مجلة الرسالة/العدد 161/في النقد الأدبي
→ أثر النحو في تقويم اللسان | مجلة الرسالة - العدد 161 في النقد الأدبي [[مؤلف:|]] |
بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق ← |
بتاريخ: 03 - 08 - 1936 |
للأستاذ إسماعيل مظهر
العصر الذي نعيش فيه عصر قوامه النقد. حتى لقد قال (إدورد كيرد) وهو من الفلاسفة المعاصرين في أول كتابه عن فلسفة كَنْت: إن النقد هو الذي هدَّ العروش المقدسة، ومنها عرش الدين قائماً من فوق العقيدة، وعرش القانون قائماً من فوق السلطان والجبروت. فإذا عني أعلام كتابنا بالنقد، فإنما يعنون بشيء قد تغلغل في صميم الحياة الحديثة، ونفذ إلى أبعد غور من أغوار الأشياء الإنسانية. وما حفزهم إلى الكلام في النقد، وفي النقد الأدبي على الأخص، إلا شعورهم - وقد ركدت حركة النقد - بأن في الجو الأدبي فراغاً جعلهم يستوحشون من الحياة التي يحيونها، وجعلهم يعتقدون شيئاً آنسوا فيه الحياة ألفوها. على أني لحظت في نزعة الكتاب الذين عالجوا هذا الموضوع شيئاً أو أشياء، على كبير علاقتها بالنقد الأدبي، وعلى عظيم خطرها، لم يعرض لها أعلام كتابنا ولو بإشارة، ومن طرف خفي، كأن الكلام في هذه الأشياء عسير على النقد أو هي من الأشياء التي يجب أن تخرج من مجال النقد، وكانت هذه الظاهرة فيما كتبوا بنية جلية، حتى لقد خيل إليَّ أن ما كتب في النقد جدير بأن ينقد، وخليق بأن يحلل تحليلاً لا هوادة فيه
سألت نفسي: أناحية النقد الأدبي وحدها هي الجديرة بالتقدير والوزن، أم إن ناحية النقد العلمي والفلسفي لها من المكانة والشرف ما يجعلها خليقة بأن تساوي النقد الأدبي قيمة ووزناً؟ ولم نخص النقد الأدبي وحده بقسط من العناية يستوفي كل جهودنا العقلية، ولا ننظر ولو التفاتاً وبقليل من الاكتراث إلى النقد العلمي والفلسفي؟ ألأنَّ الأدباء كثيرون، والعلماء والفلاسفة قليلون؟ كلا وإنما السبب أن عقليتنا لم تتكون بعد التكون العلمي ولا التكون الفلسفي. وهذا التكون سابقة ينبغي أن تسبق في الحياة العقلية ظاهرة النقد، في مجال ما من مجالات الحياة الثقافية. ذلك بأن وجود العلماء لا يكفي في تكوين العقلية العلمية، ولا وجود الفلاسفة بكافِ لتكوين العقلية الفلسفية
ثم سألت نفسي: أللنقد موانع؟ أيمنعنا من النقد عوامل خلقية؟ أيمنعنا من النقد عوامل تقليدية؟ أيمنعنا من النقد عوامل اقتصادية؟ أيمنعنا من النقد عوامل سياسية؟ أيمنعنا من النقد عوامل نفسية؟ وهل يمكن أن يفلت النقد من أثر هذه العوامل؟ وبعد أن أطلت النظر في كل سؤال من هذه الأسئلة، بل إن شئت فقل في كل معضلة من هذه المعضلات، حكمت بأن هذه الموانع كائنة، وأن بعضها أقوى أثراً من بعض، وأن الناقد لن يفلت من دائرتها، أو يخرج من أقطار هذه الأرض منبوذاً مدحوراَ
وبعد هذا وذاك هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله، وتشيد من فوقها أركانه؟ ألَنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟
كلا. ليس لنا في النقد مذاهب، وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور، وهي طريقة إن مال ميزانها نحو اليمين قيد شعرة كانت إفراطاً في المدح والتقريظ، وإن مالت نحو الشمال شعرة كانت تفريطاً في كل ما يقتضي النقد من حكمة في تقويم الآثار الأدبية بميزان صادق الدلالة على قيمة ما في كفتيه. وجملة الأمر أننا ذهبنا في النقد المذهب التقديري، ولم ننزع إلى المذهب التقريري. ذلك بأن المذهب التقديري مذهب سهل المأخذ، لير المنحى، مطواع للأهواء، يسع الأثر الذي تمليه الصداقة على شعور الناقد، ويسع الأثر الذي تمليه العداوة والبغضاء على انفعالاته. وهو فوق كل هذا مذهب بُدائي لا ضوابط له ولا قواعد، ولا نظريات ولا حقائق؛ وبالأحرى نقول إننا مضينا ننقد حتى الآن ورائدنا في النقد الأثر الذي تتركه في أنفسنا مختلف المنتوجات الأدبية، بما فيها من علاقات ذاتية وميول وعواطف وأخيلة وأحاسيس؛ وعلى الضد من هذا كله مذهب النقد التقريري القائم على نظريات أو حقائق لها حدود مضبوطة ومصطلحات معينة ونماذج يمكن أن ينسج على منوالها؛ ناهيك بأن مذهب النقد التقريري قد تكون له في بعض الأحيان فكرة عامة شاملة ترمي إلى غاية معينة. فانك إن نظرت مثلاً في محاورات سقراط التي أثبتها تلاميذه في كتبهم، تبينت من خلالها فكرة جامعة وغاية أخيرة ترمي إليها، هي التي أبان عنها كل الإبانة في دفاعه عن نفسه أمام قضاته قبل الفتوى بإدانته. وعندي أن محاورات سقراط، أول ما وضع في تاريخ الآداب الإنسانية من نقد قائم على المذهب التقريري
