الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 158/مأساة من سوفوكليس

مجلة الرسالة/العدد 158/مأساة من سوفوكليس

مجلة الرسالة - العدد 158
مأساة من سوفوكليس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 07 - 1936


أنتيجونى

للأستاذ دريني خشبة

سوفوكليس: ولد سوفوكليس سنة 496ق. م، ومات سنة 406 أي أنه عاش عمرا طويلا مباركا قضى منه أكثر من 65 سنة في إنتاج أدبي متصل. ولم يصلنا من مآسيه التي أربت على المائة غير سبع فقط إحداها مأساة اليوم (أنتيجونى)، التي تعتبر أطرف تحفة في الأدب الكلاسيكي المسرحي. وسوفوكليس هو تلميذ إسخيلوس، وقد ظل يقلده ويمشي على دربه أكثر من عشرين عاما ثم استقل بعدها بخطته وطرائقه في الأدب، ولكنه عاد فقلد منافسه الأكبر بوريبيدز. ولم يحدث سوفوكليس ثورة ما في روح الرواية المسرحية ولكنه ثار بالمسرح نفسه من الوجهة الشكلية (التكنيكية) فأكثر من الممثلين وعدد من المناظر وقلل من أهمية الخورس، وقد ساعدته ثروته وعيشته الراغدة على تغذية المسرح برواياته الهادئة التي كان يخدم بها الفن من حيث هو فن خالص، ولا يبتغي بها ثورة على التقاليد أو إحداث تغيير في نظم الحياة. وكان مؤدبا مع الآلهة، فلم يصنع ما صنعه إسخيلوس مع ربات الذعر حين سفه منطقهن في محاكمة أورست مثلا. وسوفوكليس هو أستاذ شاكسبير من حيث تركيز البطولة في أكثر مآسيه في المرأة وسترى ذلك فيما نلخصه لك من المآسي. ولم يتقيد سوفوكليس بالدرامة الثلاثية مثل أستاذه، ولكنه فضل المأساة المستقلة الواحدة وإن كان قد كتب ثلاث مآس في موضوع واحد متصل، فانه كان يجعل كلا من أجزاء هذا الموضوع فصلا مستقلا بنفسه كل الاستقلال عن الفصلين الآخرين، وقد تعلم سوفوكليس الموسيقى في صغره وحذقها وترأس فرقة موسيقية في الاحتفال بذكرى (سلاميس) وكان على قسط كبير من الجمال في صباه، وكانت أدوار النساء في بعض الدرامات - ومنها دراماته - توكل إليه لتأديتها لهذا السبب. ولم يشترك في حروب وطنه (أثينا) لاعتباره من كبار الأعيان ولأنه كان صاحب مصانع الأسلحة التي تزود الجيوش بكل ما تحتاج من عتاد. وقد تورط بسبب حياة الترف التي كان يحياها في غرام آثم كلفه كثيرا من ماله، فاضطر ابنه إلى مقاضاته وطلب من المحلفين الحجر عليه، ولكن سوفوكليس عرف كيف يدافع عن نفسه حتى برئت ساحته، ثم استقام بعد ذلك. وقد فاز سوفوكليس على إسخيلوس للمرة الأولى سنة 468 بدرامته المفقودة (تربتوليموس) ثم فاز في عشرين مباراة بعد ذلك وعين سنة 440 أميرالا للأسطول (وإن لم يخض حربا ما)، وعين سنة 443 عضواً في مجلس الوكلاء (مجلس العشرة) وبحسبه أن يكون أقوى شخصية تمثل عصر بركليس بطوله. ومات قبل أن يشهد سقوط أثينا

- 1 -

حينما اكتشف أوديبوس السر الهائل، وعرف أنه قتل أباه وتزوج من أمه، وأولدها ولديه وابنتيه، جن جنونه، وسمل عينيه، وهام على وجهه في الأرض حيران، وتبعته ابنته التاعسة أنتيجونى، لهديه سبيله إلى غابة كولونوس، حيث غالته ربات الذعر بما لم تجن يداه!

