الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 157/ذات الثوب الأرجواني

مجلة الرسالة/العدد 157/ذات الثوب الأرجواني

بتاريخ: 06 - 07 - 1936


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تنبيه: الكلام خيالي ولا أصل له، كما مللت أن أقول وأؤكد في كل مرة)

- 4 -

غضبت علينا ذات الثوب الأرجواني. . . وما أعرف لي ذنباً جنيته إلا النظر، وما أحسبها تريد أن تحرم هذا علينا أو تكرهه منا. وأين المرأة التي يسوءها أن ينظر الرجال إليها ويعجبوا بها ويفتتنوا بحسنها؟ أو يسرها أن ينصرفوا عنها ولا يبالوها ولا يعنيهم أبقيت بينهم أو أمامهم، أم اختفت عن عيونهم؟ إن إتباعَ النظرةِ النظرةَ ثناء صامت. والثناء قوت المرأة - وخمرها أيضاً - وقد ترى نساء يسوءهن النظر إليهم لسبب غير راجع إلى وحي الطبيعة في نفوسهن، فيرتبكن ويضطربن، وتضيق الدنيا في وجوههن ويشق عليهم ذلك حتى ليكبر في وهمهم أنهن جنينه على أنفسهن وأثرن فضول الرجال. ولكن حتى هؤلاء لا يكرهن الثناء، بل تشرق له وجوههن، وتنشرح صدورهن، إلا إذا جاوزت الإطراء إلى ما هو خليق بسبب نشأتهن أن يزعجهن. وقد كنت مرة أتعلم الفرنسية وأتلقى دروساً فيها على فتاة أمها روسية وأبوها نمسوي، فاستغربت بعد بضعة أيام أنها تلقاني متجهمة! وبدا لي أنها تستثقل الدرس والتلميذ، فشكوت إلى صديق وقلت له: إن معلمتي لا تكف عن النفخ، وأنها طول الدرس تتأفف، وإني أريد أن أبحث عن معلمة أخرى، فلست أطيق هذا الضجر الذي لا تنفك تواجهني به. فقال: (لا تفعل). قلت: (ولكني لا أستطيع الصبر على هذه الحال). قال: (لك العذر، ولكن ضاحكها وعابثها. . . اثن على حسنها. . . غازلها برفق، أي من غير أن تخرج عن حدود الأدب). فوعدته أن أجرب ذلك، وقد كان. أقبلت عليها فأقبلت عليّ، وصارت تهش لي وتبش، وأصبحت تلميذها الأثير. وكان لي زميل يتلقى عليها دروساً في وقت آخر، وكان مثلي قبل أن يرشدني صديقي، أي أنه كان معها كأنها معلم بلحية لا معلمة مدلّة بجمالها وشبابها، فكان إذا جاء تعبس وتقول: فلينتظر! فأقول لها: (بل أخرج أنا لئلا يغضب فيضيع عليك درسه)، فتقول: (دعه يغضب. . . إنه يملني ويزهق روحي). وكان اسمه (عثمان أفندي) فصرنا - هي وصديقي الذي علمني وأنا - نطلق اسم (عثمان أفندي) على كل من نراه بليدا جامدا في حضرة النساء.

