الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 147/النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق

مجلة الرسالة/العدد 147/النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق

مجلة الرسالة - العدد 147
النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 04 - 1936


للأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري

عميد كلية الحقوق ببغداد

المحاضرة الثانية

الفاشية:

رأينا في المحاضرة السابقة كيف قامت الفاشية والنازية سداً منيعاً أمام تيار البلشفية الجارف. ونقول في هذه المحاضرة كلمة عن هاتين الحركتين؛ وقد كتب الشيء الكثير عنهما، ونحن لا نحاول الإحاطة بكل ما كتب، بل نتوخى الإيجاز الذي يقتضيه هذا المقام

يمكن أن نصف الفاشية بأنها رد فعل عنيف للحركة الاشتراكية التي قامت في إيطاليا عقب الحرب الكبرى، وهددت مرافق الحياة في هذه البلاد بالشلل والنضوب، حتى أصبحت إيطاليا في حالة لا تحسد عليها، وحتى كادت وحدتها الوطنية تتفكك. فقام مؤسس الفاشية، وكان اشتراكياً في مبدإ أمره، فوفق بين مبدئه الاشتراكي ونزعته الوطنية، وأسس الحكم الفاشي قائماً على فكرة الوطنية، معارضاً لفكرة الطبقات. وهكذا انتكصت الاشتراكية في إيطاليا، ورجع مبدأ الوطنية للانتصار

فالفاشية، كنظام من نظم الحكم، ليست إلا مقاومة عنيفة للبلشفية. وهي ليست مقصورة على إيطاليا، بل امتدت منها إلى غيرها من البلاد؛ فهي تسمى في إيطاليا بالفاشية أو الموسولينية، وتسمى في ألمانيا بالنازية أو الهتلرية، وتسمى في تركيا بالكمالية وهكذا. وهي، أين تسود، تقف سدناً منيعاً دون تفشي البلشفية.

ولما كانت الفاشية قد نشأت في أول أمرها وترعرعت في إيطاليا، فنحن نبدأ بالفاشية الإيطالية، لننظر كيف نشأت، ثم نستعرض المبادئ التي قامت عليها، والوسائل التي تذرعت بها في العمل، والطرق التي اتبعتها في التنظيم

نشأتها:

أما كيف نشأت الفاشية في إيطاليا، فلأجل أن نعرف ذلك يجب أن نرجع قليلاً إلى الوراء، لنستعرض إيطاليا في مبدإ الحرب الكبرى، وهي مترددة هل تدخل الحرب إلى ج ألمانيا أو إلى جانب الحلفاء. ثم تدخل إلى جانب الحلفاء، فتكاد تكتسحها الدول الوسطى، وتعاني من أهوال الحرب ورزاياها ما يكاد ينوء بها. ثم يبسم الحظ للحلفاء، فينتصرون وتنتصر معهم إيطاليا. ولكنها تخرج من الحرب في حالة من الفوضى الاقتصادية والاضطراب المادي، هي شر من الحرب. فالبلشفية قد تفشت فيها، والعمال أخذوا يثيرون القلاقل والفتن، والشعب ساخط غاضب على حكومته، يتهمهما بالضعف والعجز، فهي لم تنل في مؤتمر فرسايل من الأسلاب والغنائم ما يتفق مع الجهود والتضحيات التي اعتقدت إيطاليا أنها بذلتها أثناء الحرب، ولا ما يتفق بنوع خاص مع طموح إيطاليا الفتاة ومطامعها الاستعمارية. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن النظم الدستورية والنيابية لم تكن قد تأصلت في الحكومة الإيطالية، وأن روح الديمقراطية لم تكن قد استقرت في الشعب الإيطالي في المدة القصيرة التي مرت عليه منذ استقلاله، وأن هذه البلاد لم تنس بعد عهد الجمعيات السرية ولا المؤامرات التي تدبر في الخفاء، وإذا عدنا للإشارة مرة أخرى إلى ما انتشر من الفوضى والاضطراب في البلاد بسبب تفشي البلشفية، نستطيع بعد كل ذلك أن نتصور لو أن رجلاً جريئاً مغامراً، ذا إرادة صلبة، وعزيمة قوية، وطموح بعيد، يقود طائفة من الفتيان تدفعهم حماسة الشباب، وحمية الوطنية، وأحلام المجد والعظمة، والإيمان العميق بمستقبل الوطن؛ نستطيع أن نتصور، لو أن رجلاً بهذا الوصف، ومن ورائه الشباب المتوقد عزيمة وقوة، برز إلى الميدان، وتقدم إلى شعب من الشعوب، لينقذه من حالة الفوضى والاضطراب، ويعيد إليه مجده القديم، ويسوقه إلى ساحات العظمة والمجد، فينال حظه من كل ذلك، بعد أن أنكره عليه حلفاؤه بالأمس، فإن هذا الرجل لابد أن يقابل بالترحيب، ثم بالإعجاب، ثم بالتحمس. وأنه لابد واجد من هذا الشعب جنوداً يبذلون نفوسهم في سبيل تحقيق هذه الغايات الوطنية الشريفة. وقد كان الشعب، وكان الرجل. أما الشعب فهذه الأمة الإيطالية الشابة الفتية، الحساسة المسرفة في الحساسية؛ وأما الرجل فهو موسوليني، بطل الفاشية وزعيمها الأكبر

