الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 147/ليلة وداع

مجلة الرسالة/العدد 147/ليلة وداع

بتاريخ: 27 - 04 - 1936


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قال لي صاحب: (أين نقضي سهرتنا الليلة؟)

قلت: (سهرتنا؟؟ فهل كتب علينا أن نسهر الليلة؟)

فقال برقة إبليسية الإغراء: (أنه آخر أيام المعرض، أفلا يحسن أن نودع مدينة الملاهي؟)

فقلت: (من ذا تودع فيها يا شيخ، وقد ودعت شبابك؟)

فلم ينهزم وقال: (نودع من خلقهن الله في أحسن تقويم)

فقلت: ولكن فيهنّ من خُلقن على صور الأبقار والجواميس، فهل ننحتفل بوداع هؤلاء أيضاً؟)

فلم يصده حتى هذا، فلم يبق إلا أن نتوكل على الله ونستودعه نفوسنا ونذهب إلى مدينة الملاهي كما أراد، وحسناً فعلنا، فما كان يمكن أن نرى حشدا أعظم من هذا في مكان أضيق من تلك التي سموها مدينة الملاهي؛ وكانت النساء أكثر من الرجال، وهن وحدهن معرض كامل، فما يخطر للمرأة صورة من صور الخلق في المرأة إلا وهي موجودة، وكانت الكثرة من العذارى الخود، والخرّد الحسان، اللواتي يترقرق الماء في وجوههن من نضرة النعيم، ويتثنين من اللين في غير استرخاء، أما القلة فكانت من الخدِلِّجات الممتلئات الأذرع والسيقان، العظيمات الأوراك والبطون، المترجرجات اللحم، المستديرات كأنهن البراميل، فلو أرقدتهن على جنوبهن ودفعتهن لتدحرجن بلا توقف

وكنت كلما رأيت واحدة من هؤلاء وقفت كالجندي، ورفعت يدي إلى جبيني بالتحية العسكرية! فيسألني صاحبي عما أفعل؟ فأقول: (هذه تحية العظمة يا سيدي!! إلى متى نظل نبخس الناس أشياءهم ونغمطهم في مصر؟؟ لقد آن جدا أن نقر لكل إنسان بحق ومزيته)

والتقينا بأصحاب لنا، فصرنا جماعة ومضينا نتنقل من مكان إلى مكان، وإذا بي أرى قريباً لي ومعه صديقة له، ما رآني قط مقبلا عليه وهي معه إلا نهض بها زاعماً أن عليه أن يفعل كيت وكيت، أو أن يقابل فلاناً أو علاناً من خلق الله الذين يتحرى أن ينتقي لهم أسماء لا أعرفها لأنها مخترعة لا وجود لها، فأكاد أتميز من الغيظ، ولكن ماذا أصنع؟ غير أني في هذه المرة أدركته قبل أن يقوم - أعني قبل أن يراني، وكان جاساً معها - كما لا أحتاج أن أقول، فحملت كرسياً إلى حيث هما، ووضعته وقعدت عليه أمامهما، ثم حييتهما أحسن تحية وأرقها - تحية تلين الصخر، لا بل تذيبه - ولكن قريبي، وقاك الله، أصلب من الصخر والحديد، فما كاد يراني أصافحها حتى قال لها وهو يجذبها من ذراعها: (تفضلي فقد تأخرنا جدا)

فابتسمت - وهل كان يسعها إلا ذلك وهي ترى هذا منه في كل لقاء؟ - فتشجعت وقلت: (يا أخي حرام عليك!! ما هذا العنف - هذا ذراع غض بض يا سيدي، وليس بعصا شرطي. . .)

