الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 157/بين عالمين

مجلة الرسالة/العدد 157/بين عالمين

بتاريخ: 06 - 07 - 1936


نظام الطلاق في الإسلام

للأستاذ أحمد محمد شاكر

منذ بضعة أشهر أخرجت كتابي (نظام الطلاق في الإسلام) فتقبله العلماء الأعلام في مصر وفي سائر الأقطار بقبول حسن والحمد لله، وأكثروا من الثناء عليه وعلى مؤلفه، وجاءتني كتب متواترة من كبار علماء الإسلام في الحجاز والهند والعراق والشام وغيرها، ومن كبار المستشرقين في أقطار أخرى، ولا أراني أهلاً لكل ما أثنوا به عليّ، وإنما هو حسن الظن منهم، وقد أعجزني أن أوفيهم حقهم من الشكر على هذا الفضل الجمّ، وأسأل الله أن يجزل لهم المثوبة على فضلهم

وفي بعض ما جاءني من الكتب أبحاث قيمة من النقد العالي المبني على الحجة والبرهان، مما يصلح أن يكون مثالاً يحتذى للباحثين المجتهدين، في دقة النظر، وعلو الفكر، وأدب القول، والتسامي عن العصبية والهوى، والتزام ما ينصره الدليل الصحيح؛ وهي الخصال التي نرجو أن يسير على نهجها كل عالم مفيد، وكل طالب مستفيد، وخصوصاً في علوم الدين. وهي الخصال التي جاهد أسلافنا في سبيل حمل الناس على الأخذ بها واتباعها، ثم تبعناهم من بعدهم، فجاهد أخواني وجاهدت معهم في سبيل ذلك جهاداً كثيراً، منذ نيف وعشرين سنة، ولا نزال - والحمد لله - نسير على هذا النهج القويم، والصراط المستقيم.

ومما يجب عليّ، إحقاقاً للحق، واتباعاً لسبيل الهدى، أن أفكر فيما ورد على كتابي من اعتراض ونقد، وأُعيد النظر فيما اخترتُ ورأيتُ، وأكشف عن حجة خصمي وعن حجتي، لي وللناظرين: فأما انتصر قول خصمي ورجعتُ عن قولي، وإما انتصرتُ لقولي وزدته بياناً وتأييداً، لا أبالي أي ذينك كان، وإنما أنا طالب علم، فأي قول أو رأي نصره عندي الدليل فأنه العلم الذي أطلبه وأسعى إليه، لا ابغي به بدلاً.

ولذلك رأيت أن أنشر في (الرسالة) الغراء - مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية - ما أراه جديراً بالنشر مما جاءني من نقد واعتراض، وأساجل كاتبيه البحث، أملاً في أن يشترك معنا كثير من العلماء الأعلام في هذا المجال، علنا نصل إلى الحقيقة فيما كان موضع اختلاف ونظر. وقديماً قال الناس: الحقيقة بنت البحث.

ومن أشرف ما وصل إليّ وأعلاه: كتاب كريم من صديقي الكبير وأستاذي الجليل، شيخ الشريعة، وإمام مجتهدي الشيعة، بالنجف الأشرف، العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء؛ فقد تفضل - حفظه الله - بمناقشة رأيي في مسألة من مسائل الكتاب، وهي (مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته)، فإنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وإنه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتدّ به. وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل، ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية. وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي، ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة. واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما، والدليل واحد فيهما، فرأى الأستاذ - بارك الله فيه - أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم. وله الحمد والمجد

من النجف الأشرف 8 صفر سنة 1355 إلى مصر

لفضيلة الأستاذ العلامة المتبحر النبيل الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم أيده الله

سلامة لك وسلام عليك. وصلتني هديتك الثمينة رسالة (نظام الطلاق في الإسلام)، فأنعمت النظر فيها مرة بل مرتين إعجاباً وتقديراً لما حوته من غور النظر، ودقة البحث، وحرية الفكر، وإصابة هدف الحق والصواب. وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاءة أغشية الأوهام، وحطمت قيود التقاليد القديمة وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة. فحياك الله، وحيا ذهنك الوقاد، وفضلك الجمّ

وأمهات مباحث الرسالة ثلاث: (1) طلاق الثلاث (2) الحلف بالطلاق والعتاق (3) الإشهاد على الطلاق

وكل واحدة من هذه المسائل الثلاث قد وفيتها حقها من البحث، وفتحت فيها باب الاجتهاد الصحيح على قواعد الفن ومدارك الاستنباط القويم من الكتاب والسنة. فانتهى بك السير على تلك المناهج القويمة إلى مصاص الصواب، وروح الحقيقة، وجوهر الحكم الإلهي، وفرض الشريعة الإسلامية.

