقاده من أرض القيروان سنة 296 وهم ينتسبون إلى فاطمة، وكل خارج على الدولة إنما كان يدعو الناس إلى الرضى من آل محمد، وكان في تعاليم الشيعة ما يحفز الطامحين إلى شق العصا: كلٌّ يدعي انه الإمام المنتظر

وأعظم النحل تسلطاً ونفوذاً يومئذ ثلاث: الباطنية والشيعة والحنابلة، وهؤلاء الأخيرون انحصر سلطانهم في بغداد فترة من الزمن فقط، بينما انبث دعاة الشيعة والباطنية في كثير من الأقطار. وكان أهول الجميع خطراً وأبعدهم أثراً القرامطة، وهم طائفة مؤولة باطنية حلولية، جعلوا للشرع ظاهراً وباطناً، وبنوا مذهبهم على تأويل الأحكام والآيات. ظهروا 278هـ وانتشروا بالشام وسواد الكوفة ثم اشتد أمرهم حتى زحفوا على حمص، وخضعت لهم دمشق على جزية، ثم زحفوا إلى الكوفة وعظم خطرهم وتفاقم شرهم، وعجز جند الخلافة عن إخضاعهم (وما زال أمرهم إلى قوة حتى استولوا على أكثر بلاد الفرات وأسسوا دولة بالبحرين، ودحروا جيوش الخليفة المقتدر، وثارت منهم طائفة في نواحي الحجاز، فانقطع الحج سنين خوفاً منهم. ولما أرسل إليهم المقتدر جيشاً بقيادة منصور الديلمي دحروه وقتلوا الحجاج يوم التروية في المسجد الحرام قتلاً ذريعاً وطرحوا القتلى في بئر زمزم، واقتلع زعيمهم الحجر الأسود من مكانه في الكعبة، وأخذه معه إلى هجر حيث بقي اثنين وعشرين عام حتى رد إلى مكانه أيام المطيع العباسي سنة 393)

ذكر المعري في رسالة الغفران: (أن للقرامطة بالأحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرج ولجام، ويقولون للهمج والطغام: (هذا الفرس لركاب المهدي يركبه متى ظهر.) وإنما غرضهم بذلك خدع وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم لما حضرته المنية، جمع أصحابه وجعل يقول لهم لما أحس بالموت: (إني قد عزمت على النقلة وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمداً، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء) فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر في الساعة التي يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر) أهـ

نجد أن القرامطة أخذوا بالحلول والتناسخ المتسربين إلى المسلمين من الهند وفارس، وشاركوا بعض فرق الشيعة في فكرة الإمام المنتظر، وأصبح من ديدن كل داعية إلى بدعة أو خروج على سلطان، أن ينتسب إلى علي رضي الله عنه، أو أن يدعو إلى الرضى من آل محمد إن تعذرت عليه النسبة مباشرة. وكثر هؤلاء الدعاة والخارجون، وفشت فاشيتهم حتى امتلأت حوادث تلك الأيام بذكرهم. وكان سقوط هيبة الخلافة وانحلال العصبية العربية من أهم العوامل في كثرة تلك الطوائف والانقسامات. وأصبحت الدنيا في كل مكان لمن غلب، وجهر المتغلبون وجنودهم بضروب من المناكر أنفذت صبر البقية الصالحة، فثار في بغداد جماعة من الحنابلة، واضطرمت قلوبهم بالغيرة على الدين من أن تنتهك محارمه، فأجمعوا أمرهم وانتظموا معسكرات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر بالقوة والسلاح؛ واستفحل شأنهم وقويت شوكتهم، حتى صاروا يكبسون بيوت القواد والعامة فحيثما (وجدوا مسكراً أراقوه، أو مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء.) ولم يطل بهم الزمان حتى أذعنوا لمؤثرات العصر، فتسرب إلى جماعات منهم أقوال هي إلى الحلول والتشبيه، واندس في غمارهم - على ما يظهر - أناس ليسوا منهم، فعظمت أذيتهم على الناس، فتقدم إليهم الخليفة بالإنذار فما أفاد، فأضطر إلى قمعهم بالقوة وإراحة الناس منهم

هذا إلى أناس كثيرين جعلوا الدين وسيلة إلى الدنيا يتاجرون به متاجرة، فيوماً تراهم معتزلة ويوماً شيعة؛ وحيناً باطنية وتارة حلولية يقولون بالتناسخ، يميلون مع الريح حيث مالت، ويعرضون في كل سوق ما يروج فيها، لا يرجعون إلى عقيدة، ولا يصدرون عن إيمان، بل هم أبداً متقلبون (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)

تلك هي حال الدين في عصر أبي الطيب وفي البلاد التي حل فيها. فما ظنكم بفتى دون العشرين من عمره، يتوقد الذكاء، ويتفجر فصاحة، طماح مغامر، يعشق السيادة، وينشد المجد بكل قوته، التفت حوله فما رأى إلا جماهير بلا عقل، تتبع كل ناعق، عليهم رؤساء جهال، لا علم لهم ولا فضل ولا أدب، ما فهم على كثرتهم من يقاربه في ذكائه ومواهبه وعظم نفسه، ثم أبصر سوق الدعوات رائجة كل الرواج، وكان في طبيعة كثير منهم ما يدعو الطامح إلى محاولة السيادة عن طريق الدين

