مجلة الرسالة/العدد 158/من هنا ومن هناك
→ مأساة من سوفوكليس | مجلة الرسالة - العدد 158 من هنا ومن هناك [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 13 - 07 - 1936 |
إبسن وأرنولد بنت
كتبنا هنا كلمة عن أثر إبسن في إحياء الدرامة في الأقطار الأوربية عامة وإنجلترا خاصة، وأشرنا إلى العلاقة بين إبسن وبين صمويل بطلر صاحب قصة (طريق اللحم) وبين بطلر وبرنردشو وهم جميعاً من أنصار المرأة الذين وقفوا جهود الجبابرة للدفاع عن قضيتها والنضال في سبيلها لتحصل على أوفر قسط من الحرية التي ما تزال - تحت ضغط التقاليد - محرومة منها إلى اليوم. وقد كنا نقرأ درامة القصصي الإنجليزي الطائر الصيت أرنولد بنت المسماة (مباراة الحب) فراعنا أن نجد هذا الكاتب العبقري يحاول محاولة صادقة أن يتمم جهود إبسن!!
والمعروف أن إبسن كان يعرض في دراماته لعلل هذا العالم فيشخصها ويعرضها للنظارة، ولكنه يتركها دون أن يصف لها علاجا، وأحسن مثال لذلك درامته (بيت عروس) ' التي يعرض فيها حياة الفتاة نورا وما تورطت فيه من غرام بشخص غني حاولت أن تحصل منه - بسبيل هذا الغرام - على مبلغ من المال يستعين به زوجها المريض على السفر إلى الجنوب للاستشفاء مما به من مرض. . . ولكن زوجها يكتشف علاقتها بذلك الرجل الغني فيعاتبها. . . ولكنها تثور وتتهمه أنه هو سبب هذا السلوك الذي آلمه منها، وأنه لم يحسن تكييفها حتى تكون ربة منزل، وأنها لا بد تاركته لتدرس الدنيا والحياة من جديد، لأنها ترفض أن تظل إلى الأبد (دمية أو لعبة) في المنزل، تأكل الشوكولاته، وتغشى صالات الرقص، وتقتني الأزهار، وهي لا تعرف من الشؤون المنزلية كثيراً أو قليلاً. . . فإذا سألها زوجها ولمن تترك تربية الأطفال أبناءها؟ أجابته إنها تتركهم له أو أنها لا تدري. . . وكيف تربيهم وهي لم تترب؟ أليس أولى أن تتربى هي أولا؟!
وعند هذا تنتهي الدرامة وتنزل الستار!! وبذلك لم يصف لنا إبسن كيف تعالج نورا؟ أو إلى أين تذهب لتحصل على القسط الذي يعوزها من التربية. لذلك راعنا من أرنولد بنت محاولته معالجة هذه الزوجة إلتيّ تغرم بأكل الشوكولاته وتولع بالمراقص والمسارح ودور الصور والصالات، ولا تعرف من أمور منزلها أي شيء حتى ولا كيف تسوس الخدم!! وتتلخص درامة بنت في أن نينا الممثلة البارعة وزوجة مدير مسرح الملك جورج بلندن قد أحبها (روس) أحد كبار الأغنياء الإنجليز، وقد حدث أن أشرف الزوج - مدير المسرح - على الإفلاس، فاضطر لأن يذهب إلى (روس) ليقترض منه بضعة آلاف من الجنيهات يصلح بها مالية مسرحه ويحفظه بها من الإغلاق. . وتكون نينا عند روس في هذه الآونة تساقيه كؤوس الغرام فما يكادان يعلمان بقدومه حتى يصلحا من شأنهما ويتأهبا للقائه، ويعده روس خيراً وينصرف على ميعاد آخر، فإذا حان هذا الميعاد أقبل الزوج وكله أمل أنه قابض الآلاف التي يبتغيها، وتكون نينا في هذه المرة أيضاً بين ذراعي روس، فإذا دق الجرس وعلم روس أنه هو، خبأ نينا في مخدعه ولقي الزوج. . . ولكن ثورة من الشرف والكرامة تتفجر في قلب روس فيصارح الزوج بعلاقته الغرامية بزوجته، وتخرج الزوجة صعقة، ويغادر الزوج المنزل ليطلق زوجته، ويتمالك روس قواه ويتناول التلفون فيخاطب أحد أصدقائه أصحاب الملايين في إقراض مدير المسرح بضعة آلاف من الجنيهات على أن تحتسب على روس بشرط ألا يعلم مدير المسرح. ويتزوج روس من حبيبته. . . ثم يبدأ الدرس القاسي الذي يصلح به سلوكها ويخلق منها زوجة مدبرة وربة منزل بكل ما تحمل الكلمة من معان؛ وذلك بعد أن تسوءه منها بعض التصرفات التي تدل على طيش النساء اللائى لم يحصلن على أية ثقافة منزلية