وأعود إلى ذات الثوب الأرجواني فأقول إنها كانت راضية عني. وآية رضاها أنها ظلت أياماً لا تبدو لي إلا في ثوب أرجواني. وكنت لا أراها إلا خفيفة مرحة، وإذا بها - فجأة - تخرج إلى الشرفة في صباح فلا تكاد تراني حتى تنثني راجعة، فأعجب وأتساءل: (ما لها؟. . .) ولا أجد جواباً لسؤالي، فأهز كتفي وأقول: (سنرى)، ولكني لا أرى بعد ذلك إلا الإعراض والنفور وطول الاحتجاب، فلا يسعني إلا أن أعرض أنا أيضاً، وأن أظهر قلة المبالاة؛ فلا أفتح النافذة ولا أطل منها إذا كانت مفتوحة، ولا أنظر إليها إذا طلعت، فان في طبعي عناداً، وأنا مفطور عليه وعلى المجازفة، ولست أعرفني اكترثت للعواقب حين يستفزني شيء. وما أكثر ما أخسر بسبب ذلك. ولكني أستطيع أن أكبح ثورة نفسي ولا أستطيع أن أصرفها عن الزهد. وما عجزت قط - إلا في الندرة القليلة - عن ضبط عواطفي وصد نفسي عن الاندفاع، ولكني أراني عاجزاً عن علاج نفسي إذا انصرفت عن الشيء وحملها على الإقبال عليه مرة أخرى. وقد كانت أمي تقول إن قلبي أسود، وكانت تعني بذلك أني لا أنسى الإساءة؛ على أني لا أنسى المعروف أيضاً ولا أجحده، فأنا كما يقول ابن الرومي: (للخير والشر بقاء عندي)، وقد صدق فأنا من طينة الأرض، (والأرض مهما استودعت تؤدي). وما أساء إليّ أحد إلا نازعتني نفسي أن أنتقم منه، ولكني لا أزال أحاورها وأداورها حتى أقنعها بان الدنيا تغيرت، وأن أخلاق البدو لا تصلح في هذا العصر المتحضر، وأن الناس لا يقتل بعضهم بعضاً في هذا الزمان من أجل تمرة أو من جراء كلمة يسبق بها اللسان، حتى تسكن وتكتفي بالانصراف.

وجلست أحاسب نفسي وأسائلها عن ذات الثوب الأرجواني ما خطبها؟. ولِمَ تبدي هذا النفور؟. أتراها تتكلفه؟. ألعل أهلها قد أغلظوا لها وضيقوا عليها فرأت أن تخفف عن نفسها وتعفيها من ثقل تدخلهم بالاحتجاب؟. ألا يجوز أن يكونوا قد كرهوا مني طول النظر إليها فكلموها في ذلك فلم يسعها إلا أن تكف عن الظهور؟. جائز!! ولكن من الجائز أن أكون قد صنعت شيئاً أغضبها. . ومن الحزم على كل حال أن أعرض أنا أيضاً إلى حين، حتى تسكن الثورة التي لعلها ثارت في بيتها وبين أهلها. . ولكن من الإنصاف أيضاً أن أحاسب نفسي قليلاً. . فتعال هنا. . أخل بنفسك واجتهد أن تتذكر. .

فتذكرت. . . ذلك أني كنت يوماً في حجرتي فزارني صديق: وكان الجو حاراً جداً ففتحت له النوافذ جميعاً، فقال لي بعد برهة: (أنظر. .) فسألته (ماذا؟) قال (هذه النافذة. . ألا ترى الفتاة التي تبدو منها؟) قلت: (إنك بعيد النظر. . وأنا أعترف أني لا أرى فتاة وإنما أرى ذراعاً) قال: (هذا ما أعني. . لا يبدو منها الآن إلا ذراعها ولكنها كانت منذ لحظة تطل علينا وتنظر إلينا). قلت: (جائز. . كل شيء جائز. . صحيح إن العمارة التي نحن فيها سبع طبقات. . أو عشر. . لا أدري. . وفي كل طبقة شقق كثيرة. . ولكل شقة نوافذ وشرفات لم أعدها. . وقد يكون في بعض هذه النوافذ والشرفات التي لا نراها رجال يطلون منها. . ولكن المعقول أن الفتاة التي لا أزال لا أرى منها غير ذراعها - تنظر إلينا نحن دون هذا الخلق الذي لعله في الشرفات والنوافذ ونحن لا ندري

قال: (لا تمزح. . إن نظرتها إلينا نحن. . وهل يخفى اتجاه النظر؟)

قلت: (ما يدريني ويدريك؟. ألا يمكن أن تكون حولاء؟؟ تعرف كيف ينظر الأحول!؟ تكون عينه عليك ولكنه لا يراك بل يرى الذي إلى اليمين أو إلى اليسار. . أليس هذا جائز؟)

قال: (حولاء؟؟ كلا!! من قال هذا؟؟ كلام فارغ!! إن عينيها جميلتان جداً)

قلت: (معذرة! إني - كما تعلم - لم أر سوى ذراعها. . وعهدي بالعيون تكون في الوجوه لا في الذراع. وأظن أن هذا النظام لا يزال هو المتبع في الخلق. . . على كل حال لم أر عينيها الجميلتين. . .)