شاء هذا الفتى أن يقيم نسبة بين دعوتهم ودعوته تتسق هي والفرق بينهم وبينه، فإذا كان فيهم من ادعى انه الإمام المنتظر، والمهدي، أو الرضى، فان النسبة تقضي أن يدعي النبوة دفعة واحدة، وقد فعل ولا مندوحة لي هنا عن القول بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشك فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة، حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير. وما كان أغناها عن ذلك، فأن في السن التي وقعت فيها هذه الزلة العذر كل العذر؛ وليس من الأنصاف أن نلمز حياة خمسين سنة من أجل هناة كانت في سن الفتوة. فلأشرع في ذكر هذا التنبؤ بإيجاز؛ ثم لا فض في علاقة الرجل بالدين مدى حياته. وسأعتمد في قص الحادث على أبي العلاء خاصة، لفضله ولتحريه وقرب زمانه. وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقل ولا تؤيدها قرائن

وقع المتنبي إلى بادية السماوة وأظهر دعوته، فتبعه قوم من الأعراب من بني كلب، خلبهم بذلاقة لسانه، وحسن بيانه. وتلا عليهم كلاماً زعم أنه أنزل عليه. نقله الأنباري في طبقاته عن أبي علي بن حامد قال:

(وكان قد تلا على البوادي كلاماً زعم أنه قرآن أنزل عليه. فكانوا يحكون له سوراً كثيرة نسخت منها سورة ثم ضاعت وبقي أولها في حفظي وهو: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار. امض على سننك واقف أثر من قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله).

وقد حفظ لنا التاريخ مشهداً من مشاهد هذه الدعوة في اللاذقية، ولا ريب أنه كان بعد أن توثق أمر المتنبي بعض التوثق في البادية. قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي:

(قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة 320هـ وكان عمره يومئذ سبع عشرة سنة وهو لا عذار له، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه، فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته؛ فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته واقتباساً من أدبه قلت له: (والله انك لشاب خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير.) فقال:

(ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل.) فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له: (ما تقول؟) فقال: (أنا نبي مرسل.)

فقلت له: (مرسل إلى من؟)

قال: (إلى هذه الأمة الضالة) قلت: (تفعل ماذا؟)

قال: (أملأ الدنيا عدلاً كما ملأت جوْراً)

قلت: (بماذا؟)

قال: (بإدرار الأرزاق والثواب العاجل لمن أطاع وأتى، وضرب الأعناق لمن عصى وأبى)

فقلت له: (إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه أن يظهر) وعذلته على ذلك فقال بديهاً:

أبا عبد الإله معاذ إني ... خفي عنك في الهيجا مقامي

ذكرت جسيم مطَّلي وأنا ... نخاطر فيه بالمهج الجسام

أمثلي تأخذ النكبات منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام

ولو برز الزمان إلى شخصاً ... لخضب شعر مفرقه حسامي

وما بلغت مشيئتها الليالي ... ولا سارت وفي يدها زمامي

إذا امتلأت عيون الخيل مني ... فويل في التيقظ والمنام

بهذه القوة والاطمئنان يتحمس المتنبي لنصرة دعوته ويحاول تمكينها من القلوب، فلنصغ إلى أبي العلاء المعري في رسالة الغفران يحدث عن معجزات نسبت إلى أبي الطيب،

قال:

(وحدثت أن أبا الطيب لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم قالوا له وقد تبينوا دعواه: (ههنا ناقة صعبة فان قدرت على ركوبها أقررنا أنك نبي مرسل. وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الابل، فتحيل حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم

وحدث أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحاً مفرطاً، وان أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياماً وليالي، وأن ذلك الكاتب قبل منه، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد ويقولون هو يحي الأموات

وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح، ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد لك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل لقي الأمر على ما ذكر

ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل.)

هذا ما ذكر المعري من معجزاته وقد ذكر غيره معجزات أخر نضرب عنها صفحاً، لبعدها عن العقل ولأن راويها ليس في التثبت بمكان أبي العلاء

وفي ديوان أبي الطيب قصيدتان قالهما في صباه، تفيضان أملاً وطموحاً وكفاحاً، وأنا أجعل زمانهما فترة التنبؤ هذه، حين كانت نفسه تجيش بأبعد المطامع وتوقن بالفوز والنجاح. لما وجد تلكؤ الناس عن إجابة دعوته في نخلة - إحدى قرى بني كلب - ومظاهرته بالعداء، عزم على المضي بأمره وتحمل الأذى، ورسم لنفسه هذه الخطة الواضحة في قصيدته:

ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود

مفرشي صهوة الحصان ولك ... ن قميصي مسرودة من حديد

أين فضلي إذا قنعت من الده ... ر بعيش معجل التنكيد

ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي

أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سعود

عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود

فاطلب العز في لظى ودع الذ ... ل ولو كان في جنان الخلود

إن أكن معجباً فعجب عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود

أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود

ولما رزقت دعوته بوارق من الإقبال في بني كلب سكر بنشوتها وطفقت نفسه تحدثه بقرب تحقيق الأمنية، ثم استمر خياله يبني له هذا المجد حتى أنس من نفسه قوة وتحفزاً، فراح يتحدث بإنفاذ ما رسم من خطة، ولو وقفت دونه ملوك الأرض، إلى أن تتم دعوته ويسود الناس. إن شئت فانظر في هذه الأبيات أهي لهجة شاعر يفتخر، أم إيمان طماح واثق من نفسه كل الثقة؟ سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صمة الصمم

لقد تبصرت حتى لات مصطبر ... فالآن اقحم حتى لات مقتحم

لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم

وما قولك فيمن سيغني الأرض بالدماء عن الأمطار:

تنسى البلاد بروق الجو بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الديم

ويخاطب نفسه هذا الخطاب الناري، مشجعاً إياها، مهوناً عليها أمر الناس فيقول:

ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم

إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت إبن أم المجد والكرم

ثم انظر هذا الإنذار الشامل والوعيد الرهيب لأهل الأرض وملوك العجم والعرب:

ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم

فان أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولوا فما أرضى لها بهم

هذه نفثة نفس جائشة تسلحت باليقين ورأت الخيال يلوح لها بقوة الحقيقة الواقعة، مؤمن بالفوز، واثقة من كفائتها وإضطلاعها بالأمور الجسام. وما أظن أبا الطيب حين قال هذه القصيدة كاذباً في نفسه، لا بل كان يحدث عنها أصدق الحديث، وإنما كان مخدوعاً ثائراً يريه شبابه الفائر ومواهبه المتقدة السراب ماء فذهب يصف ما تريه نفسه. وإلا فكيف تكون القصيدة أقوى ظهوراً منها فيما تلوت من شعره

تبعت أبا الطيب شراذم من عامة وأعراب، ثم نمى خبره إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية. وأنه يخشى أن يستفحل أمره (فخرج إليه لؤلؤ، فقاتله وأسره وشرد من كان معه من بني كلب وغيرهم من قبائل العرب. وحبسه في السجن دهراً طويلاً حتى كاد يتلف، فكانت حاله إلى الضراعة والاستكانة. وكانت هذه الضربة كافية في إعادة رشده إليه وفي يقظته من حلمه اللذيذ الذي نعم به زمناً يسيراً فاستفاقت تلك النفس التي كانت تهذي في حلمها وتقول:

إذا امتلأت عيون الخيل مني ... فويل في التيقظ والمنام

وتقول:

ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم وهبطت من عليائها إلى أسفل الدركات فقالت:

أمالك رقى ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد

دعوتك عند إنقطاع الرجا - ء والموت مني كحبل الوريد

ثم سئل لؤلؤ في أمره فاستتابه وكتب وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأطلقه. وبهذا انطوت صحيفة من تاريخ أبي الطيب في صباه، على نزوة خلدها التاريخ على قلة ما يسجل للصبيان من نزوات

لم يفد أبو الطيب من مغامرته هذه إلا لقب (المتنبي) الذي لصق به على كره منه، فكان يستحي بعد توبته كل الاستحياء. ذكر عنه المعري أنه سئل عن حقيقة هذا اللقب: (هو من النبوة أي المرتفع من الأرض) ولما كان في بغداد قال له أحد الأكابر: (خبرني من أثق به أنك قلت إنك نبي؟) فقال أبو الطيب: (الذي قلته: أنا أحمد النبي)

قال أبو علي بن حامد: (كان المتنبي في مجلس سيف الدولة: إذا ذكر له قرآنه أنكره وجحده. وقال له ابن خالويه يوماً في مجلس سيف الدولة: (لولا أن أخي جاهل لما رضي أن يدعى بالمتنبي لأن معنى المتنبي كاذب، ومن رضي أن يدعى بالكذب فهو جاهل. فقال أبو الطيب: لست أرضى أن ادعى بذلك وإنما يدعوني به من يريد الغض مني، ولست أقدر على المنع)

ونقل صاحب طبقات الأدباء ص371 عن التنوخي قال: قال لي أبي: (أما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أو لا؟ فجاوبني جواب مغالط وقال: (إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن استقصي عليه فأمسكت)

وزعم جماعة أن اللقب لصق به لتشبهه بالمسيح مرة، وبصالح مرة في أبياته التي مرت

وكيفما كان فان الذين عاشوا في زمن المتنبي وبعده مجمعون على ادعائه النبوة، وكان هو يجهد أن ينفي التهمة في حياته خجلاً وحياء. وليس بين الأمرين تناقض ولا داع إلى حيرة. وقد كان هذا اللقب على أبي الطيب من أشد ما كابد في حياته: فقد منعه كافور الولاية بسببه، ولما عوتب قال: (يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد ﷺ ألا يدعى الملك مع كافور؟ فحسبكم) وكلما أراد عدو أو شاعر ايلام المتنبي هجاه ونبزه بهذا اللقب (للبحث بقية)

سعيد الأفغاني