يدعي روس أنه جازف في عمل تجاري ولكنه جر عليه الإفلاس، وأنه مضطر لأن يبيع كل شيء. . . منزله وضياعه وعرباته وكثيراً من ملابسه وأثاثه ليسدد ديونه. . . ولكنه يلقى من نينا كل عطف وتضحية، فإنها بدلاً من أن تتركه لتلوذ بغيره من الموسرين، تقدم له كل حليها وجواهرها التي تسوى آلافاً كثيرة. . . فيسير روس في درسه. . . وينتقل إلى (شقة) حقيرة في منزل قذر ليعيش فيه عيشة الكفاف، فلا تأبى نينا أن تقاسمه صرامة هذا العيش، بل تقوم هي على حاجيات المنزل فتحسن تدبيرها كل الإحسان. . ويكون اليوم السابع والعشرون من الشهر ويحضر محصل (البلدية) من أجل ثمن الغاز فلا يكون مع نينا إلا أربعة بنسات ونصف فينذرها المحصل بقطع التيار إن لم يسدد المبلغ (باكرا) ويحضر روس فتطلب إليه قليلاً من النقود لهذا الغرض فيثور بها ويتهمها أنها غير مدبرة وأنها مسرفة كل الإسراف، ويطلب إليها أن تطلعه على (كشف بالمصاريف الشهرية) فتدهش نينا لهذا الطلب، ولكن روس يداعبها ويطلب منها أن ترتدي أحسن ملابسها لزيارة (المتحف البريطاني؟!) ولكنها تكاد تجن لأنها لم تعتد زيارة هذه الأماكن الجدية. . . وتأتي أختها آن لزيارتها فيتركهما روس وينصرف. . . وتعجب آن لقذارة (الشقة) وتسأل أختها لم تسكن هي وزوجها في مثل هذا الحي الوضيع مع أنه قد أصبح أغنى رجل في إنجلترا؟ وتضحك نينا وتقول بل إنه أفقر رجل في إنجلترا لأنه أفلس وباع كل ما يملك ليسدد ديونه؟! وتدهش آن وتؤكد لها أن روس قد ربح أمس فقط من صفقة البن البرازيلي سبعة ملايين من الجنيهات، وأنه لا بد قد تعمد أن يلقنها هذا الدرس في الاقتصاد والتدبير المنزلي تعمدا. . . وتفطن نينا للسر فتثور وتذهب من فورها إلى روس في محل عمله الذي كان قد أخبرها أنه أغلقه فتجده غارقاً في أعمال لا حصر لها وتتأكد من صدق ما أخبرتها به آن. . . ويعود الجميع إلى قصرهم القديم حيث تجد نينا كل الخدم وكل الخير القديم كما كان. . . فتعاتب روس الذي يذهب بها إلى (دولاب) مجوهراتها فتجدها سليمة لم تبع!! ويعيشان عيشة راغدة جديدة ولكن عيشة كلها جد وعمل!!
وقد لمحنا أثر إبسن في أرنولد بنت واضحاً لأنه ذكر (عروس بيت) غير مرة في ثنايا الدرامة فكأنه كان يقول (أنا أتمم جهود إبسن!!)
أوجست سترندبرج
وما دمنا قد تحدثنا هذا الحديث عن إبسن النرويجي العظيم فلا بأس من إيراد شيء عن منافسه السويدي الكبير أوجست سترندبرج الذي كان يهزأ بتعاليم إبسن ويسخط على دفاعه عنها ويعتبر دراماته ضرباً من الجنون والحماقة يجب عرضه في مستشفيات المجاذيب بدل عرضه في المسارح. . والسر في كراهية سترندبرج للمرأة هو نفس السر الذي جعل الأديب اليوناني الكبير يوريبيدز ألد أعدائها منذ أربعة وعشرين قرنا، فلقد تزوج كل منهما وفشل في زواجه ثلاث مرات وكانت زوجاتهما هن اللائي طلبن الطلاق وعملن له حتى حصلن عليه، وبذا كانت نظرة كل من الأديبين الكبيرين للمرأة نظرة سوداء كلها شؤم وكلها موجدة، وقد وجد يوريبيدز من ينتقم منه للمرأة بعد موته وكان ذلك هو أرسطوفان الروائي الفكاهي الخبيث الذي وضع معظم دراماته في الطعن على يوريبيدز والتشهير به وبآرائه. أما سترندبرج فقد مات ولم يشعر به أحد، لأن إبسن كان يدعو إلى تحرير المرأة دعوة حارة صادقة استجابت لها أوربا بأسرها، وبدأ العالم كله يستجيب لها حتى في مجاهل آسيا وأواسط أفريقيا المظلمة
ولد إبسن سنة 1828 في بلدة سكين في جنوب النرويج ومات سنة 1906
وولد سترندبرج في ستوكهلم سنة 1849 ومات سنة 1912
هزيمة غاندي وانتصار طاغور
