مجلة الرسالة/العدد 142/في ميدان الاجتهاد
→ الحجر المؤابي | مجلة الرسالة - العدد 142 في ميدان الاجتهاد [[مؤلف:|]] |
صورة من الحياة العلمية في مصر ← |
بتاريخ: 23 - 03 - 1936 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 3 -
أصول الاجتهاد
إن أول شيء يجب أن ينظر إليه في ذلك هو ما يقوم عليه الاجتهاد من الأصول التي يرجع إليها فيه، فإن هذه الأصول إذا تركت على حالها كان ما نرجوه من فتح باب الاجتهاد قليل الثمرة، ضئيل الفائدة، ولا يؤدي إلى ما نطمح إليه من التمهيد لتشريع فقهي يجتمع فيه المسلمون على اختلاف مذاهبهم، ويتضافرون على استنباط الأحكام التي لا أثر فيها لتعصب مذهبي، ولا لحقد سياسي؛ كما تأثر بذلك اجتهادهم في الأزمان الماضية، فعمل فيه كل فريق وحده، وأخذ في ذلك بالطريق الذي يوافق هواه ومذهبه، حتى تباعدت مذاهبنا الفقهية، وأصبح الجمع بينها عسيراً مع بقاء هذه الأصول على أشكالها الحاضرة، فالسني لا يعمل إلا بإجماع أهل السنة، ولا يثق إلا بالأحاديث التي رويت في صحيح البخاري وغيره من الكتب المعتمدة عنده، والشيعي لا يعمل إلا بإجماع أهل الشيعة، ولا يثق إلا بالأحاديث التي رواها أئمته، ولا يذعن لما روي في صحيح البخاري ونحوه، كما لا يذعن السني لما يذعن له، وهكذا غير السني والشيعي، حتى أصبح كل فريق لا ينظر فيما عند الفريق الآخر من الأحاديث والأحكام، وتقطعت بهذا بيننا الأسباب، وبقيت الأحقاد القديمة تعمل إلى الآن عملها فينا مع زوال أسبابها، وذهاب عواملها
وهذا إلى أن هذه المذاهب التي نعاديها قد يكون فيها أحكام أحسن من أحكامنا، فإذا نظرنا فيها استفدنا ذلك منها، مع ما نجنيه من جمع الكلمة، والتقريب بين فرق المسلمين في هذه الأيام العصيبة
والأصول التي يرجع في الاجتهاد إليها أربعة أصول:
(1) الكتاب، وهو القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ منجما من ليلة اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده إلى تاسع ذي الحجة يوم الحج الأكبر للسنة العاشرة من الهجرة، حيث أوحي إليه بآخر آية نزلت عليه (اليوم أك لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
(2) السنة: وهي ما صدر من النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، وقد جاءت السنة مبينة للقرآن، ومفصلة له، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فكان يبين ما أراد القرآن أحياناً بالقول وحده، وأحياناً بالفعل وحده، وأحياناً بهما معاً، كما صلى وقال (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقد أمر الله في القرآن باتباعه فقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
(3) الإجماع: وهو اتفاق المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور على حكم من الأحكام الشرعية
(4) القياس: وهو إلحاق ما لم يرد فيه نص عن النبي صلى الله وسلم بما ورد فيه ذلك بناء على وجود مشابهة بينهما
فأما القرآن الكريم فهو أصل هذه الأصول الأربعة، وقد حفظه الله تعالى لهذه الأمة الكريمة سالماً من التغيير والتبديل، وقد كان له كتاب يكتبونه على عهد النبي صلى عليه وسلم، قيل إنهم كانوا ستة وعشرين، وقيل إنهم كانوا اثنين وأربعين، وكان ما يكتب منه يوضع في بيت النبوة، وكان بعض هؤلاء الكتاب يكتبون منه صورة لأنفسهم، وكان بعض الصحابة يحفظه جمعيه، وبعضهم كان يحفظ كثيراً منه، وقد هيأت هذه الأسباب كلها حفظه بين المسلمين إلى يومنا هذا، واتفاقهم على ألفاظه ونصوصه، وهم لا يختلفون إلا في فهم بعض هذه النصوص، ومن السهل جمعهم عليها، أو تقريب مسافة الخلف بينهم فيها
