الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 149/درامة من أسخيلوس

مجلة الرسالة/العدد 149/درامة من أسخيلوس

مجلة الرسالة - العدد 149
درامة من أسخيلوس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 05 - 1936


الفرس

للأستاذ دريني خشبة

اشترك أسخيلوس في الحروب الدامية التي نشبت بين فارس وهيلاس، وكان ميدانها وطنه والبحار المحيطة به، وقد اشترك كذلك في موقعة سلاميس البحرية التي تحطم فيها أسطول إجزرسيس ثم ظل متصلا بالجيش اليوناني إلى ما بعد انتصاره في بلاتيه وميكالي؛ ولذلك تعتبر هذه الدرامة مصدراً هاماً من مصادر هذه الحروب، ويعدها مؤرخو الأدب اليوناني أصدق مما ورد في تاريخ هيرودوتس بصدد الحرب الفارسية. ذلك لأن أسخيلوس كان شاهد عيان لوقائع هذه الحرب بينما كان المؤرخ اليوناني ما يزال طفلا لا يزيد عمره على خمس سنوات. وقد مثلت الدرامة بعد موقعة بلاتيه بسبع سنوات

- 1 -

ينقلنا أسخيلوس إلى فارس سيدة الأرض، ويطوف بنا دارات عاصمتها (سوس) حتى نقف عند القصر الملكي المنيف، مقر الأكاسرة، وقلب الإمبراطورية النابض. فنحن إذن بعيدون عن ميادين القتال في البر والبحر، لا نشهد الطعن والضرب، ولا نرى إلى فتك الحراقات اليونانية بأساطيل الأعداء، ولا تهولنا هرولة الكتائب الفارسية فوق تلك القنطرة الضخمة من السفن المتراصة بين عُدْوَتي الهلسبنت تنساب فوق بطائح هيلاس كأنها سيل العرم. . . ثم لا يبهرنا عاهل العجم البائس وقد وقف فوق أكمة تشرف على أبيدوس وما يجاورها من شطئان الهلسبنت، يطل على جيوشه الجرارة تعبر البحر الزاخر. . . ويبكي. . . فإذا سأله وزيره: (فيم بكاؤك أيها الملك؟) شهق شهقةً عميقة وقال: (أنظر أيها الوزير: هذه طروادة! وهؤلاء جندي! ويبكيني ألا يكون أحد من هذه الألوف عائشاً بعد حقبة واحدة من الزمان! أليست هذه طروادة؟؟)

لن نرى إلى شيء من ذلك، ولكن نرى عصبة عتيدة من مشايخ فارس وساداتها النُّجُب يتناجون في حديقةْ القصر، متلهفين إلى خبر يذهب بهذا القلق العظيم الذي يساوره جراء انقطاع أخبار الجيش. . . وهم يذكرون دارا الأول، والد الإمبراطور، بخير ما يذكر به ملك شاد دعائم ملكه على العدل، وقاد جيوش بلاده إلى النصر، ورتع في ظله رعاياه في بحبوحة من العز وبلهنية من النعيم. . . وهم كذلك يصفون لنا أبهة جيش أجزرسيس وعظمة جحافله، وهذه الآلاف المؤلفة من الفرسان والمشاة والكماة والرماة، من مشارق الإمبراطورية الكسروية ومغاربها. . . من حفافي السند إلى ضفاف النيل، ومن أعالي دجلة والفرات إلى أسافل النوبة وإثيوبيا. . .

وهم لا يخفون ما يساورهم من قلق، ويخامر قلوبهم من شك في مصير هذا الجيش العرمرم الذي قذفت به آسيا ليهِلك في ربوع أوروبا، ويجوع ويعرى في مشارق جبالها، وتلتقمه الأسماك في بطون البحر المضطرب. . . لاسيما ومنهم من نصح للإمبراطور ألا يجازف بهذا العدد العديد ضد هيلاس، فكان جوابه أن أقام إلى جانبه رجلا من أمنائه يقول له في كل لحظة: (مولاي! لا تنس الأثينيين. . . مولاي: لا تنس الأثينيين)

- 2 -

وبينا هم في تناجيهم إذ تقبل آتوسا - الإمبراطورة الأرمل - زوجة دارا، وأم إجزرسيس، والتي قست عليها المقادير فناءت على قلبها بأحزان إمبراطورية بأسرها!!

تقبل آتوسا فيصمت القوم، ويهرعون إليها يسائلونها عما آل إليه أمر الجيش، وهل أفاءت عليه الآلهة بالنصر المرجو والغلب المنشود؟

فتقول آتوسا: (مواطنيّ الأعزاء، وأبنائي الأوفياء! تسائلونني عما أقبلت فيه، وهرعت إليكم من أجله. . . فوالله لقد ضقت بغرفات هذا القصر على سعتها، وخلتها جحيما على أنها جنة نعيم، أليس فيها كنت أحلم بالخلد في حضن دارا، وأجيل الطرف من شرفاتها معه على أمة سعيدة هادئة ناعمة، عيشها مخفرج، وجانبها عزيز، وسلطانها قوي، وظلها ممدود، وسؤددها يطوي السهل والجبل، وثروتها زاخرة وافرة؟! فماذا أرى اليوم؟ أليس ابني قد جمع خير كل ذلك، ومضى لطيته التي لا يعلم ما وراءها أحد؟ هاهي ذي الرياح تصفر في هذا القصر الذي نأى عنه سيده، فكأنه خراب على رغم خزه وديباجه، وشتى تماثيله وتصاويره. . . ويحي! لقد جئت إليكم يا سادات فارس ألقي إليكم بعبء الوساوس التي تجثم على صدري، وتثقل كاهلي، فهل أجد لديكم الكن الأمين، والمشير الوفي، والناصح الذي إذا نصح أخلص النصح؟)

- (أيتها الملكة؟. . . نحن عبيدك وبعض رعاياك. . ولك في أعناقنا الولاء والوفاء. . . تكلمي بما تشائين وثقي من إخلاصنا ومحض نصحنا)

- (إذن فما هذه الأحلام المروعة والرؤى المفزعة التي تجتاحني كل ليلة حين آوي إلى الفراش، منذ أن انطلق ابني بهذا الجيش اللجب ليغزو بلاد اليونان؟ على رؤيا أمس لم تكن مثلها رؤيا قط. ذلك أنها كانت واضحة بينة حتى ما تكاد تحتاج إلى تفسير أو تفتقر إلى تأويل. . . رأيت فتاتين هيفاوين ممشوقتي القد، إحداهما دورية ناهدة تميس في حلي وفي حلل؛ والأخرى فارسية سمهرية، تختال في برد ووشى وأفواف. . . رأيتهما تقبلان إحداهما على الأخرى، ثم تأخذان بتلابيب بعضهما البعض، ويكون شجار بينهما، لأن إحداهما بغت على أختها، وحاولت الاستئثار بدارها من دونها. ورأيت ابني إجزرسيس مشرفاً عليهما من مرتقى صعب، فلما استحر القتال بينهما نزل إلى حيث حاول أن يجعل نيره في عنقيهما معاً. . . وذلت إحداهما واستكانت، ولكن الأخرى، ولكن الدورية أبت وأنفت، ودفعت النير بكل ما أوتيت من قوة، فغاصت الفارسية في لجة من دم، وتحطمت عربة ولدي الإمبراطور فوقف حيث كان قبل أن يتدخل بينهما، وأخذ يبكي وينشج، ويشق الأردان ويمزق الجيوب. . . وهنا وقف إلى جانبه أبوه. . . الإمبراطور المبكي، دارا، وطفق يرثي له ويهون عليه

هذه رؤياي يا سادات فارس النجب. . . ولكن ما تزال بقية. . . فإني حينما هببت من نومي، عسيت أن تكون رؤياي أضغاث أحلام، فقلت أتوجه إلى مذبح الآلهة مانعة الضر، أقرب لها وأضحي، عسى أن تنفعنا، وما كدت أغمس يدي في النبع المقدس، وأنثر بخور الند في المجمرة، حتى لمحت نسراً مهيض الجناح لائذا بقدس أبوللو. . . ثم ينقض عليه باز باشق، فما يزال به يوسعه ضرباً وتجريحاً حتى ينتفض النسر ويلوذ بالفرار. . . ويلاه! إن الرؤيين. . . في المنام وفي اليقظة، تفسر إحداهما الأخرى، فيا ترى؟ هل هما نبوءتان على إجزرسيس؟ وهل أعيش حتى أرى ولدي إن كان ما يزال حياً يرزق؟!)

- 3 -

وشده سادات فارس، ونظر بعضهم إلى بعض، ثم أشاروا على الملكة المحزونة أن تذهب إلى قدس الآلهة، فتقرب لها وتضحي ثم تسأل عن رؤياها، وتتضرع أن تتلطف الأرباب بابنها وجنوده ومملكته، إن كانت الرؤيا حقاً. . . وإلا. . . فلترق الخمر باسم دارا العظيم الذي زارها في رؤيا أمس حين وقف إلى إجزرسيس يرثي له ويهون عليه، فإذا بدا طيفه لها فلتسأله أن يبارك ابنه، ويغدق البركات على فارس كذلك

ويتحول مجرى الحديث فجأة، فتسأل الملكة عن هذه الحرب ما سببها؟ ويجيب السادات أن الإمبراطور أراد أن تخضع له أثينا

- (فإذا خضعت له أثينا؟)

- (خضعت له هيلاس كلها!!)

- (وهل هيلاس من القوة بحيث تحشد لمحاربتها كل تلك الجحافل؟)

- (وكيف لا وهي أقوى دولة في العالم بعد فارس؟ وهل نسينا أنها دمرت جيش دارا؟)

- (أو غنية هي؟)

- (غنية جدا، وفي بطنها ثروة من الفضة لا تقدر بثمن)

(لها بقية)

دريني خشبة