وقد بدأت الفاشية، بعد زحف موسوليني على روما وقبضه على ناصية الحكم بالقوة، حكماً تجريبياً، ليست له خطة مرسومة ولا مذهب مقرر. وكان موسوليني في مبدإ أمره اشتراكياً متحمساً، ثم انقلب جندياً باسلاً، ورجع وطنياً غيوراً. وصار من اعتنق الاشتراكية وآمن بمبادئها، نقمة الاشتراكية وخصمها الألد. وتقدم موسوليني إلى الحكم وليست له خطة مرسومة كما قدمنا، إلا إذا كانت الرغبة الملحة في الإصلاح وإعادة مجد الوطن يصح أن تسمى خطة. فالفاشية بدأت تجريبية شعارها العمل، والعمل الإيجابي العنيف في سبيل الإصلاح الوطني. لذلك اشتهرت الفاشية بصبغتها العملية، وبإقدام رجالها، واقتحامهم أشد الأخطار هولاً، دون تردد ولا هوادة. فالقضية عندهم هي بعث الأمة الإيطالية من جديد. أما المبادئ والنظريات فقد كان موسوليني يسخر منها، ويرى أنها سلاح خطر، قد يرتد إلى صاحبه فيرديه. فالبلشفية قد بدأت إذن عملاً لا مبدأ، وحركة لا فكرة. ولم يكن لديه منهج مرسوم يريد تحقيقه. ويوم ارتقى موسوليني منصة الحكم لم يكن لديه إلا إرادة وعزيمة، فأكب على العمل بهذه الإرادة وهذه العزيمة، واضعاً نصب عينيه مجد الأمة الإيطالية وعظمتها

ثم أخذت الفاشية تمر بمراحل متعاقبة من التجارب العملية زهاء عشر سنوات. تهذبها الأحداث، وتنضجها الأيام. وتطورها مقتضيات الضرورة، حتى استنار طريقها ووضحت معالمه. وارتسمت الفاشية مبادئ ينتظمها مذهب معروف مقرر. وصارت نظاماً عالمياً له نظرياته وقواعده. وسرت مبادئها من بلد إلى بلد. ودخلت في دور علمي فلسفي، تقرر نظرية للدولة، ونظرية لعلاقة الفرد بالمجموع، ونظرية لأثر العوامل الاقتصادية في الحالة السياسية، ونظرية لعلاقة المسائل الروحية بالمسائل المادية، ونظرية للتربية والتعليم. ولكن الفاشية بقيت محتفظة بصبغتها العملية الأولى، فهي تبدأ بالوقائع تبحثها وتحللها، ثم تصوغها بعد ذلك نظريات سياسية واقتصادية، بخلاف البلشفية فأنها تبدأ ببسط النظريات، ثم تطبقها بعد ذلك على الوقائع