وأما السنة فكانت لا تكتب في عهد رسول الله لئلا يؤثر أمرها في القرآن الكريم، ولم يكن يكتبها على عهده إلا نفر قليل، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، فلما كان عهد عمر بن الخطاب أراد أن يكتبها فلبث شهرا يستشير ويستخير، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فجمع الناس وقال لهم: إني كنت ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء
فمكث أمر السنة على هذه الحال مدة طويلة تبلغ نحو مائة سنة بعد الهجرة، وهي في هذه المدة كلها لا تؤخذ إلا بالرواية، ولا تحفظ إلا في الصدور، فلما جاء عهد عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الثانية من الهجرة، بدأ الاهتمام بتدوين السنة خوفاً عليها من الضياع، أو أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان هذا الملك الصالح أول من أهتم بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة وهي مجمع رجال السنة، وكان أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ أو سنته فاكتبه، فأني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء
ولكن هذا التدوين جاء متأخراً عن أوانه، ولم يحصل إلا بعد تشعب الأحاديث النبوية واختلافها اختلافا كبيراً يرجع بعضه إلى اختلاف الأمصار، وانقطاع بعضها عن بعض في تلك العصور فسار إلى كل مصر بمن نزل فيه من الصحابة من تلك الأحاديث ما لم يسر إلى المصر الآخر، وقد كان منها ما يحفظ بلفظه، ومنها ما يروى بمعناه على حسب ما فهمه السامع من رسول الله ﷺ، والأفهام تختلف في ذلك، بل قد يختلف فيه السمع نفسه؛ كما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول - وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي - فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله ﷺ بيهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنكم لتبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها
ويرجع بعض ذلك الاختلاف أيضاً إلى ما حصل من انقسام المسلمين ذلك الانقسام السياسي - إلى جماعية وشيعة وخوارج - واستفحال أمر تلك الخصومة السياسية فعمل ذلك في التبعيد بين إفهام المسلمين ما لم يعمله اختلاف الأمصار فيها
وقد كان الخير كل الخير تدوين السنة في الزمن الذي جمع فيه القرآن الكريم، ولم يكن هناك خوف بعد جمع القرآن أن تلتبس به السنة النبوية، أو أن نقع من ذلك فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبلنا. لأن أهل الكتاب لم يكتبوا كتاب الله كما كتبناه؛ وإنما كتبوا تلك الكتب وأكبوا عليها، فالفرق في ذلك كبير بيننا وبينهم، فلو أن السنة النبوية دونت في ذلك العهد لكان لنا منها سنة متفق عليها، أو تقرب على الأقل مسافة الخلف بيننا فيها
وإذا كنا قد فاتنا من هذه الغاية الحميدة ما فاتنا، فقد يكون في هذا الخلاف في السنة النبوية خير كبير لنا، وقد عد هذا الخلاف فعلاً رحمة بالناس؛ وقيل إن اختلاف الأئمة رحمة وتوسعة، ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه، بل تقف تلك الخصومة السياسية دونه، وتجعل في هذا الخلاف ما لا يكون معه رحمة خالصة، وتوسعة عامة