فابتسمت مرة أخرى، فقلت في سري هذه علامة الرضى، وإنها والله لراغبة في البقاء، وتذكرت قول زميلنا القديم: (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج) فقلت لهما: (العجلة من الشيطان يا مولانا. . ومازلنا في أول الليل، وما يدريك ويدرني أنها ليست مشتاقة أن تركب معي واحداً من هذه القطر التي تشبه الترام وتجري بالكهرباء وتتدافع وتتصادم فتتعالى الصيحات والصرخات وتجلجل الضحكات، وتنشرح الصدور. . . قومي يا ستي معي أركبك واحداً منها)

فصاح بي وهو يدفع ذراعه أمامها ليمنعها أن تقوم: (معك؟ تقول معك؟. معك أنت؟. يا خبر اسود!. أنت مجنون؟)

فلم تفزعني هذه الثورة، لأني أعرف سببها وباعثها، وقلت له وأنا أبتسم: (صحتك. . صحتك. . لا تهج هكذا فإني أخاف على قلبك. . ألم ينصحك الطبيب بالابتعاد عن كل ما يهيج أعصابك؟. أقعد. . أقعد ساكناً واشرب ماء بارداً حتى نعود إليك. . لن يطول غيابنا عنك. . قومي يا سيدتي. . لا تقلقي عليه. . إنه بخير ما اجتنب ما يورثه اضطراب الأعصاب)

فنهض هو بدلاً منها وقال بلهجة المغيظ المحنق: (أعصاب؟. قلب؟. طبيب؟. عن أي شيء تتكلم؟. كيف تسمح لنفسك أن تقول إني مريض بقلبي؟.)

فضحكت وقلت: (لا مؤاخذة!. لقد نسيت أن عقلك لا قلبك هو المريض. . على كل حال. . عقلك. . قلبك. . سيان. . والخطأ مردود. . والآن وقد انتهى الخلاف وحسمنا النزاع فيحسن أن ندعك وحدك قليلاً حتى تثوب إليك نفسك الوديعة الرقيقة الكريمة الجمة المروءة الـ. . . الـ. . ماذا أيضاً يا بارد أناني!؟)

فأرسلتها الفتاة ضحكة مجلجلة تجاوبت نفسي بأصدائها، فصار رنينها في قلبي لا في الفضاء. ولكنه قطع عليها الضحك بيمين أقسمها ألا تقوم معي، فوجمت وشعرت بقلبي يبكي لها، فقد كان من الواضح أنها تشتهي أن تركب هذا الترام، وقريبي يأباه عليها لأنه يؤثر الاحتشام والتلفع بالوقار، ثم قلت لها: (لا بأس. . لا بأس. . ما لا يدرك كله لا يترك كله. . انظري إلي وأنا أركب وسأترك مكانك إلى جانبي فيها خالياً، ففي وسعك أن تتصوري نفسك جالسة فيه كما سأفعل تماماً. . وإلى اللقاء القريب، وعسى أن تتمتعي بهذه اللعبة التي ألعبها إكراماً لسواد عينيك. . أن تراها زرقاوين؟؟ أرنيهما بالله قبل الركوب حتى لا يغلط خيالي. .)

فقال قريبي على سبيل التوديع: (اذهب، اذهب ولا تعد!)

فقلت: (يا شيخ حرام عليك! أنا شاب. .)

وركبت وحدي احتفاظاً لها بمكانها، وكان يكفي أن أصون لها مكانها في قلبي، ولكن الوفاء - صانك الله - داء مكتسب. وكان الميدان هادئاً، والراكبون يتحاورون، ويهرب بعضهم من بعض، ويتقون التصادم، وإن كان لا خوف منه، فجريت أنا على نقيض ذلك، وجعلت وكدي أن أصدم الذي يروقني، وكنت كلما أقبلت بسيارتي على أخرى لأصدمها أصيح براكبيها - وأنا أدفع بقبضة يدي في الهواء - بمُممم! فعلا الصخب - كما ينبغي أن يحدث - وكثر الضحك واللغط والصياح والصراخ، وانتهى الدور فنسيت صاحبتي التي تركتها مع قريبي، وشغلني ما أنا فيه عنها، وألهاني عن ذكراها كما هي عادتي، فإن اللحظة الحاضرة تذهلني عن كل ما مضى وكل ما عسى أن يجيء، ولعبت دوراً آخر، ثم غيره، وغيره، حتى أضناني الجهد المتواصل، وابتلت ثيابي من كثرة العرق المتصبب، فتذكرت قريبي وصديقته، وقلت أجلس معهما برهة أستريح فيها وعسى أن يهديه الله ويرقق قلبه القاسي، وعدت إلى حيث تركتهما فإذا بهما قد ذهبا. .