ولقد ترى أثر هذا الرأي - رأي أننا ننقد على المذهب التقديري لا على المذهب التقريري - ظاهراً جلياً في كل نواحي النقد، لا في النقد الأدبي وحده. فإن نزعتنا هذه قد تجلت بينة في النقد السياسي على الأخص، حتى لقد اتهم النقاد السياسيون في مراميهم وأوذوا في سمعتهم السياسية، لا لشيء إلا لأنهم نقدوا على غير مذهب، وكتبوا على غير نظرية سياسية، ومضوا يتكلمون في السياسة وليس أمامهم غاية عامة نهائية يرمون إليها، اللهم إلا أن تستقر الأحوال على صورة تقر ما كان قائماً قبل انقلاب حدث ولو كان ما يطلب الرجوع إليه من نظام فيه من أوجه النقد ما لا يقل قيمة أو أثراً عما يراد إدالته من نظام قائم
على أن ما ترى في النقد السياسي من شيوعية في المرامي واستهتارية في الغايات، قد تراه بذاته في أكثر النقود الأدبية التي تجري بها أقلام الذين يتصدون للنقد في هذا العصر. وما السبب في هذا إلاّ أننا نزعنا في النقد النزعة التقديرية، فأوسعنا المجال للخيال دون العقل، وفتحنا الباب على مصراعيه للذوق وحده، من غير أن نجعل للذوق ضابطاً من القيود المنطقية أو النظريات المقررة أو الحقائق الجامدة
لقد عاب الأستاذ أحمد أمين على النقاد أن ينتقدوا ما ليس من اختصاصهم، وأن الكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً في تاريخ نابليون، وكتابا عن جزيرة العرب، وديوان شعر! ولا مرية في أن الأستاذ على حق فيما يقول. أما السبب في هذه الفوضى الغامرة فالذي أذهب إليه من أن النقد عندنا قد نزع النزعة التقديرية دون النزعة التقريرية. وهل أسهل من أن أقول إن كتاباً عن نابليون ضعيف الأسلوب، وإن كتاباً عن جزيرة العرب ثقيل الظل، وإن ديوان شعر بارد الأنفاس؟ ولكن غاب عن الأستاذ حقيقة أخرى هي أن الأدب والنقد عندنا، لقلة ما لهما من ضوابط وقواعد، قد هيأ للكتاب والنقاد سبيل الانسلاخ في هيئات جديدة تقتضيها ظروف الأحوال. فهذا كاتب سياسي أصبح مؤرخاً. وذاك مؤرخ أصبح شاعراً. وثالث كان أديباً فأصبح سياسياً، ثم ارتد ناقداً، ثم انسلخ في صورة ديماجوج، يضرب على نغمات تحبها آذان الجماهير. ورابع كان صحفيا فأصبح مصلحاً سياسياً. وخامس كان لاشيء أصلاً فأصبح علماً يشار إليه بالبنان في جميع ما تتخيل أن إنساناً يستطيع أن يبرز فيه من علم وفلسفة وأدب وفن، وما الله به أعلم من مظاهر الكفاية. وإن واحداً صار نصير الإنسانية، وآخر أصبح سادن الدين، وثالثاً أبا الحرية، ورابعاً حافظ الديمقراطية، إلى غير ذلك من الألقاب التي تذكر المرء بألقاب أهل الدول إذا ارتج أمرها وكادت تميد بها الأرض، فيعمد خيال أهلها إلى الألقاب يضخمون منها بما يخيل إليهم أن فيه المنجى والملاذ
أليست هذه ظاهرة من ظاهرات الفوضى العقلية الدالة على أن النقد عندنا إنما يقوم على نزعة تقديرية لا تزن الأثر ولا تزن الشخص، وإنما تزن الأثر والشخص على مقتضى الظرف الحاصل؟ ولو أننا نزعنا في النقد النزعة التقريرية مؤمنين بعدد ثابت من الحقائق والنظريات والمثاليات، مؤتمنين بما توحي به من آداب اجتماعية عليا، إذن لاستطعنا أن نقضي على هذه الفوضى الغامرة التي تكاد تبتلعنا لججها
وما كان لي أن أتكلم في موانع النقد في بيئتنا الجديدة، اللهم إلا أن أكون قد قذفت بنفسي في أتون تترع نيرانه الشوى. فليتصد للكلام في هذا غيري ممن لا حاجة به إلى شواء
إسماعيل مظهر