الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 149/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 149/البريد الأدبي

بتاريخ: 11 - 05 - 1936


سجموند فرويد في تمام الثمانين

يحتفل العالم هذا الأسبوع بالعالم السيكلوجي الكبير سجموند فرويد لبلوغه الثمانين. . . وقد يبتسم القارئ حين يذكر بيت شاعرنا العربي الخالد (إن الثمانين وبُلّغتها. . . . . .) لاسيما إذا علم أن فرويد المحتفل به، والذي يعتبر واحداً من أعظم علماء العصور الحديثة إن لم يكن أعظمهم جميعاً، هو رجل ضعيف البنية هزيل الجسم، قد تحالفت عليه الأمراض. ولكنه بالرغم من ذلك يملك عقلاً جباراً لا يكل من التفكير، ولا يفتر نشاطه أمام ما ينتاب بدنه من الأوصاب

ولد فرويد في مايو سنة 1856 من أبوين يهوديين في مدينة فريبرج من أعمال مورافيا، والإمبراطورية النمسوية إذ ذاك في عنفوان مجدها. وبعد أربعة أعوام ذهب به أبوه إلى فينا حيث تعلم في مدارسها وقضى صدر شبابه في ربوعها؛ ولما بلغ من العمر التاسعة والعشرين غادرها إلى باريس (1885) بقصد التزود من الثقافة العالية التي كانت باريس مثابتها في هذه الآونة - ولكنه - لأمر ما - لم يلبث في باريس غير سنة واحدة عاد أدراجه بعدها إلى فينا

وكانت نفسه تجيش بآمال كبار، وكان ينظر إلى أساليب التفكير السائدة في أوروبا في ذلك الوقت كأنها أصبحت أساليب عتيقة لا تليق برقي الإنسانية التي تتيه بعصرها الحديث على جميع العصور القديمة والوسطى. وكانت عوامل الثورة في نفس فرويد الشاب تنفجر في الفينة بعد الفينة، ولكنها كانت تكبت بقوة وقسوة تلقاء التيار الرجعي الجارف الذي كان يكتسح النمسا في ذلك الوقت. فلقد حدث أنه ألقى أولى محاضراته بعد أن عاد من باريس عن الهستريا ومسبباتها النفسية الباطنية، وكان ذلك في جمعية الأطباء بفينا، فما كاد ينتهي من محاضرته حتى ثارت في الصالة عاصفة هوجاء من الضحك منه والسخرية به وبآرائه، وحتى انصرف العلماء الأفاضل يتهكمون به ويلمزون آراءه لمزاً شديداً قاسياً! ولقد كان لهذه الصدمة صداها الشديد في نفسه، فآثر أن يعتزل هذا الجمهور الفظ من العلماء الجهلة - إن صح هذا التعبير - وأن يعمل للعلم وحده بعيداً عن ضجيج هؤلاء الأصنام، وبمعزل من صخبهم. بيد أنه لم يسلم، برغم هذه العزلة من خصومه ولدد يثيرهم عليه كثير من الدوائر العلمية وغير العلمية لا بحجة آرائه المتطرفة فيما هو بسبيله من مباحث ونظريات فقط، ولكن بسبب يهوديته أيضاً

ولم يثر أحد من العلماء حوله من الخصومة مثل ما أثار فرويد، ولكنه ألح بآرائه على خصومه إلحاحاً عجيباً حتى سحرهم بها وحتى جعلهم من أشد المعجبين بها والمتحمسين لها. وبحسبك أن تعلم أنه ما من قصة حديثة أو درامة يقدمها كاتب إلى مسرح من المسارح إلا ولفرويد أثر كبير في صاحبها. فليس في العالم الآن كاتب لم يدرس نظريات فرويد في العقل الباطن، وليس في العالم الآن باحث سيكلوجي أو مرب لم يهتد في أبحاثه أو فنه بمجهودات فرويد وتحليلاته العجيبة لهذه النفس الإنسانية التي لم نكن قبله نعرف منها إلا جانباً قليلاً:

ولقد كتب فرويد - هذا الأسبوع - بمناسبة بلوغه الثمانين - كلمة جاء فيها:

(العقل الإنساني في نظري عبارة عن جبل من الجليد طاف في الماء، لا يبرز منه فوق السطح غير سبعه فقط، أما الأسباع الستة الأخرى فهي دائماً تحت السطح. . .) وكأنه يريد أن يقول إننا لا نعرف من العقل إلا سبعه فقط، أما ستة أسباعه الأخرى - وهو ما يسميه العقل الباطن - فمضمرة، لا نعرف منها إلا القليل. وفرويد على حق في هذا التشبيه الغريب للعقل لأنه هو قد أثبت أن العقل الباطن إن هو إلا خزانة عجيبة اختبأت فيها غرائز الإنسانية الأولى وميولها الفطرية التي هي تراث الأحقاب والآباد والتي تطفو على السطح فتكون ذات أثر بليغ في عقلنا الواعي

وبالرغم مما لهذا الباحث العبقري من آراء ونظريات في الإيحاء والأحلام والاستهواء والمركبات والعُقد النفسانية فأنه ينفي عن نفسه في كلمته التي أشرنا إليها أنه صاحب نظرية أو مذهب أو أنه استحدث علماً جديداً. . . فهو يقول: (يخطئ من يزعم أنني صوفي أعطف على الإنسانية أو أحب الخير للبشر، أو أنني عالم صاحب نظريات استحدثتها بعد أن كانت خافية على الناس. . لا. . لست شيئاً من ذلك. . بل أنا أدع الناس يحلمون أحلامهم وقد أتركهم يستغرقون أنفسهم في مستقبلهم. . . ثم أقف منهم عن كثب ألاحظ وأشاهد وأتفرج. . . ثم أقيد ملاحظاتي، وأقارن وأعلل وأؤلف!)