قال: (والله إنها تنظر إلينا)

قلت: (صادق. . صادق. . . هذه أصابعها تنقر على حافة النافذة ولا شك أنها تعنينا الآن. .)

فقال: (دع المزاح بالله. . أنظر. . أنظر. .)

فنظرت. . وكففت عن المزح بلا حاجة إلى زجر آخر. . وكانت الفتاة سمراء - لا بيضاء كذات الثوب الأرجواني - وكانت نظرتها إلينا - لا شك في ذلك - والرجل يدير رأسه أن يرى امرأة تُتْئره النظر ولا تكاد تحول عينها عنه. فإذا كنت قد نهضت إلى النافذة وأخرجت رأسي منها ورحت أحدق في هذه السمراء الجميلة التي تقبل عليه ولا تعرض عنا أو تتدلل علينا، فأظن أن لي العذر. . ومن أين لي أن أعرف أن ذات الثوب الأرجواني كانت واقفة في هذه اللحظة وأنها كانت تراعيني وتراقبني؟؟ ولو كنت أعرف ذلك لما صدني عن النظر، فأن حبي لذات الثوب الأرجواني ليس معناه أني عميت وأن عيني لا تستطيع أن ترى غيرها وأني فقدت القدرة على الإعجاب بالجمال في مظاهره المختلفة. ولكن المرأة أمرها غريب، وإني لأذكر أني كنت راكباً مع فتاة من صديقاتي - وكنت أنا السائق كما لا احتاج أن أقول - فرأيت فتاة جميلة واقفة على الرصيف فتمهلت لأنظر إليها، وإذا بصديقتي تقرص أذني فصرخت فقالت: (هذا جزاؤك) فسألتها: (ماذا صنعت؟. . بأي شيء أستحق أن تقطعي لي أذني؟؟. وكيف أستطيع أن أسمع صوتك الحلو بعد ذلك) فقالت (ابق اسمع صوت التي كنت تنظر إليها الآن) قلت (مالها؟. . ألا تعجبك؟. ألا ترينها جميلة؟) فعادت إلى القرص، وعدت إلى الصراخ، حتى كدت أستنجد بالمارة. وقد ساء رأي صاحبتي في بعد ذلك، وصارت كلما ركبت معي تشترط ألا أنظر لا يميناً ولا شمالاً، فأقول: (ولكن لماذا؟ ما الضرر من النظر والتلفت؟ ثم كيف أستطيع أن أثبت عيني في اتجاه واحد وقد خلق الله لي عينين تتحركان ولا تثبتان؟) فلا تجيب عن السؤال وإنما تروح تهددني وتتوعدني فأخاف فأن لها قرصاً حامياً وأنا جلدي رقيق. ولكني لا أفهم هذا التحكم من المرأة. وما أكثر ما قلت لإحداهن وقد أغضبها أن لي عيناً ترى وقلباً لا يسعه إلا أن يحس (يا ستي إن لك حديقة زهر. وفيها الفل والياسمين والورد الأحمر والأبيض والنرجس وما لا أدري أيضاً. . وأنتن يا نساء كالزهور. . فلماذا تريدين ألا تكون في حديقتي إلا حواء واحدة؟)

فتقول: (بالله دع هذه الفلسفة السخيفة. . . ثم إني أكره المكايدة)

فأؤكد لها أني لا أقصد إلى المكايدة، وأقول: (نعم أن حواء واحدة مصيبة. . . وثقي أن غلطة أبينا آدم هي أن جنته لم يكن فيها إلا هذه الحواء المفردة. . ولو كان فيها. . سواها. . عشر مثلاً أو عشرون. . لما خرج من الجنة)

فتثور بي وتذهب وتعدو ورائي فأضع ذيلي بين أسناني وألوذ بالفرا)

