الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 148/الأدب بين الخاصة والعامة

مجلة الرسالة/العدد 148/الأدب بين الخاصة والعامة

مجلة الرسالة - العدد 148
الأدب بين الخاصة والعامة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 05 - 1936


لامرتين ورينه جارد

للسيد اسكندر كرباج

في عام 1846 قصد الشاعر الفرنسي لامرتين إلى مرسيليا لقضاء بضعة أسابيع في أحد أحيائها الهادئة، بعيداً عن متاعب السياسة وضوضائها، وكان لامرتين وقتئذ في أوج مجده الأدبي وعظمته السياسية؛ فاحتفت به أندية العلم والاجتماع في تلك المدينة البحرية، وأكرمه الأدباء والشعراء، ونظموا فيه القصائد البليغة

وفي ذات يوم ذهب لامرتين وزوجه للنزهة على ساحل البحر، فلما عاد مساء قيل له إن في الرواق المطل على الحديقة امرأة وضيعة الهيئة بسيطة الهندام تنتظر رجوعه منذ الصباح. فتوجه لامرتين إلى الرواق المذكور ليرى تلك المرأة الغريبة ويقف على حقيقة أمرها؛ وبعد أن يشاهدها ويحدثها ويصف ملامحها ونظراتها وإشاراتها بتلك الرقة الساحرة وذاك البيان الخلاب الذي اشتهر به مؤلف رواية غرازيلا ورفائيل يسألها عن الغرض من قدومها لزيارته، فتجيبه أنها خياطة في اكس، وقد قرأت رواياته ومنظوماته، وأعجبت بجمال تعابيره ورقة شعوره وسمو خياله، فلما اطلعت في الصحف على خبر قدومه إلى مرسيليا واحتفاء دوائرها الأدبية به تولدت في نفسها رغبة التعرف به والتحدث إليه، وإنها على الرغم من فقرها وخمولها تجرأت على ترك عملها والقدوم سرا إلى مرسيليا تحقيقا لرغبتها

فيتودد إليها لامرتين ويلاطفها ويقول لها أنه يشك في أنها تركت عملها وتحملت مشاق السفر يومين كاملين، وقضت معظم النهار في انتظار رجوعه من نزهته لكي تراه وتحدثه وتتعرف إليه فقط؛ بل يجب أن يكون هنالك سبب آخر لقدومها لا تريد ذكره، أو أنها لا تجرؤ على التصريح به، ولذلك فهو يسألها أن تخاطبه بحرية وتبوح له بما في قلبها من غير تكلف

فتفقد هي إذ ذاك شيئاً من خجلها واضطرابها، وتخبره أن في إكس أسرة كريمة تعرف شدة ميلها إلى المطالعة وعجزها عن شراء الكتب فتعيرها ما تقتنيه منها، فاستطاعت بذلك أن تطالع عددا كبيراً من الروايات النفسية والمنظومات الرقيعة ولاسيما رواياته ومنظوماته التي تطرب المسامع، وتحرك القلوب، وتستذرف الدموع

فيقاطعها لامرتين مبتسما: عرفت الآن! إنك شاعرة كالنسمات التي تهب بين أشجار الزيتون، أو كالندى الذي يبلل أثمار التين!

فتجيبه: لست شيئاً من ذلك يا سيدي؛ إني خياطة وضيعة لا أبرح غرفة عملي إلا نادرا، وسلوتي الوحيدة الدرس والمطالعة، وليس يؤنسني في وحشتي وانفرادي إلا عصفور غرِّيد، ولكن هذا كله لا يهمك أمره، لقد سألتني عن سبب قدومي إلى مرسيليا وكيف عرفت بقدومك إليها، فأجيبك أني قرأت منذ أيام في صحف هذه المدينة أبياتاً من الشعر الرقيق ليوسف أوتران في مدح لامرتين والترحيب به، فشوقتني هذه الأبيات إلى رؤية الشخص الذي أوحى إلى شاعر مقاطعتنا نظم تلك الأبيات الجميلة، وبتُّ لا أستطيع صبراً على ذلك. وبعد وثوقي من وجودك هنا قدمت لزيارتك دون أن أهتم بملبسي أو بغيره مما يجعلني أهلا للمثول في حضرة رجل مثلك؛ وهأنا أمامك الآن لا أدري ماذا أقول ولا ماذا أفعل، وربما حملتك حالتي هذه على الاعتقاد بأني امرأة جسور مغامرة أتت تخدعك وتدعي ما ليس فيها، مع أن الحقيقة هي ما أوردته لك بالتمام، وبعد أن شاهدتك وعرفتك وحدثتك وحظوت منك بهذا الاستقبال اللطيف سأعود إلى قريتي حاملة أجمل ذكرى لهذه الزيارة