أي والله يا ناس!! خطفها قريبي - قريبي لا أحد الغرباء - وطار بها وخلفني أتلهف عليها واسخط عليه، وأذم الغدر والخيانة والأنانية والأثرة وألعن أمثاله من الأقرباء الذين يعمر قلوبهم الحسد والحقد لا الحب والإخلاص والتعاون على البر والتقوى ولمحت صديقنا الدكتور م. فقلت أسلم عليه، وكان حوله سرب من الناعمات اللينات، المسترسلات الأعطاف، المستغنيات بالجمال عن الزينة، المُبَتّلاتِ الحسن على الأعضاء فلا ترى لشيء في أجسامهن الحلوة أوفر من حظه أو أقل. فدنوت من إحداهن - وكانت طويلة العنق مسمورة لا رخوة ولا مترهلة - وقلت لها: (ماذا يقول لكن دكتورنا الساحر؟. هل لك في رهاني؟.)

قالت: (على أي شيء؟)

قلت: (على أن عينه زائغة وأنه يريد أن يتزوجكن جملة وإن كنتن سبعاً؟)

فضحكت وقالت: (صدقت)

قلت: (هاتي إذاً، وليعوضك الله خيراً. . واحذري أن تراهنيني مرة أخرى)

قالت: (ولكني لم أفعل)

قلت: (بلى. . هاتي!. ما هذه المماطلة؟. إنه خلق لا يليق بمثل هذا الجمال المشرق)

قالت: (أما إن هذا لغريب. . والله ما راهنتك)

قلت: (لا فائدة. . تفضلي معي إلى هذا الترام واركبيه بجانبي، فإن ركوبه موصوف لإبراء الذمة)

فضحكت وسألتني: (ولكن من أنت. .)

قلت: (أنا صاحب الدكتور الذي يريد أن يتزوجك على كل هذه الضرائر. . . تعالي واكسبي صداقتي لتفوزي به وحدك)

ولمحني الدكتور وأنا أمضي بها فصاح: (اللص. . اللص. . أدركوه. خطف البنت. . الحقونا يا ناس)

وخفت أن يصدق بعض البلهاء فأقع في مأزق، فجعلت أصيح مثله: (اللص. . . . أدركوه. . . . خطف البنية. . . . اجروا وراءه)

وانحدرنا إلى الملعب ونحن نكاد نسقط على الأرض من كثرة الضحك. وقبل أن يبدأ اللعب وتدور السيارات تآمرت مع زميلتي على الدكتور واتفقنا أن نركبه سيارة وأن نوسعه بعد ذلك صدماً وخبطاً، فإنا نعرفه يخاف الرجات ويشفق من عواقبها - لا ندري لماذا - وقد كان. حاولنا إقناعه بالحسنى أولاً فلم يقتنع، فلم يبق إلا أن نحمله قسراً على الركوب، فجرته أربع فتيات فظل يقاومهن حتى قلت له: (أظنك استحليت هذا الجرّ. . . تفضل يا. . .)

فكف عن المقاومة استحياء، وقال لي وهو يركب السيارة: (الله يلعنك يا شيخ. . . أخجلتني والله!

قلت: (لا عليك يا مولانا. . . تفضل وأرنا همتك)

وصدمته صدمتين، ثم تركته لمن هو أولى بذلك، فلما خرج نظر إلي وقال: (وصلتنا منك زقات يا سيدي. . نشكرك)

فقالت له إحدى الفتيات: (لو كنت ركبت معي يا دكتور؟؟. . .)

فقاطعها وقال: (إذن لكانت الزقات قد كثرت يا ستي. . كلا! الخيرة في الواقع)

وهكذا ودعنا مدينة الملاهي. . . . . فليتها تعود لنودعها مرة أخرى. . . .

إبراهيم عبد القادر المازني