وعادت أنتيجونى لتجد أخويها يقتتلان من أجل العرش. . . . . .

وقتل الأخوان المتحاربان كل بيد الآخر في مبارزة مشئومة واستوى كريون على عرش طيبة، وأصدر أمرين كل منهما نقيض الآخر

أمر بأن تحتفل طيبة كلها بملكها السابق إتيوكليز. . . أما أخوه. . أما يولينسيز. . . فيترك في بطحاء طيبة جزر السباع تنوشه جوارح الطير وكلاب البرية، من غير أن تقام له الشعائر الدينية التي تقام لعباد الآلهة المؤمنين، ومن غير أن يضم رفات قبر، أو يحثى عليها تراب! وقضى أن كل من يجرؤ على مخالفة هذا الأمر فجزاؤه القتل في أبشع صورة. والتنكيل والتمثيل!

- 2 -

(أنتيجونى وأختها اسمنيه أمام القصر الملكي بطيبة)

- (أختاه! إسمنيه! أهكذا قضت السماء أن نتجرع أنا وأنت ثمالة الكأس، والنطف الأخيرة من آلام أوديبوس! ألا حدثي يا أختاه، هل بلغك الأمر المأفون الذي أصدره كريون الملك بخصوص أخوينا؟)

- (أي أمر يا أختاه!

- (لهذا جئت معك إلى هنا كيلا يسمع نجوانا أحد! - (إذن. . . تكلمي! إن نظراتك المضطربة تشف أنباء هائلة!

- (لماذا يفرق كريون بين الموتى في حقوق السماء المقدسة؟ لقد أمر أن تحتفل طيبة بأسرها بجناز إتيوكليز. . . في حين تترك جثة بولينيسيز في عراء طيبة لجوارح الطير، وسباع البرية، من دون ما دفن ولا إقام شعائر. . حتى التراب. . لقد أبى أن يحثي عليه التراب يا أختاه! والآن! لقد أنبأتك بكل شيء! فهل تبرهنين على كرم أرومتك! وشريف عنصرك، فتعاونيني فيما اعتزمت، أم. . .

واشؤماه! وهل بيد ضعيفة مثل حل أو ربط؟! ماذا ترينني أصنع؟

- (ألا تقاسمينني حلو هذا الأمر ومره؟)

- (ماذا تعنين؟

- (نتقاسم، أنا وأنت، فنذهب إلى أخينا من فورنا هذا فندفنه؟!. .

- (ندفنه على الرغم من نذير الملك؟ أهذا رأيك؟

- (إي وايم السماء! سأدفن أخي وأخاك فأما امتنعت فإني لن أنكص، ولن أخون أخوتي وحناني وكبريائي ودمي!!

- (مجنونة!! وكريون! أما تبالين أوامره!)

- (كريون؟ وهل له الحق في منعي من القيام بشعائر ديني نحو أخي؟!)

- (أختاه! أنتيجونى! قليلاً من الحكمة يا أختاه! اذكري كيف كانت نهاية أبوينا العزيزين! أذكر كيف شنقت أمنا نفسها حين علمت أن زوجها هو ابنها؟ واذكري كيف سمل أبونا عينيه وذهب معك إلى كولونوس ليتحسى كأس المنون! واذكري أيضاً كيف اقتتل إخوانا وقتل كل منهما الآخر! أفلم يبق وراء كل أولئك إلا أن نلقى بأيدينا أنا وأنت إلى التهلكة؟! أما عن نفسي، فإني أفضل الخضوع لأمر ولي الأمر، فإني امرأة ولم تخلق النساء لمشاكسة الرجال!

- (إذن. . . فلن أرغمك على شيء. . . وحسب هذه اليد الكريمة أن تقوم بالأمر كله وحدها! يا للفخر أن أضطلع بكل شيء ثم أموت! كم تشيع الكبرياء في نفسي حين ألقى أخي في الدار الآخرة وقد أديت له هذا الحق بمفردي؟! إن هذه الحياة لا بد أن تنتهي، فلم لا تكون نهايتها هذه الجريمة المقدسة؟ أنت تأبين أن تزدري قوانين الأرض، ولكنك لا ترفضين أن تحتقري مع كريون شرائع السماء! فهنيئاً لك! يهنيك ما اخترت لنفسك يا أختاه!