فيقول لها لامرتين: خففي عنك أيتها الآنسة! لم يمر في خاطري قط أنكِ لست كما تذكرين، فملامحك أنصع دليل على صدقكِ وسلامة طويتك، وإذا كانت الألسنة تخدع أحياناً فالعيون لا تضلل أبداً؛ ففي عينيك بريق يشفُّ عن براءة ونقاوة لا يمكن أن تكونا برقعاً لامرأة كاذبة نمامة. إن الطبيعة لم تخلق الملامح كذوبة، فأنا أثق بكِ كما لو كنت أعرفك منذ الصغر، ولذلك لا أسمح لكِ بالانصراف ما لم تحدثيني طويلاً وتشاركينا في العشاء؛ لقد ذهبت زوجتي لتغيير ثوبها ولا تلبث أن تأتي لاستقبالك والقيام بواجب الضيافة نحوك. وقبل أن يحين وقت العشاء أخبريني كيف تولد فيكِ هذا الميل إلى المطالعة، وهذا الهيام الشديد بالشعر والشعراء، والتعرف إلى الأدباء الذين طالعتِ رواياتهم

فتروي له قصتها قائلة: اسمي رينه جارد، وقد وُلدت في قرية قريبة من إكس، ودخلت صغيرة في خدمة السيدة. . . ورافقت نشوء الأولاد، ونعمت بعطف الأبوين وصداقة الصبايا، وكنت أصغي إلى ما يتعلمنه على الأساتذة وأطالع كتبهن في أوقات الفراغ، فتوصلت بهذه الواسطة إلى تحصيل بعض العلوم ومعرفة القراءة والكتابة والخياطة والغسل والكيّ وغيرها مما تحتاج إليه الفتاة ويكلفها تعلمه نفقات كبيرة. وكنت أتولى خياطة ثيابهن، وأعدهن لحضور الحفلات في إكس، وأنتظر رجوعهن من المراقص حتى الساعة الثانية والثالثة بعد نصف الليل، ومكافأة لي على ذلك كن يدفعن إلي كتاباً أو رواية لكي أطالعها في غيابهن؛ فكنت أجلس بها إلى جانب الموقد وآخذ في مطالعتها مرتين وثلاثاً ولا أتركها من يدي إلا بعد أن أكون قد استوعبت معانيها جيداً؛ وهكذا طالعت قصة المسكينة لورانس في روايتك الشعرية جوسلين، وقد قلت لنفسي وقتئذٍ: هل يسعدني الحظ برؤية كاتبها ومحادثته؟ لا ريب أنك تعرف أنشودة البحري التي مطلعها: من هو ناظم النشيد؟

فيجيبها لامرتين: نعم أعرف تلك الأنشودة التي يضع ناظمها اسمه تحت آخر بيت منها كما كان فيندياس يضع اسمه على قاعدة تماثيله، وفانديك في ذيل رسومه لكي يخلد بخلودها. ولكن أخبريني كيف انفصلت عن تلك الأسرة الكريمة، وأي عمل تمارسين الآن؟

فتقول له رينه: بعد أن تزوج البنات وتوفيت الأم لم يعد من حاجة إلى بقائي في البيت، فغادرته على ألا أدخل في خدمة غيره؛ وقد ساعدني الأب بمبلغ من المال على تدبير أموري، وقال لي البنات: اطمئني فلن نحوجك إلى الاستجداء

وكنت محبوبة معتبرة في بيئتي، فاستأجرت حانوتاً تعلوه غرفة صغيرة للنوم، وانصرفت إلى احتراف الخياطة، ولكثرة الإقبال عليّ كدت لا أستطيع تلبية الجميع؛ وأنا أعيش اليوم من إبرتي، وما يفيض عن نفقاتي أختزنه ليوم الضيق أو لأيام شيخوختي. وكانت لي عصفورة تسليني في وحدتي ففقدتها وحزنت عليها كثيرا، وأنا أخصص أيام الآحاد والأعياد للمطالعة. وفي المدينة أشخاص من الطبقة العالية مثلك، وعلماء وأدباء حتى وبعض أعضاء المجمع العلمي يعرفون ميلي إلى المطالعة والنظم في بعض الحفلات، فلا يخجلون من دخول مصنعي ومحادثتي وإعارتي بعض الكتب

