مجلة الرسالة/العدد 147/صور من القرن الثامن عشر
→ النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق | مجلة الرسالة - العدد 147 صور من القرن الثامن عشر [[مؤلف:|]] |
ليلة وداع ← |
بتاريخ: 27 - 04 - 1936 |
3 - جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
هبط كازانوفا لندن يبحث وراء طالعه، ويلتمس الوسائل لخوض مغامرات ومشاريع جديدة، ولكنه ما لبث أن شعر بأن المجتمع الإنكليزي الرصين لا يغزى بسهولة، وأن الأفق لا يتسع لمزاعمه المريبة، وأن محاولاته الغرامية تلقى مهادا صلبة؛ وشعر بالأخص بأن تلك الخلال والمؤثرات السحرية التي اجتذبت إليه من قبل عشرات الحسان لم يبق لها قوة إلى التأثير والأغراء. وهو يشير في مذكراته إلى ذلك الفشل في حزن ومرارة: (لقد سجلت هذا التاريخ - سبتمبر سنة 1763 - باعتباره لعنة من لعنات حياتي، ولقد شعرت من بعده بأن تيار الكهولة يحملني مع أنني كنت في الثامنة والثلاثين). وهكذا اضطر كازانوفا بعد بضعة أشهر ارتكب خلالها كالعادة عدة محاولات وأعمال مريبة، أن يغادر لندن مثقلا بأعباء الخيبة والفشل
وأم كازانوفا برلين، واستطاع أن يقابل ملك بروسيا - فردريك الأكبر - ولكنه استقبله ببرود وتحفظ، ولم يظفر منه بطائل
عندئذ قصد إلى روسيا حيث تروج سوق المغامرة، وهنالك تعرف بالأمير كارل فون كورلاند، وهو أمير مرح فاسد السيرة ينغمس في مجالي اللهو والخلاعة، ويلتمس اكتساب المال بأي الوسائل، فتفاهما وتوثقت بينهما عرى الصداقة، واستطاع كازانوفا أن يجوز بواسطته إلى المجتمعات الرفيعة في ريغا وبطرسبرج وموسكو، وأن يستعيد فيها شطراً من حياة السرور والبهجة. ثم ذهب إلى بولونيا، وهنالك في وارسو خاض نفس الغمار المرحة المريبة معاً، ولفت إليه أنظار البلاط والسلطات بمشاريعه في عالم النساء والمقامرة، ومزاعمه في التأثير والشعوذة، واضطر غير بعيد إلى مغادرة وارسو؛ فتركها إلى فينا، ولكنه لم يستطع مكثاً بها، لأن عين الشرطة كانت ترقبه؛ فذهب إلى باريس كرة أخرى، ولكن العاصمة الفرنسية كانت تعرفه حق المعرفة، وترغب عن قبوله وإيوائه؛ فغادرها إلى إسبانيا، فلقي فيها نفس الرفض والمطاردة؛ وكان صيته المشين قد غمر يومئذ جميع العواصم الأوربية، فلم يبق أمامه سوى الرجوع إلى إيطاليا
فعاد إليها يتجول فيها من مدينة إلى مدينة، والنحس يسايره أينما حل، والفاقة تفت في عزمه وفي آماله وأمانيه، وشبح الجوع يزعجه، ونذير الكهولة يروعه؛ لقد كان يومئذ فوق الأربعين، وقد خمدت جذوة اضطرامه، ولم يبق من ذلك الفتى المرح، والمغامر الجريء، سوى طلل متهدم؛ يقول لنا كازانوفا في مذكراته مشيرا إلى ذلك العهد: (لقد فكرت يومئذ، وربما لأول مرة في حياتي، في أيامي الخالية، ورثيت مسلكي، ولعنت الخمسين التي شارفت بلوغها، والتي قضت على جميع أحلامي، وحز في نفسي ألا أرى أمامي سوى بؤس الشيخوخة، والعطلة والفاقة، وألا تغذيني سوى شهرة مريبة، وحسرات عقيمة). أجل كان كازانوفا يومئذ كهلا، تغلق في وجهه جميع الأبواب وترغب عنه النساء! وكان أشد ما يحز في نفسه المكلومة أن يرى تلك المخلوقات الساحرة التي اعتاد أن يجذبها بروائه وسحره وذلاقته، تفر من كهولته إلى أحضان الشباب النضر!