وما أشك في أن ذات الثوب الأرجواني أسخطها عليّ نظري إلى السمراء. وما تعنيني السمراء لو علمت. ولكنها المرأة لا تعرف إلا نفسها ولا ترضى عما تسميه (العين الزائغة) وهي تشعر بالمنافسة من كل امرأة مثلها، ولا تستطيع أن تفسر النظر إلى امرأة غيرها إلا بأنه تفضيل لهذه الأخرى عليها ولو كانت واثقة من حب بعلها أو رجلها. كنت مرة أتنزه في إحدى الحدائق مع صديقة فقالت: (هل نركب زورقاً؟) فاستحسنت هذا الرأي وانحدرنا إلى الماء واستأجرنا قارباً، وقبل أن نمضي به تناولت ذراعي وهمست في أذني: (لا تتحرك. . إني لا أكاد أصدق)

فرفعت عيني إليها فألفيتها ناظرة إلى الحديقة التي انحدرنا عنها إلى الماء. وكان الهواء ساكناً والمنظر الذي أمامنا كأنه مرسوم، وكان لفرط جماله يذكرني بأعذب ما قرأت من الأغاني. ثم أشارت بيد أحلى من أناشيد سيمان بن داود وقالت: (ليتني أستطيع أن آخذها!!.) وكأنما قرأت في وجهي استغراب هذا الكلام فقالت (إنها أحلى لعبة رأيتها في حياتي!)

فقلت مستفسراً (لعبة؟؟ هل قلت لعبة؟؟ أين هي؟)

فصاحت بي وهي تشير بأناملها المغرية (هذا. . هذا. . هذا المنظر. . ألا يروقك؟)

فأدركت مرادها وإن كنت قد بقيت أستغرب عبارتها، وقلت (لا. . ليس هذا لعبة. . وإنما هو أسطورة. .)

فهزت رأسها كالموافقة ثم وضعت راحتها على كتفي وقالت (إني سعيدة لأني رأيت هذا)

قلت: (هو أسعد منك. . وما أكثر ما رأى هذا البستان من نساء ولكنه احتاج أن ينتظر إلى اليوم حتى تروده حواء لها دل الفتاة وقلب الطفل)

قالت: (لا أظن. .) ثم رفعت وجهها إليّ وقالت:

(انتظر. . لا تتحرك. . إني أنظر إلى نفسي في عينيك)

فقلت - وقد أعجبني ذلك: (حسن. . والآن. . لا تتحركي أنت. . فأني أتأمل قوس هذه الشفة. . .)

فذهبت إلى آخر الزورق وأرسلت لي مع الريح قبلة

وقالت وهي تجلس هناك: (إن الذي يعجبني منك هو هذا. . أنك لا تأخذني على غرة. . الأكثر في الرجال يعدون المرأة صيداً أو قنصاً. . أما أنت فتشجعني على استعمال حريتي وعلى الشعور بأن لي استقلالاً وإرادة يجب أن يحسب حسابهما. . وكأني بك يسرك أن تدع غيرك يحيا حياته على هواه هو، أكثر مما يسرك أن تفوز من دنياك بمتع حياتك. . والآن ألا نمضي؟؟) فقلت وأنا اضرب الماء بالمجداف: (إن فيما قلته عني بعض الغلط. . فأنا احب أن أصحح لك هذا. . وأنا أعترف أني لست وحشاً. . إذا كان هذا ما تعنين. . ولكن نظريات أفلاطون لا تروقني. . نعم يسرني أن أرى كل إنسان يحيا حياته كما يروقه - ولم لا؟ - ولكن من أبرز نقط الضعف في نفسي أني أحب أن أحيا أنا أيضاً كما أشتهي)

فدنت مني وأراحت أناملها على كتفي، وأسندت وجهها إلى صدري وقالت وهي تضحك: (إنك عبيط. . ألست كذلك؟ وهذا هو الذي يحببك إليّ. .)

قلت: (يا ملعونة. .) وأحطتها بذراعي - (ارفعي فمك فإني أريد أن. . أسوي ربطتي في مرآة عينيك. . .)

وفي هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات خطرت في دائرة نظري فتاة كان لا يسعني إلا أن أراها. وليس لي في هذا حيلة ولا كان مني عن عمد. ولكنها صارت أمام ناظري، فأنا لا بد أن أبصرها. وأحست صاحبتي أن عيني تحولت - كما كان لا بد أن يحدث - فحولت وجهها إلى حيث أنظر فأبصرت الفتاة، فما كان منها إلا أن انتفضت قائمة، وضربت المجداف من يدي، وصاحت بي:

(ارجع بي حالاً. . . إلى البر. . . قبل أن نبعد. .)