وعلى ما بلغه فرويد من الثقافة العالية فأنه ما يزال يهزأ من مدارك الإنسان ويدعوها قشورا لا غناء فيها. . . أو فيها غناء قليل: (ما ثقافتنا هذه؟ ماذا عرفنا من النفس الإنسانية؟ ماذا كشفنا من سر هذه الحياة؟)

والعجيب أن فرويد ما يزال مؤمناً بالإنسانية إلى حد كبير، وهو يتشوف لها عن مستقبل باهر برغم تلك المجازر التي تلطخ وجه الأرض بالدماء من أجل أطماع وضيعة. وهو يقول إن الحرب ستعجل بهذا المستقبل الجميل، لأنها وحدها ستثير الكراهية في نفوس الناس منها فيمقتونها إلى الأبد، ويعدونها كلما فكروا فيها نكسة منهم إلى الوحشية

ولقد عاش فرويد مخلصاً لأبحاثه إخلاصاً مدهشاً، فكان يكب عليها إكباباً يذيب الصبر الجميل، وكان يمقت كل من يصرفه عنها إلى غيرها، وكان كثيراً ما يتمثل بما كان يقوله أناطول فرانس إذا حدثه أحد بهراء لا شأن لأبحاثه به:

' ?)

ولعل أحسن مكافأة لهذا الرجال العالم أن تجتمع لجنة لتكريمه مؤلفة من بعض خصومه بالأمس، وأشد المعجبين والمتأثرين به اليوم، نذكر منهم الكاتب العالمي الأشهر هـ. ج. ولز، ورومان رولان، وستيفن زديج، وجول رومان، وتوماس مان. . وغيرهم وغيرهم. . . ولا ندري هل تشترك كل من روسيا وأمريكا في تكريمه؟ فهو معجب بروسيا وقد تأثر إلى حد كبير بتحليلات دستويفسكي وإضرابه. أما أمريكا فما نحسبها تشترك في هذا التكريم، فهو قد هجا مدنيتها كثيراً، ولم يفته أن يلذعها في كلمته الأخيرة من طرف خفي

ويقال إن لجنة تكريمه ستقترح على لجنة جائزة نوبل أن تمنحه جائزتها عن هذا العام لمناسبة بلوغه الثمانين. ونحن نشك في أن تستجيب لجنة نوبل لهذا الرجاء، فقد عرف أعضاؤها بكراهية فرويد، وهذا هو محل الدهشة

دريني

المعجم اللغوي الوسيط

اجتمعت بمكتب صاحب السعادة وزير المعارف لجنة المعجم اللغوي الوسيط للمرة الأولى وقد رحب بالأعضاء سعادة الوزير وألقى فيهم الكلمة الآتية: -

أحييكم أطيب تحية، وأشكر لكم تلبية دعوتي للاشتراك في عمل المعجم اللغوي الوسيط، وقد أردت أن أنتهز فرصة الاجتماع الأول لأبين لحضراتكم مبلغ عناية الوزارة وحرصها على هذا العمل الجليل، ولأتشرف بالتعرف إلى من لم يسبق لي رؤيته من حضراتكم

وإنه لحظ سعيد لي فوق كونه حظا عاما أن يشرع في هذا العمل وأنا وزير المعارف، فقد عنيت بهذا الموضوع من سنوات، وكنت أنادي بضرورة وضع هذا المعجم، فهو واجب وطني يفرضه الإخلاص للغة والعلم والدين

ومما يزيدني سرورا أن يكون في تنفيذها هذا المشروع استجابة لقرار المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في سنة 1930، وتحقيقاً لرغبة العالم العربي أجمع. وإنه ليحق لمصر أن تفخر بتلبيتها نداء العالم العربي فوق ما فيه من فائدة خاصة لها

وإني لأعد هذا العمل من أجل الأعمال وأخلدها، بل اعتقد أنه لا فرق بين خلود هذا العمل الجليل وخلود الأهرام إن لم ير بعض حضراتكم أنه أعظم، ففي تحقيقه احتفاظ بهذه اللغة الشريفة، لغة القرآن وتهذيبها من الدخيل، وتحقيق لوحدة الأمم العربية بهذه الوسيلة وهي المعجم

وقد ساعدت العناية الإلهية مركز مصر الجغرافي أن تكون مصر زعيمة الثقافة الإسلامية في العالم العربي، وقد رضيت لها الأمم العربية هذه الزعامة وأقرتها