ولما بلغ به اليأس مبلغه فكر في العودة إلى البندقية وطنه ومسقط رأسه؛ فسعى في استصدار العفو اللازم، ولم يدخر وسعاً في التقرب إلى السلطات والتضرع إليها، وعاونه على ذلك رسالة كتبها ردا على تاريخ للبندقية ظهر من قبل بالفرنسة بقلم (املو دي لاهوسي) وفيه مطاعن شديدة ضد الجمهورية ونظمها، وهي مطاعن يفندها كازانوفا في رسالته بحماسة؛ وكان لرسالته وقع حسن لدى السلطات، فاستعملت أخير لتضرعه ومنحته جوازا أمنياً بالعودة إلى وطنه في أوائل سبتمبر سنة 774
ولكنه عاد شيخاً يجرجر أذيال البؤس والخيبة، ويلفظه المجتمع الرفيع؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين قد توفي، ولم يبق له عون ولا عضد، فلبث مدى حين يعاني مضض الفاقة؛ وبعد جهد جهيد عطفت عليه محكمة التحقيق وعينته مخبرا سرياً بمكافآت تتناسب مع عمله وتقاريره، ثم منحته مرتباً شهرياً قدره خمس عشرة دوقة، فاطمأن نوعا إلى هذا المركز المتواضع، واستطاع أن يغشي بعض الحفلات والمسارح، وكان لا يزال يثير حوله بعض العطف بذكائه وظرفه، وتعرف عندئذ بامرأة تدعى فرنشيسكا بوشيني، وعاش معها في نوع من الهدوء والاستقرار بيد أنه كان يلعن تلك الحرفة الوضيعة التي ألجئ إلى احترافها؛ أجل لقد كان كازانوفا جاسوسا زرياً لمحكمة التحقيق التي يمقتها من صميم قلبه، وكان بحكم عمله مكلفا بالتحري عن المسائل السياسية والجرائم الأخلاقية والدينية، التي طالما أمعن في ارتكابها؛ وكانت تغمر البندقية يومئذ موجة من الإلحاد والانحلال الخلقي، فكان من سخرية القدر أن يسهر كازانوفا على مراقبة الفساق والملحدين؛ وكان يمضي تقاريره بإمضاء مستعار وهو مع ذلك يضطرم سخطاً لذلك الدرك الأسفل الذي هبط إليه. وفي أواخر سنة 1781 رأت محكمة التحقيق أن تستغني عن خدماته وقطعت مرتبه، فتولاه يأس قاتل، ورأى شبح الجوع ماثل أمامه، ورفع يومئذ إلى محكمة التحقيق ذلك الالتماس المؤثر الذي يدل على ذلاقته وحسن بيانه:
(إلى حضرات العظماء الإجلاء سادتي القضاة المحققين:
(أتقدم إليكم، أنا جاكومو كازانوفا، وقد غمرتني الحيرة، وسحقني البؤس والندم، معترفاً بأنني لست أهلا على الإطلاق لأن أرفع إليكم التماسي المتواضع، أتقدم جاثياً بطلب الرأفة من الدولة، وأسألها أن تمنحني بطريق العطف والجود ما لا تستطيع بعد التأمل أن تأباه علي بطريق الإنصاف
وأني لأضرع إلى الجود العالي أن يقوم بعوني حتى أستطيع الحياة، وأستطيع في المستقبل أن أقوم بالخدمات التي درجت عليها
وأن حكمتكم لتأنس في هذا التضرع الجليل صادق اهبتي ونياتي)
ولكن محكمة التحقيق لم تصغ إلى تضرعه؛ فزاد يأساً وبؤساً، وعول على الرحيل معتصما بما بقي له من جلد وعزم، فسافر إلى فينا ووصلها في يناير سنة 1783 في حال مؤلمة من الإعياء والفاقة؛ ولبث يتجول حيناً في فينا وباريس وهولندة في ظروف نكدة مثيرة؛ ومع ذلك فإنا نراه أحياناً يحلم بمشاريع مدهشة فيفكر وهو في باريس في شق قنال أو إصدار جريدة؛ بيد أنها كانت أحلام يائس مخرف؛ وأخيراً استقر به المطاف في فينا. وهنالك تعرف بسفير السنيور فوسكاريني فعطف عليه وعينه سكرتيراً له؛ واستعاد الطريد البائس شيئاً من بهجة الحياة، واتصل مدى حين بالمجتمع الرفيع، وظهر في المآدب والمراقص؛ ولكن فوسكارني لم يلبث أن توفي، فتولاه اليأس القاتل مرة أخرى وأقام مدى حين في تبلتز في شرحال حتى ساقته المقادير إلى التعرف بالكونت فون فالدشتاين، فتأثر لفقره ويأسه، وأعجب بذكائه وخلاله فعينه أميناً لمكتبة قصره في (دوكس) من أعمال بوهميا بمرتب حسن؛ وكانت الكونت فتى طروباً طيب القلب يعشق حياة اللهو والخلاعة ويجوب أنحاء أوربا في طلب المسرة والمتاع؛ وكانت خلاله مزيجاً من الشجاعة والضعف، والكبرياء والخجل، والبذخ والجود، فأغدق عطفه على المحب الشيخ الذي خاض غمار حياة باهرة مؤثرة وألفى نفسه بعد طول التجوال فريسة البؤس واليأس