وإنه ليمكننا الآن بعد ذهاب تلك الخصومة أن نعتبر من اجتهاد أئمة الشيعة والخوارج ما نعتبره من اجتهاد أئمة أهل السنة، ولا يقوم ما يحول دون ذلك إلا تغالينا في علم الجرح والتعديل الذي وضعناه بجانب علم الحديث، مع أن هذا العلم لا يعتمد إلا على ظواهر الرجال، وغاية ما يفيده الظن دون اليقين ولا يوجد ما يمنعنا بعد التخفيف من ذلك التغالي من أن نعتمد من رجال كل من أهل السنة والشيعة والخوارج من اعتمدوه، ونرفض منهم من رفضوه، وكذلك لا يوجد ما يمنعنا بعد التخفيف من ذلك التغالي أيضاً من الانتفاع بالحديث الضعيف في التشريع، والأخذ به عند الحاجة إليه، فلا نرفض من الأحاديث إلا ما ثبت أنه موضوع بيقين، ولا نتهم من رجال الحديث إلا من ثبت عليه الكذب قطعاً، ورب حديث ضعيف يكون هو الصحيح، ورب رجل متهم يكون هو الرجل الثقة
وأما الإجماع فقد اختلف في أمره، حتى قال فيه أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه)؛ وقد حمل بعض فقهاء الحنابلة ذلك على غير إجماع الصحابة، أما إجماعهم فحجة معلوم تصوره، لكون المجمعين ثمة في قلة، أما بعدهم فأنهم في انتشار وكثرة، وكذلك نقل عن الشافعي ما يفيد أنه لا يقول بوجوده إلا في الفرض الذي لا يسع أحداً جهله، من الصلوات والزكوات وتحريم الحرام، وأما علم الخاصة الذي لا يضير العوام جهله، فيقول فيه نحو ما قاله أحمد بن حنبل
وقد اتفقوا جميعاً على أنه لا يد من استناد الإجماع إلى نص من كتاب أو سنة، وإذا كان هذا شأنه معهما فلا يكون لعده من أصول الاجتهاد شأن كبير بعدهما، على أنا إذا أبقيناه الآن بين هذه الأصول، وأردنا أن نرجع إليه فيما نروم من فتح باب الاجتهاد، فسنجد أنفسنا أمام الإجماع لأهل السنة، وأمام إجماع ثان يغايره للشيعة، وأمام إجماع ثالث يغايرهما للخوارج، وهلم جرا، وإني أوثر أن نقف وجهاً لوجه أمام النصوص التي لابد من استناد الإجماع إليها، على أن نقف جامدين أمام هذه الاجماعات المتعددة، فمن الممكن معالجة هذه النصوص بتأويل أو غيره، ومن الممكن الجمع بينها بوجه من الوجوه التي تتفق فيها الكلمة، أما الإجماع لا يقبل تأويلاً ولا جمعاً، ولهذا أرى أن نحذف هذا الأصل من الأصول التي يرجع إليها في الاجتهاد، وأن نرجع مباشرة إلى النصوص التي لابد من استناده إليها، فقد يفتح الله علينا فيها بفهم جديد غير ما فهموه منها، وقد نصل بذلك إلى حل كثير من مشاكلنا الفقهية، ولا يوجد أمامنا من هذا الأصل عقبة تقف في سبيلنا
وأما القياس فهو الأصل الذي بقي لنا من أصل الرأي الذي كان يأخذ به بعض كبار الصحابة مثل عمر وعثمان وغيرهما، وكان يعرف به قوم من الفقهاء يلقبون بأهل الرأي، وهو أتم من القياس شمولا، وأكمل منه اتساعاً، إذ كان على ما يظهر من فتاويهم عبارة عن الحكم الذي بيني على القواعد العامة للدين كقوله ﷺ: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولم يكونوا يهتمون بأصل معين يشبهون بمحله الحادثة التي يفتون فيها، كما يجب ذلك في القياس، ومن هذا إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم مع أن القرآن عدهم من المستحقين، وإسقاطه الحد عن السارق عام المجاعة، وتركه التغربب في الزنا بعد أن لحق أحد المغربين بالروم وتنصر، وجعله الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثا بعد أن كان واحدة على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وصدر من إمارته، وله من ذلك كثير