ولننظر إلى الفاشية كمبدأ علمي فلسفي، وكنظام عملي من نظم الحكم القائمة. فالفاشية بهذا الوصف لها مبادئ تقوم عليها، ووسائل للعمل، وطرق للتنظيم

مبادئها:

أما المبادئ التي تقوم عليها فتتلخص في عبارة واحدة هي (مجد الوطن وعظمته). فالفاشية حركة تقوم على القومية، وتعادي كل نزعة من شأنها أن تكسر حدة الوطنية. أما الجامعات الدولية كالبلشفية فتحاول أن تحقق اتحاد العمال في جميع أنحاء العالم، وكعصبة الأمم تحاول أن تدمج القوميات في جامعة واحدة، فالفاشية تعادي بعضها، وتنظر إلى البعض الآخر نظرة المرتاب، فالوطن، والوطن وحده، هو الذي تخصص له الفاشية جهودها

فهي حركة وطنية تقوم في وجه البلشفية؛ أي أن الرابطة التي تقوم على فكرة الوطن لا تزال تجاهد في أوروبا جهاد المستميت، وهي في كفاح عنيف مع الرابطة التي تقوم على فكرة الطبقات

وسائلها في العمل:

وللفاشية وسائل للعمل. وتتلخص هذه الوسائل في قيام أقلية صالحة بأعباء الحكم. فهناك هيئتان: الهيئة الحاكمة، والهيئة المحكومة. ويجب أن تتضامن هاتان الهيئتان تضامن أعضاء الجسم الواحد. أما المساواة الديمقراطية فلا تعترف بها الفاشية. إذ الناس في الواقع من الأمر غير متساوين، وهم يتفاوتون في القوة والكفاية والصلاحية، ولا عبرة بالمساواة النظرية مادامت المساواة الفعلية غير متحققة. وقد رفع الله الناس درجات بعضهم فوق بعض، فيجب الاعتراف بهذه الحقيقة والإذعان لها. وتستخلص الفاشية من ذلك أن في الأمة أقلية صالحة للحكم؛ ومعيار الصلاحية الكفاية وتغليب المصلحة العامة والقدرة على تحقيقها. وهذه الأقلية هي التي يجب أن تحكم. وهي لا تستمد سلطانها من انتخاب الهيئة المحكومة لها، ولا من ثقة هذه الهيئة بها، بل تستمده من كفايتها وقدرتها على القيام بأعباء الحكم. وترتب الفاشية نتيجة خطيرة على ما تقدم، فهي تبيح الثورة على الحكومة العاجزة، إذ المبرر لبقاء الحكومة في الحكم إنما هو كفايتها، فإذا انعدمت هذه الكفاية، انعدم حقها في البقاء؛ فإذا بقيت بالرغم من ذلك، وجب الانتفاض عليها، ونزعها من كراسيها. وقد طبقت الفاشية هذا المبدأ عملياً، قبل أن يتقرر مبدأ نظرياً، عندما زحفت على روما، وقبضت على ناصية الحكم بالقوة

على أن هذه الأقلية الحاكمة التي تتميز بالكفاية، تتدرج هي الأخرى في السلطان حسب درجة كفايتها. فالكفاية هي الكرسي الذي يتركز عليه الحكم. وتعلو طبقة فوق طبقة. وتخضع الطبقة الدنيا للطبقة العليا، حتى ينتهي الأمر كله إلى زعيم واحد، تلقى في يده أزمة الحكم، وترجع إليه كل الأمور، فيفرض إرادته على أفراد الهيئة الحاكمة، كما تفرض الهيئة الحاكمة إرادتها على أفراد الهيئة المحكومة. وبذلك يقوم ركن الدولة على أسس متينة، وترجع الأمور كلها إلى رأي واحد ثابت لا يضطرب، ويتوطد سلطان يخضع له الجميع ويذعنون لإرادته. فالفاشية، كما قال الكتاب، تبدأ بتغليب الجماعة على الفرد، ولكن الجماعة تندمج في الأمة، والأمة تندمج في الدولة، والدولة تندمج في الحكومة، والحكومة تندمج في الزعيم