فيقول لها لامرتين مبتسما: أتنظمين الشعر أيضاً يا رينه؟ كدت استشف ذلك من عينيك الحالمتين، إذ لا سماء بدون غيوم، والأحلام والنظم هي غيوم تينك العينين الجميلتين؛ ولكن هلمي بنا، لقد هجرت أنا النظم، ولكني لم أزل أحن إلى سماع رناته والاستمتاع بروائع صوره ومعانيه. فما أجمل زمن النظم! وما أشد شوقنا إليه! هل تتذكرين يا رينه شيئاً من نظمك فتسمعيني إياه؟ انظري ما أبدع هذا المكان وألطفه لإنشاد الشعر! فالشمس على وشك المغيب، والبحر يحمل إلى مسمعنا هدير أمواجه وخشخشة أصدافه التي هي أشبه بغناء صغيرة تضرب على الصنج، والنسيم يداعب أشجار الليمون وينثر أزهارها العذرية على شعرك الأسود، وأنا، هذا الغريب الذي كان شاعرا فيما غبر من الأيام ويجلس وحيداً أمامك ليسمعكِ وقد أعجب بنبرات صوتك، ألا يساوي كل هذا في نظرك جمهوراً من السامعين حتى ولو كانوا من أعضاء المجمع العلمي؟

فتجيبه رينه: لا جرأة لي على ذلك يا سيدي، ولكني أحتفظ بمقاطيع من الشعر كنت قد نظمتها في إحدى ساعات كآبتي، فأفضل أن تقرأها أنت من أن ألقيها أنا على مسامعك. ثم تخرج من جيبها بضع أوراق وتدفعها إليه

فيأخذها لامرتين ويقرأها لنفسه، وكانت هي في أثناء ذلك تمسح وجهها بمحزمها وتحول نظرها عن وجه لامرتين مخافة أن تقرأ فيه ما يدل على استهجانه

ثم يصف لامرتين تأثير تلك القراءة في نفسه فيقول له:

لقد أعجبت وتأثرت جداً بما قرأت، أنه التعبير الساذج اللطيف المؤثر بكل قوته ومعانيه، بل خلجات قلب هادئة تصل إلى المسامع بصورة شجية متناسقة، بل صورة ملامحها المتواضعة اللطيفة بكل خطوطها وعلاماتها؛ وبكلمة واحدة، أنه شعر حقيقي لامرأة تحاول التعبير عن عواطفها بالضرب على أوتار آلة تجهلها

لم تكن الأبيات التي طالعتها شديدة أو رنانة كشعر رابول، ولا حماسية وهاجة، أو ندية فضفاضة كالياسمين، بل كانت هي نفسها: نغمة مملة كئيبة تنشدها عاملة فقيرة لنفسها وهي تحرك أناملها أمام نافذة غرفتها لكي تخفف تعبها من عمل الإبرة

كان في الأبيات نغمات حادة تجرح القلب، وأخرى لا تحتوي إلا نبرات غامضة لا تلفظ كأن التنفس وقف في منتصف الاستنشاق، غير أن هذا كان قوياً وتاماً وتغلغلاً حتى القلب وحتى السماء؛ وكان التأثر فيها يفوق الإعجاب. وعلى الجملة أنها الشعر في حالة التكوين، الشعر الذهبي كما هو في كل مكان حيث يبتدئ في الشعب ولو خلا من صوت الفن، أن نغمة واحدة مملة كئيبة، وقصة تتألف من حادث أو حادثين، وسبع أو ثماني صور كافية للتعبير عن اللانهاية!

ثم يرجع لها الأوراق قائلاً: إن في منظوماتها أشياء خلابة وأن الله منحها موهبتين ساميتين: الشعور بدقة، والتعبير بظرف؛ وهما موهبتا المواهب، أو موهبة الدموع في الصوت، ولكنه أبعد من أن يشير عليها بنشر تلك المنظومات التي هي مثل المياه لا تستعذب إلا إذا نهلت من ينبوعها

فتجيبه رينه: ماذا تقول يا سيدي؟ إني لم أفكر قط في أمر كهذا، إن إقدامي على نشر الكتب يحمل حتى ملاكي الحارس على السخرية بي. لقد نظمت ما قرأته الآن يوم الأحد الأخير على سبيل التسلية فقط، ولا أحد يعلم به في إكس. ومتى كان الإنسان يعيش وحيداً مثلي يضطر إلى التكلم عالياً كي يستوثق من وجوده، فالمنظومات التي قرأتها هي مناجاتي لنفسي

(العصبة)

اسكندر كرباج

من العصبة الأندلسية