وإن المشروع الذي أريد أن نبدأ به هو هذا المعجم الوسيط مترسمين في وضعه المنهاج الذي ذكر في قرار تأليف اللجنة حتى يسد حاجة طلاب اللغة ورجال الثقافة من أمثال خريجي دار العلوم ومن في طبقتهم، فإذا ما وفقكم الله وأتممتم المعجم الوسيط شرعتم في وضع معجم مدرسي للجيب يسد حاجة الطلاب المبتدئين، وبعده تفرغون لمعجم بسيط بجميع شوارد اللغة ويسد حاجة الأدباء والعلماء. ثم تأتي بعد هذا مرحلة أخرى هي وضع موسوعة عربية تكون مرجعاً عاماً يتناول الفنون والعلوم والآداب وغيرها، فإذا وفقنا إلى إنجاز هذا كله حق لنما أن نفخر بأن مصر أصبحت بحق عضواً نافعاً في الهيئة الاجتماعية، وأنها قد أدت رسالتها كاملة عن اللغة العربية

هذا هو برنامج وزارة المعارف الذي أرجو أن يكون برنامجاً قومياً يأخذ كل وزير فيه بنصيب، وهذا هو اعتقادي وأملي الذي أرجو أن يتحقق على أيديكم وبفضل معونتكم الصادقة حتى يكون لكم شرف وضعه وإتمامه، ولي بعدكم الثواب من الله على مثل هذا العمل الجليل

وإن الوزارة حريصة على أن تيسر لكم مهمتكم وهذا هو صديقي وكل وزارة المعارف خير ضمان لتنفيذ ما تطلبون فإن لي فيه الأمل الكبير والثقة العظيمة

كتاب عن مكيافيللي

صدر أخيراً كتاب جديد عن مكيافيللي وعصره بقلم الدكتور اركسين موير وقد صدرت كتب كثيرة عن مكيافيللي وعصره، أهمها وأشهرها المؤلف الجامع الذي وضعه المؤرخ الإيطالي فيلاري عن (حياة مكيافيللي وعصره) ولكن شخصية مكيافيللي وآراءه السياسية والاجتماعية مازالت تشغل البحث في عصرنا؛ بل إن فكرته في الدولة وفي الحكم تتبوأ مكانة هامة. ذلك أن فكرة الدولة تغدو في أوربا مسألة اليوم، ولاسيما الدولة التي تتجسم في شخص طاغية كما هو الشأن في ألمانيا وإيطاليا. ومن المعروف أن الفكرة الفردية قد قضى عليها اليوم في ظل النظم الطاغية الجديدة كالهتلرية والفاشستية، وأن فكرة الدولة تسود كل شيء في هذه النظم، وأن الدولة وكل مرافقها وقواها هي أداة في الأيدي الطاغية التي تشرف على النظام وتحركه؛ ونحن نلمس في فلسفة مكيافيللي أصول هذه النظريات الطاغية، فالكتابة عنها اليوم مسألة لها خطرها. ومما يذكر في ذلك أن موسوليني طاغية إيطاليا درس في شبابه كتاب مكيافيللي (الأمير) دراسة عميقة، وأنه مازال يردد اليوم (أن مكيافيللي يعيش اليوم أكثر مما كان يعيش منذ أربعة قرون) ومن أقوال مكيافيللي المأثورة في كتابه السالف قوله: (إذا كان الحكام جميعاً من الطراز الصالح فعليك أن تفي بعهودك؛ أما وهم خونة لا يفون بعهدهم فعليك من جانبك ألا تفي لهم بعهد)، وهذه النظرية تشتد وطأتها اليوم في أوربا

والواقع أن مكيافيللي أراد في كتابه أن يحلل نفسية أبناء وطنه في عصره وأن يحاول بملاحظته الدقيقة أن يجد ذلك الطراز من الطغاة الذي يستطيع أن يجمع الكلمة، وأن يسبغ على الوطن نعمة الحكم المستنير؛ ولكن الآراء والمبادئ الجافة الخطرة التي تتخلل مباحث مكيافيللي قد طبعت عقيدته في الحكم بطابع أسود، وجعلتها مضرب الأمثال للسياسة الفادحة الخطرة؛ على أن بعض الباحثين يرون أن هذه النزعة ترجع إلى حكم مكيافيللي على مجتمعات عصره، والى اعتقاده بأن الإنسانية تقوم على مبادئ وضيعة، وهو اعتقاد لم يشاركه فيه كثير من أعلام عصره ولاسيما المؤرخ الكبير جيشارديني

ويستعرض الأستاذ موير في كتابه آراء السياسي الفيلسوف في الدولة والحكم ويقارنها بآراء جيشارديني؛ ثم يورد كثيرا من آراء مكيافيللي في خطبه ورسائله التي تلت كتابه (الأمير)، ويستخلص من المقارنة أن مكيافيللي قد عدل في أواخر حياته كثيرا من آرائه، وأنه كتب الأمير في وقت نقمة ويأس، وأن هذه الروح أملت عليه كثيرا من ألاراء المتطرفة التي عدلها فيما بعد