انهزم غاندي، وأسدل الستار على الفصل الأخير من درامة المهاتما، ولو قد مات غاندي في إبان مقاومته لإنجلترا في حركة العصيان المدني لاعتبره المؤرخون لغزاً كما لو كان نابليون قد مات بعد يينا أوتِلست. . . ولكن القدر الساخر يأبى إلا أن يلطخ البطولة ويفضحها. . . وذلك بطول العمر!! والحقيقة أن طاغور لم يكن يوماً من الأيام راضياً عن وسائل غاندي، وكان يتهمه بالتهريج والشعوذة كلما رآه يحبذ كهانات الهند ويدمج عقليته في صميم عقلية الجماهير. وكانت غضبة طاغور على المهاتما شديدة قاسية سنة الزلزال المشهور الذي خسف جانباً من الأرض، لأن غاندي عزا الزلزال إلى سخط الإله وغضبه ولم يعزه إلى أسبابه الجغرافية التي يتعلمها صغار التلاميذ في المدارس. ويبدو أن لقب مهاتما أثر أثراً سيئاً في روح غاندي، وملأه بشعور النبوة إن لم يكن الألوهية، ودليلي ذلك ادعاءه غير مرة أنه يصوم بأمر الإله. . . وأنه لم يفعل كذا إلا بعد أن سمع صوت الإله يناديه ويناشده. وقد كانت أول هزيمة غاندي في تجرده من زعامته السياسية وتفرغه للزعامة الاجتماعية. . . وبذا فقد الزعامتين جميعاً، مع أن كثيرين حبذوا تصرف غاندي أول الأمر ولا سيما بعد أن أعلن أنه سيفرد جهاده لخير المنبوذين. . ولكنه، ويا للأسف، أراد من المنبوذين أن يطيعوا الشرائع ويؤدوا ما فرضت عليهم. . . أي أنه لم يحللهم من مبادئ النجاسة. . . ثم غلا هو في امتثاله أوامر دينه فلم يبرح يقدس البقرة ويتبرك بروثها ويتطهر ببولها. . . وذلك ما عيّره به ابنه الذي هداه الله إلى الإسلام أخيراً. . . والحقيقة أن سلوك غاندي الأخير لا يطاق، بل كان سبباً في ثورة الشباب ضده، وتألبهم عليه، واعتبارهم إياه سبب ضعف الهند وخضوعها
وفي هزيمة غاندي انتصار لطاغور من غير ريب. . . رابندرانات طاغور شاعر الهند وأديبها الأشهر وفنانها العظيم. . . الرجل الذي خدم الهند بشهرته العالمية في دولة الآداب أكثر مما خدمها غاندي بسياسته العقيمة وأساليبه الرجعية الواهية لقد كان طاغور يمقت من غاندي عداءه للجسم وتوهينه له وتهريجه لروح على حسابه، وكان يرى أن الجسم نصف الإنسان والروح نصفه الآخر، وأنه ينبغي أن يعنى بهما بمقدار واحد، لا أن نوهن أحدهما على حساب الآخر، فليس روح سليم إلا في جسم سليم، وقد ظل طاغور يشهر من أدبه أسلحة مهلكة على تعاليم غاندي، وبذلك تم له الفوز، وانتشل من يديه شباب بلاده الذين أخذوا يدمنون قراءة قصصه بشغف وتلذذ، بعد ما كانوا يكرهونها بسبب غاندي
قصص طاغور
كان طاغور شاعر قبل أن يكون قصصياً، وأشعاره هي غناء الروح، وبلسم القلوب الجريحة، وشفاء النفوس المكلومة؛ وأغانيه هي هتاف الغاب، وموسيقى أحراش البنغال، ورفيف النسيم الحلو على حقول الأرز فوق عُدْوَتي الكنج! ومن أمتع أشعاره التي كتبها بالإنجليزية (البستاني حيث تبدو مهارته في مزج الحب بالبكاء، والألم بالغزل، والعبوس بالابتسام
وبين طاغور الشاعر وطاغور القصصي صلة لا تنفصم، ذلك أنه يضفي روحه الشعرية على قصصه، فتخرج قصائد طويلة منثورة تنقع غلة القلب، وتؤدب النفس، وتسمو بقارئها فوق أدران البشرية، وتحلق به في سموات من النقاء والصفاء
بيد أننا نفضل أقاصيص طاغور على قصصه، وذلك لبراعته التامة في كتابة القصة القصيرة، وفشله الذريع في القصة الكبيرة؛ فمن يقرأ مثلاً روايته (الضحية)، أو (وكيل البريد)، أو (خالتي)، أو (الناسك). . . . . . الخ روعه من طاغور ذلك الخيال الخصب، والتفكير العميق، والفن الكامل في كتابة القصة أو الرواية
ولكنا، بكل أسف، حينما قرأنا قصته الطويلة (الغرق) وجدناه ينحدر عن ذروته السامية التي كان يحلق فوقها في القصة القصيرة، وذلك لأنه كان كلما وقع خلال القصة في ورطة، أو وصل إلى عقدة لم يجد منها مخرجاً إلا بالركون إلى (الصُّدفة)، ولذا كانت القصة كلها مصادفات قللت كثيراً من قيمتها كقصة من فن طاغور. ذلك بالرغم مما فيها من طلاء الأسلوب وحلاوة الروح الشعري الجميل الأخاذ.
(د. خ)