- (أنا لا أزدي ولا أحتقر، ولكن أخشى ثورة الأولياء!

- (كأني بك تعتذرين عن جبانتك! اطمئني! سأذهب وحدي لأدفن جثمان أخي!

- (يا للآلهة! كم أخشى عليك!

- (لا تضيعي خشيتك ومخاوفك عبثاً! عليك نفسك!

- (إذن لا تبوحي بسرك لأحد، وسأكتم أنا الأخرى كل شيء!

- (بورك فيك! بل تحدثي به لكل من يلقاك. . . للناس أجمعين!

- (أنت تتحدين خصومك! يا للطيش!

- (تحد يسر قوماً آخرين. . .

- (هذا إذا نجح قصدك، وتم تدبيرك. . . على أنني أراك تضربين على غير هدى)

- (حسنا! سأحاول، فإذا فشلت فقد أديت واجبي)

- (بل ينبغي ألا يحاول الإنسان المحال)

- (ها. ها. . إن كلامك جدير باحتقاري بقدر ما هو خليق بمقت أخيك. . . اصمتي! على وحدي وزر ما أنا قادمة عليه. . . ولن يحزمني القضاء من موتةٍ شريفة خالدة!)

- (لتذهبي! إنه يبدو لي أن لا سبيل للوقوف بسبيلك، يا طائشة! وإن تكن جرءاتك آية وفائك وبرهان محبتك. .

(تخرج كل منهما من ناحية)

- 3 -

ويقبل الخورس (عجائز طيبة) فينشدون ويهزجون، ويتغنون آلام طيبة ذات سبعة الأبواب وأشجانها، ويرددون ألحان المأساة الباكية. . . مأساة أوديب، ثم يلمح رئيسهم كريون، ملك طيبة وطاغيتها. مقبلا، فيصمت ويصمتون

(يدخل كريون)

- (أيها الأصدقاء! إخواني أبناء طيبة الأخيار! أصغوا إلي! لقد تمت المأساة، وانقرض الذُّكران من نسل لايوس، وبالأمس ما ضرجوا ثرى الوطن بدماء لا يُرضى الآلهة إهراقها، وها قد آلت السلطة إلي، سلطة الحكم، وسلطان الملك، وسلطان الملك محك الرجال؟ وإني آخذ فيكم بخطة هي إلى خيركم أقرب، وعلى وطنكم أجدى؛ لا أحب الجبان، ولا أوقر رجلا يؤثر صالحه أو صالح أصدقائه على صالح الوطن. . . الوطن سفينة الجميع، فيجب على الجميع هدايته إلى شاطئ الأمان، ويجب أن نزيد دائما في عظمة طيبة وعنفوانها ومجدها! ولقد علمتم ما كان من ولدي أودبيوس، وعرفتم كيف كان إيتوكليز يفدي بنفسه بلاده، ويرد عنها جحافل الأعداء الذين جردهم عليها بولينيسيز. . . الخائن! الذي أشقى أمته وأهان دولته وكان عليها شجناً من أشجان الزمان! من أجل ذلك صدرت إرادتنا أيها الأصدقاء بأن تحتفل طيبة بملكها الراحل احتفالاً يليق بتضحياته العزيزة، وأن تمشي الأمة بأسرها في إثره إلى مقره الأخير، حيث يذرف كل منا عبرةً على جثته إلى الأبد قربان المحبة ورمز الإعزاز! أما بولينيسيز! فسينبذ بالعراء فتمزقه الكلاب وتتغذى به جوارح الطير. والويل كل الويل لمن تحدثه نفسه بدفنه، أو حثو التراب عليه. . وسنجزي الظالمين!!)

رئيس المنشدين: (كلمتك قانون على الأحياء، وشريعة من السماء، أيها الملك العظيم!

- (إذن. فلتكن طيبة كلها عيونا ساهرة على تنفيذ أمرنا!)

(لها بقية)

دريني خشبة