وكان قصر دوكس مقاماً بديعاً فخماً ينبئ بما لآله من النبل التالد والغنى الباذخ، وكانت مكتبته الشاسعة المنيرة تضم أربعين ألف مجلد فخم في مختلف العلوم والفنون؛ فكان ذلك المقام النائي الذي يجد فيه المفكرة الفيلسوف ضالته، هو المستقر والمثوى الأخير لذلك الذي ضاق به وطنه، وضاقت به عواصم أوروبا
ولكم كازانوفا لم يلق الهدوء الذي ينشد؛ ذلك أنه أثار سخط الحشم والخدم بكبريائه وصلفه وجفائه، فكانوا يعكرون صفاءه بخبثهم ودسهم، وكانت نفسه تفيض مرارة من ذلك الصراع الوضيع الذي يحمله مع الخدم على قدم واحدة. وكان كلما شكا أمره إلى الكونت أجابه بابتسامة رقيقة، فإذا شكا إلى الكونتة والدته هدأت روعه بأطيب الوعود
وكان يخفف من وقع ذلك الجدل النكد على نفسه ما كان يغمره به الكونت من العطف؛ ذلك أنه كان حين مقامه بالقصر يدعوه دائماً إلى مائدته، وإلى مختلف الحفلات والمآدب. وعندئذ يستطيع كازانوفا أن يمتع نفسه بقسط من الترف الناعم، ويبدي ما كمن من خلاله ومواهبه الساحرة، ويشعر بشيء من السعادة والغبطة
وكان الدرس أشد ما يؤنسه ويملأ فراغه. ذلك أن كازانوفا كان مفكراً واسع الاطلاع، وكان يعشق القراءة والدرس، ولكن تجواله المتواصل كان يحول دون أمنيته؛ فلما استقر في المثوى الهادئ الحافل بصنوف الآثار الممتعة، ألفى فرصته، وانكب على القراءة يترع من مناهلها؛ ويدون ما عن له من زبدها. ومنذ سنة 1786 يتحفنا كازانوفا بطائفة من الكتب والرسائل الممتعة منها. (مناجاة مفكر) , (سنة 1786)، و (قصة ادوار واليزابيث) ' (سنة 1788)، وهي مزيج غريب من الفلسفة والمغامرة والدين والتهكم. وفي سنة 1788، أخرج كازانوفا كتاباً ممتعاً عن سجنه وفراره الشهير عنوانه (قصة فراري من سجون جمهورية البندقية المسماة بالرصاص) ' وفي سنة 1790 نشر رسالتين في مسائل رياضية؛ وفي سنة 1897 نشر رسالة فلسفية أخلاقية. عنوانها (خطاب إلى ليونار سنتلاج) هذا إلى رسائل أخرى مازالت مخطوطة محفوظة إلى يومنا في مكتبة (دوكس) الشهيرة
بيد أن أعظم أثر شغل فراغ كازانوفا، وخلد اسمه فيما بعد، هو مذكراته الشهيرة التي بدأ كتابتها منذ سنة 1791، والتي نرجئ الكلام عليها إلى الفصل القادم
وكان مما يعتز به أيضاص ويؤنس أعوامه الأخيرة اشتغاله بمكاتبة بعض العظماء الذين عرفهم مثل الكونت دي لانبرج، والأمير دي ليني، والأميرة كلاري، والأمير بيلوزولسكي سفير روسيا في درسدن، والكونت كينج، والأميرة لوبكوفتز، والأب ديلالينا، وغيرهم؛ وكذلك بعض صديقاته الذين عرفهم في أواخر حياته مثل فرنشيسكا بوشيني آخر صاحباته في البندقية، وسليا روجندورف، واليزافون در ريكي وغيرهن؛ وكان يزمور مكتبة (دوكس) كثير من العظماء والكبراء من كل فج، فيسر بلقائهم ومحادثتهم؛ وكان كازانوفا يثير بذكائه ووفرة عرفانه حوله كثيراً من الإعجاب والعطف؛ وقد أعجب به كثير من كبراء عصره، وقدروا مواهبه وتنوع معارفه وطرافة تفكيره، وبثوه إعجابهم وتقديرهم شفاها وكتابة؛ وكان ذلك يغمره سعادة وغبطة ورضى
بل لقد كان كازانوفا في تلك الأعوام الأخيرة الهادئة من حياته الحافلة، يتصور حول نفسه أفقاً من العظمة والشهرة؛ وكان أيام تجواله قد زار الفيلسوف الأكبر فولتير في قصره ومستقره المنعزل في فرني، وأعجب بحياته الهادئة وشيخوخته الجليلة، فكان يتصور نفسه في أيامه الأخيرة، في نفس الأفق والظروف التي شهج فيها فولتير، فتغريه تلك المقارنة الخلابة، وتثير في نفسه الهائمة طائفة من الأحلام اللذيذة الرائعة
وفي أوائل سنة 1798 مرض كازانوفا وتفاقم مرضه بسرعة وشعر باقتراب أجله؛ فتوالت عليه زيارات الأصدقاء والمحبين يغمرونه بعطفهم وعنايتهم ويرسلون إليه الأطباء والهدايا؛ وفي الرابع من يونية قضى نحبه واختتم حياته العجيبة في جو من العطف الذي طالما حرم منه أيام حياته؛ ودفن على الأغلب في مقبرة قصر (دوكس)؛ بيد أن قبره لبث مجهولاً لم يكشف عنه البحث (الخاتمة تأتي)
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان