الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 148/نهاية المجد الإنساني

مجلة الرسالة/العدد 148/نهاية المجد الإنساني

بتاريخ: 04 - 05 - 1936


لدانيل ديفوا

(1661 - 1731)

رسالة كتبها لإحدى الصحف بمناسبة موت الدوق مارلبرو

سيدي:

لقد أكببت أخيراً على درس التاريخ، وطالعت حياة عظماء القرون الماضية كالاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وأوغسطس العظيم، وكثيرين غير هؤلاء وهؤلاء ممن تواردوا بعدهم حتى لويس الرابع عشر الكبير، بل وحتى أعظمهم وأكبرهم (جون دوق مارلبرو)!! ولقد مررت في طريقي بتيمورلنك حصاد الرؤوس، وبتمور نبيجوس المصري، وبسليمان الكبير، ثم بغير هؤلاء من سلاطين آل عثمان، فإذا قد كتب عنهم جميعاً الواحد تلو الآخر بعد الآثار العظيمة التي خلفوها: (ثم مات)!!!؛ جميعاً أموات!؛ أموات!؛ أموات!؛؛ و (الموت) هو نهاية كل منهم!! فالبعض يرقد في مهد الشرف! والبعض على سرير الخضوع الذليل! هذا قد مات شجاعاً في ساحة الشرف! وذاك قد تردى في هوة المجد أثناء عاصفة الهجوم! البعض هنا والبعض هناك! تختلط عظام الشجاع الصنديد منهم بعظام الجبان الرعديد! وبقايا البطل الجريء ببقايا النكرة الدنيء! يرقدون هناك في أكفان النسيان تحت أنقاض الثرى؛ لا يتميز واحد من الآخر ولا يباينون التراب في شيء!)

(ترقد هذه الساعة الدقاقة المفاخرة مختلطة بالأقذار؛ وهي التي كانت (عظيمة) فظنت نفسها عارفة مقتدرة!) كم آلاف من الأبطال يرقدون في هذا العالم أكواماً متناثرة؟ كم يجرف الريفيون عظامهم بمحاريثهم وكم يسحقها العمال بفؤوسهم؟ بل لكم تحول الأرض أنبل وأسمى أعضائهم إلى ما يستعمل في أحط المنافع! لكم مزجنا رماد الأبطال بطلاء منازلنا؟؛ ولكم خلطنا رماد قائد روماني بملاط حظيرة للخنازير! أين رفات (قيصر)؟ أين بقايا (بومبي) وانقاض (سيبيو) و (هنيبال)؟؟ كلهم قد تلاشوا!! اندثر رمادهم ولم يعد مكانهم يعرفهم! لست تراهم إلا في الكتب الباقية لشعرائهم ومؤرخيهم؛ والرسائل الكثيرة لمداهنيهم ومتملقيهم الذين صوروا لنا الأشخاص لا كما كانوا حقاً! بل كما كان يحلو لهم أ يصوروهم!!!. . .

وما يقع لأعظم الناس يقع لأطولهم عمراً! فقوم نوح انتهوا جميعاً بشيء واحد؛ عاش منهم (متوشالح) تسعمائة سنة وتسعا وستين! وأعقب أبناء كثيرين وبنات كثيرات! ثم ماذا كان؟ كان أن مات. .! (الحياة حلم، والموت نهر طام يجرفنا)

نحتفل الآن بجناز مارلبرو (العظيم)!! فكل انتصاراته، وكل مفاخره، وكل خططه الحربية التي دبرها، وكل فتوحاته المتسلسلة المطردة، كل ذلك الذي يخصونه به كما لو كان وحده قد حارب وانتصر، وفاز وكسب، دون أن يمده الكثيرون بأرواحهم ودمائهم! كله قد انتهى حيث ينتهي آخرون! بل حيث ينتهي الناس جميعاً! أنه مات!! فلا ثروته الضخمة، ولا أسلابه من أعدائه، ولا سخاء حبيبته البارة وكرمها، ولا الكنوز المتراكمة في الحرب وفي السلم، ولا كل هاته الكتلة العظيمة من الذهب التي لا أعنى بتعيين ضخامتها كما قد يعنى البعض!! شيء من ذلك لم يستطع أن يهبه الحياة؛ ولا أن يطيل له أمدها لحظة؛ لقد انتهى وكفى. . .!

لا، بل يقول البعض إن الكنز العظيم الذي امتلكه في هذا العالم ذو خاصية غريبة عالقة به كانت تكون جد منغصة لصاحبه لو اعتنى بالتفكير فيها قليلاً! وهي أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئاً منه إلى قبره. . .!!!

لم يبق لنا شيء من ذلك (العظيم) نتحدث عنه غير تاريخه وتمثاله؛ لقد عُدَّ الآن في الماضيات، وأصبحت صور جنازته ومعاركه جديرة بأن تتزين بها منازلنا كسائر القطع الفنية التي تعادلها زهواً وبهاء، وتساويها في النظر إليها بسرور وارتياح!!!

هكذا نهاية المجد الإنساني! وقليلاً ما تستطيع الدنيا القيام به لأعظم من يلجونها! بل ولأعظم قدر يصل إليه هؤلاء الرجال. .!!

فما وظيفة الحياة إذاً؟ وما أثر العظماء الذين يمرون على مسرح للدنيا في حلل النصر كهؤلاء الذين ندعوهم (أبطالاً)؟؟ أهو أن يكبروا وينفخوا في بوق الشهرة ويشغلوا صفحات كثيرة من التاريخ؟؟ وا أسفاه!! ليس هذا بأكثر من وضع قصة يقرأها الخلف فيما بعد ويصورها خرافة ورواية!! أم هو أن يقدموا للشعراء موضوعا يعيشون به في أشعارهم الخالدة كما يدعون؟؟ وذاك أيضاً سيؤول بهم إلى قصة شعرية يتلوها العجائز لإسكات الأطفال، أو لجمع مساعدة للفقراء والمساكين على قارعة الطريق. .!

أم أن أثرهم هو أن يضيفوا الفضيلة والتقوى لمجدهم؛ وهما العنصران اللذان يأخذان بهم إلى النعيم ويجعلانهم حقاً خالدين؟؟ وما المجد من غير فضيلة؟؟

ليس العظيم من غير تقوى بأكثر من دابة ضخمة من غير نفس!

ثم ما الشرف بغير قدر واستحقاق؟؟

وماذا يمكن أن يدعى قدراً حقيقياً غير ما يجعل الشخص تقياً كما هو عظيم؟؟

إنا إذا كنا نؤمن بحالة مستقبلة للحياة، بمكان يكافأ فيه الفضلاء، ويعاقب بين جدرانه السفلة، فكم من الرؤوس المتوجة سيلبس تاج السعادة والخلد؟؟

لا يحسدن أحد (العظماء وذوى المجد) كما نسميهم!!

فإنا إذا استطعنا الآن أن نراهم وجدنا أكثرهم يستحق الرثاء لا التهنئة!!؟

هذه الخطرات القليلة أبعثها إليك يا سيدي لتهيئ عقول قرائك قبل أن يذهبوا لمشاهدة الجناز الفخم للطيب الذكر (دوق مارلبرو). . . . .

ترجمة محمد حسن ظاظا