وقد حدث بعد هذا أن أخذ قوم يذمون هذا الرأي، وكان ذلك بعد ظهور العناية بجمع السنة وتدوينها، وقيام فئة من العلماء بذلك عرفوا بأهل الحديث، فشنوا غارة شعواء على أهل الرأي، وأخذوا يقولون إن الشريعة أجل وأرفع من أن تكون مجالا لآراء أهل الرأي من العباد، لأنها من الله كتاباً كانت أم سنة، وما كان كذلك يكون أبعد من الخطأ والاختلاف، والرأي من الإنسان، وهو عرضة لأن يخطئ وأن يصيب، وهنا يكون الاختلاف والفرقة، وقد نهينا عنهما - إلى غير هذا من أقوالهم في التشنيع على أهل الرأي
وهي كما ترى أقوال فيها كثير من الغلو، لأن الرأي إذا كان مبنياً على القواعد العامة للدين فهو من الله أيضاً، وهذه الفرقة التي يخشونها منه حاصلة بدونه كما نرى، وليست كل فرقة مذمومة في الدين، إنما المذموم فيه الفرقة المؤدية إلى التنابذ والتخاصم، والاختلاف في الرأي لا يصح أن يؤدي إلى شيء من هذا، مادام يكون رائدنا فيه الإخلاص وصدق النية
وقد وجدت هذه الأقوال في ذم الرأي آذاناً صاغية من الجمهور، وكان لهذا أثره في نفوس أنصاره، فأخذوا يتقربون إلى أهل الحديث، ويتركون الاعتماد على هذه القواعد العامة الثابتة في الدين باليقين، إلى أن صاروا من هذا الأصل الجليل إلى قاعدة القياس التي لابد فيها من الاعتماد على أصل معين من الحديث الثابت بالظن
وإني أرى في هذا الأصل أيضاً أن نرجع فيه إلى ما كان عليه في عهده الأول من الشمول والاتساع، ولا نقتصر فيه على إلحاق الشبيه بالشبيه، ولا يخفى أن السنة قد اختلفت رواياتها اختلافا كبيرا ولابد من تحكيم الرأي فيها تحكيما مطلقا، ولست أدري معنى لتحرجنا الآن من تحكيم الرأي في علم الفقه وهو من الفروع بعد أن صرنا أخيرا إلى تحكيمه في علم الكلام وهو من الأصول، وقبلنا فيه عند تعارض دليل العقل النقل أن نرجح دليل العقل على دليل النقل، ويكون هذا بتأويل دليل النقل أو ترك أمره إلى الله تعالى
وهذا هو ما أراه في هذه الأصول الأربعة التي يقوم عليها الاجتهاد في الإسلام، وقد اقترحت في مقالي الثاني في هذا الموضوع عقد مؤتمر إسلامي من جميع المذاهب الإسلامية الباقية لفتح باب الاجتهاد فتحاً صريحا، وتنظيم أمره تنظيما يقضي على ما يساور نفوس أنصار التقليد من الخوف على الذين من فتحه
وهناك أمر خطير له أثره في تسهيل أمر الاجتهاد علينا، وفي القضاء على هذه العزلة في الاجتهاد بيننا وبين باقي الطوائف الإسلامية، وذلك هو تأليف كتاب في الفقه على جميع المذاهب الإسلامية، تجمع فيه أقوال الأئمة من سائر المذاهب المعمول بها الآن وغيرها، وتبين فيه مآخذها التي اعتمدوا عليها فيها، وهذا هو العمل الخطير الذي يجب أن يمهد به لفتح باب الاجتهاد من يدعون الآن إلى فتح بابه، وهذا هو باب المجد مفتوح على مصراعيه للرجل الذي نريد منه البدء بالعمل قبل أن تفوت عليه فرصته، ويكون للتاريخ بعد ذلك حكمه فيه، وقد بلغت اللهم فاشهد
اللهم إني لا أدعي العصمة فيما قلت، وفيما سأقول في هذا الموضوع، وإنما أريد أن أعرض رأيي فيه على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء، فأن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي، وإني حيثما أعرض رأيي في ذلك على صفحات هذه المجلة، فأنه سيصبح في يوم ظهورها مقروءاً لألوف الألوف من علماء الدين وغيرهم، فتشترك فيه الآراء، وتمحصه البحوث، وهذه وسيلة لتمحيص الرأي لم تكن متوفرة لأهل الاجتهاد الأول، وستكون لنا عوضاً مما قد يمتازون به علينا من سعة الإطلاع والعلم
عبد المتعال الصعيدي