فذهلت وقلت: (ولكن لماذا؟؟. . . إنا لم نبعد إلا خمسة أمتار. . .)

قالت: (ليتنا بعدنا جداً. . . ولكن لا. . . كنت إذن أبقى مغشوشة. . . مخدوعة. . . ارجع. . . أقول لك ارجع. . .)

ولا حاجة إلى رواية كل ما قالت وما أجبت به، وليثق القارئ أن ريقي نشف كما لم ينشف قط، فقد ثقل عليّ هذا الطبع، وأضجرتني هذه الغيرة السخيفة التي لا محل لها على كل حال. فبعد أن تألفتها من نفرتها ذهبت ألقنها درساً لا أظن أنها ستنساه في حياتها

ولكن أمثال هذه الدروس لا خير فيها ولا جدوى منها؛ وما أظنها إلا كالكتابة على الماء

وقد تظهر المرأة مجاراتك ساعة تتلقى الدرس، لأنها ترى هذه المجاراة والتظاهر بالاقتناع والتوبة أحزم وأحسم للنزاع، ولكنها لا تملك أن تغير طبيعتها، فهي تظل على الرغم من دروسك كما هي

وقد أحنقني من ذات الثوب الأرجواني هذا النفور الذي لا داعي له، فغضبت وثرت وانتفضت، فرميت ورقات كانت بيدي؛ وكنت جالساً بحيث أراها وتراني، ويظهر أن ما رأته من خروجي عن طوري المألوف أدهشها جداً، فقد رأيتها تهب وتطل، فِعْلَ من يريد أن يثبت ويتحقق. ومضيت أنا في ثورتي، فجعلت أروح وأجيء في الغرفة، وأقول لنفسي:

(لماذا تحرمُ قبل أن تعطي؟؟ لماذا تبدأ بالمنع ولا تبدأ بالجود؟؟ لماذا تؤثر السوء ولا تؤثر الخير؟ ما هذه الطباع؟ وماذا جنيت أنا؟ إني أراني وهبتها الشعور بحسنها حين أحببتها، ولو أنها لم يحببها أحدٌ لما وسعها أن تدرك أن لها حسناً يعشق وجمالاً يُحب. . . فشعورها بحسنها هو هبةُ وعطية مني، لأني أحببتها. . . فكيف تتيه عليّ وتتدلل، وتحاول أن تعذبني جزاء لي على مجهودي الذي استفادت هي منه ولم أستفد أنا شيئاً؟

أي يدٍ لها عليّ؟؟ أني أراها؟؟ فكل من شاء أن ينظر إلى شرفتها ساعة تكون فيها يستطيع أن يراها مثلي فلا فضل لها في ذلك يحسب عليّ. . ماذا غير ذلك؟ لا شيء. . انتهينا إذن!

. . وما دامت لا تختصني بشيء فلا حق لها فيما تتكلفه من حرماني. . . لو كانت لم تتكلف لما عبأت ولما أحسست أن في الأمر عمداً. . ولكنها عامدة ولست أنوي أن أشايعها على ظلمي. . إذن فأنا أنفر كما تنفر. . . وأحتجب كما تحتجب وليكن ما يكون!)

وبعد أيام عدت أقول لنفسي: (اسمع. . إنها ليست مثلك. أنت تستطيع أن تخرج، وتروح، وتجيء، وتتسلى وتتلهى، ولكنها مسكينة لا تملك ما تملك من الحرية ومن وسائل التعزي. . وما يدريك أنها ليست مضطرة إلى هذا الذي ثقل عليك وكرهته منها؟؟ ولا تنس أنها رقيقة القلب. . أليست قد رأت أنك تشكو ألماً في ذراعك فحدثتك نفسك أن قد بدا لك منها عطف كان له وقع حسن في نفسك

وقد توسطت وخير الأمور الوسط - كما يقولون - فأنا لا أتكلف الاحتجاب ولا أتعمد أو أتحرى أن أراها، وأدع هذا وذاك للمصادفة؛ وسأرى ما يكون. وأخوف ما أخافه أن أمل هذا التعب العقيم فيركبني عفريت العناد وأجازف

إبراهيم عبد القادر المازني