ومن هنا ندرك أن الفاشية هي من اشد ضروب الدكتاتوريات تركيزاً للسلطة، وأبعدها عن النظام الديمقراطي، فالديمقراطية تقوم على سلطان الأمة، وعلى الحرية والمساواة ما بين الأفراد. أما الفاشية فتنكر سلطان الأمة، وتقيد من الحرية، ولا تعترف بالمساواة ما بين الأفراد. ولا يعبأ موسوليني، وهو قابض على ناصية الحكم، أوثق به الشعب الإيطالي أم لم يثق، فهو لا يستند إلى هذه الثقة، ولا يستمد سلطانه من سلطان الأمة، وإنما يستمده من كفايته للحكم وقدرته على تحقيق المصلحة العامة. وسواء عليه لو أن الاثني عشر مليوناً من الناخبين أعطوه أصواتهم أم لم يعطوه شيئاً. وقد صرح السكرتير العام للحزب الفاشي بهذه الحقيقة في عبارة جارحة، إذ يقول: (لو أن الاثني عشر مليوناً الذين قالوا نعم تحولوا إلى أربعة وعشرين مليوناً قالوا لا، لما غير هذا من الأمر شيئاً، ولبقي موسوليني في قصر فينيسا، ولبقيت ثورة القمصان سائرة في طريقها. . . ولو قدر أن يصوت أربعة وعشرون مليوناً ضد الفاشية، لكان هذا معناه أن جمهور الناخبين قد أصيبوا بالجنون، وأن البلاد الإيطالية قد أصبحت مستشفى لهؤلاء المجانين، ولكان هذا سبباً أدعى لأن يبقى العقلاء في أماكنهم)

وتختلف الديمقراطية عن الفاشية أيضاً في أنها تركز السلطان في الأمة، وتقيم الدولة على سلطان الأمة؛ فالأمة هي التي تنشئ الدولة. أما الفاشية فتذهب إلى العكس من ذلك. وعندها أن الدولة هي التي تنشئ الأمة، وأن الأمة ليس لها أي سلطان، بل ليس لها وجود قانوني، والسلطان كله للدولة. وقد كتب موسوليني في هذا المعنى في دائرة المعارف الكبرى الإيطالية التي أمر بوضعها، يقول: (ليست الأمة هي التي تخلق الدولة، بل الدولة هي التي تخلق الأمة، وتعطي للشعب الذي يشعر بوحدته الأدبية، إرادة فوجوداً قانونياً). وتقضي المادة الأولى من دستور العمل الفاشي بأن الأمة، وهي وحدة أدبية وسياسية واقتصادية، تتحقق في الدولة فالفاشية تقوم إذن على تقديس السلطة، وعبادة الدولة، أي الهيئة الحاكمة وشعارها في الحكم: العمل الإيجابي. فهي لا تقنع للدولة بموقف سلبي، يقر الأمور دون أن يسيرها، بل يجب على الهيئة الحاكمة أن تدفع الأمور دفعاً إيجابياً عنيفاً، في غير رفق ولا هوادة. وهنا تظهر نزعة الشباب والفتوة التي تميز الحركة الفاشية، فقد كان أكثر القائمين بها شباناً عندهم طموح وهمة، وفيهم اندفاع وتوثب

والفناء في الدولة والوطن هو الظاهرة البارزة في الفاشية. ولهذا الفناء مظهران: مظهر سياسي يتمثل وطنية، ومظهر اقتصادي يتمثل تعاوناً. أما الوطنية فترتكز في تربية الفرد تربية فاشية، أي تربية وطنية؛ وتغرس في الطفل حب الوطن، حتى ينشأ على ذلك، موفقاً ما بين الحرية والنظام، فهو حر ليستكمل شخصيته، وهو خاضع لنظام يكفل التضامن. أما التعاون فيقوم على تنظيم اقتصادي دقيق، أساسه النقابات، فالنقابات في إيطاليا الفاشية منتشرة انتشاراً واسع النطاق، وسنعود إلى ذلك بعد قليل

(البقية في العدد القادم)

عبد الرزاق أحمد السنهوري