وقد وافقت آراؤك السديدة في تلك المسائل ما اتفقت عليه الإمامية من صدر الإسلام إلى اليوم، لم يختلف فيها منهم اثنان، حتى أصبحت عندهم من الضروريات، كما اتفقوا على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة، مع اتفاقهم على لزومه في الطلاق، بل الطلاق باطل عندهم بدونه

وقد ترجح عندك قول من يقول بوجوب الإشهاد فيهما معاً. فقلت في صفحة (120) ما نصه: (وذهبت الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، كما في كتاب شرائع الإسلام. . . ولم يوجبوه في الرجعة. والتفريق بينهما غريب ولا دليل عليه) انتهى

وفي كلامك هذا (أيدك الله) نظر أستمحيك السماح في بيانه، وهو أن من الغريب حسب قواعد الفن مطالبة النافي بالدليل والأصل معه! وإنما يحتاج المثبت إلى الدليل. ولعلك (ثبتك الله) تقول قد قام الدليل عليه، وهو ظاهر الآية، بناءً على ما ذكرته في صفحة (118) حيث تقول: (والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً) إلى آخر ما ذكرت، وكأنك (أنار الله برهانك) لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة، كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام، وألا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه، حتى إنها قد سميت بسورة الطلاق، وأبتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: (إذا طلقتم النساء) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة، أي لا يكون في ظهر المواقعة ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق، حيث قال عز شأنه: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) أي إذا أشرفن على الخروج من العدة فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة، ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه، ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلا تبعاً واستطراداً. ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله، سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فانك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم، لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه. وهذا لعمري حسب قواعد العربية والذوق السليم جليٌّ واضح، لم يكن ليخفى عليك، وأنت خِرِّيتُ العربية، لولا الغفلة (والغفلات تعرض للأريب) هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآيات الكريمة

وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها. وهو: أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض الى الله سبحانه وتعالى من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعيّ اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة، سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة، بعدما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى. فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه، على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيودُه، عَزّ أو قلّ وجودُه، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولاً، ولحصول الأناة والتأخير ثانياً، وَعسى إلى أن يحضر الشاهدان، أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة، كما أشير إليه بقوله تعالى (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم، مضافاً إلى الفوائد الأخر.

وهذا كله بعكس قضية الرجوع: فان الشارع يريد التعجيل به، ولعل للتأخير آفات، فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط. وتصح عندنا - معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة، ولا يشترط فيها صيغة خاصة، كما يشترط في الطلاق. كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده، والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقهم. وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع، وهي - أي المطلقة الرجعية - عندنا، معشر الإمامية، لا تزال زوجةً إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية

فهل في هذا كله مقنع لك في صحة ما ذهبت إليه الإمامية من عدم وجوب الإشهاد في الرجعة بخلاف الطلاق؟! فان استصوبته حمدنا الله وشكرناك، وإلا فأنا مستعد للنظر في ملاحظاتك وتلقيها بكل ارتياح، وما الغرض إلا إصابة الحقيقة، واتباع الحق أينما كان، ونبذ التقليد الأجوف، والعصبية العمياء، أعاذنا الله وإياك منها، وسدد خطواتنا عن الخطأ والخطيئات، إن شاء الله، ونسأله تعالى أن يوفقكم لأمثال هذه الآثار الخالدة، والأثريات اللامعة، والمآثر الناصعة، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً، ولكم في الختام أسنى تحية وسلام من

محمد الحسين آل كاشف الغطاء.

ملاحظة: ومن جملة المسائل التي أجدت فيها البحث والنظر: مسألة بطلان طلاق الحائض، وقد غربلت حديث ابن عمر بغربال الدقيق، وهذه الفتوى أيضاً مما اتفقت عليها الإمامية، وهي بطلان طلاق الحائض إلا في موارد استثنائية معدودة.

هذا هو نص كتاب الأستاذ شيخ الشريعة، لم أحذف منه شيئاً، إلا كلمة خاصة لا علاقة بها بالموضوع، وإنما هي عن تفضله بإهداء بعض كتبه إليّ. وسأحاول أن أبين وجهة نظري، وأناقش أستاذي فيما رآه واختاره، بما يصل إليه جهدي في عدد قادم، إن شاء الله.

أحمد محمد شاكر

القاضي الشرعي