الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 142/صورة من الحياة العلمية في مصر

مجلة الرسالة/العدد 142/صورة من الحياة العلمية في مصر

مجلة الرسالة - العدد 142
صورة من الحياة العلمية في مصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 03 - 1936


تقي الدين السبكي

بقلم محمد طه الحاجري

لا أحسب أن مصر قد ظفرت في عصر من عصورها الإسلامية بما ظفرت به في عصر المماليك من مظهر علمي سابغ، وأثر في تاريخ الفكر العربي خالد، وصوت طائر مرنان في أنحاء الإمبراطورية المصرية بما لعلمائها من نفاذ في البصيرة، وعمق في التفكير، وقوة في المناظرة، وشمول في المعرفة، وإحاطة مدهشة بآثار السلف، وإبداع في شتى نواحي العلوم النظرية والشرعية، فمقدار ما وسم به هذا العصر من سطحية في أدبه، وتفاهة في الصور الشعرية المنبعثة عنه، وضعف في الأسلوب الأدبي المتعارف فيه؛ كان عجيباً جهد ما يبلغه العجب في ذلك الجو العلمي السائد به، والروح العلمية الحق المهيمنة على رجاله، على ما كان يفهم من مدلول العلم إذ ذاك. ولا تحسبنا بحاجة إلى الاستشهاد لذلك المظهر الرائع، فإن نظرة عامة إلى كتب الطبقات المصنفة في ذلك العهد مثل الدرر الكامنة، والضوء اللامع وغيرهما تشهد لهذا القول شهادة قاطعة لا تحتمل شبهة ولا تحتاج إلى مراجعة. وبمقدار ما كان يسود هذا العصر من اضطرابات سياسية مترادفة، وفتن في بلاد الأمراء متعددة، حتى لتعد سبعة عشر سلطاناً تولوا أمر البلاد مدة حياة رجل واحد كهذا الذي نترجم له، ثم ما يستتبع ذلك من فوضى في الحياة العامة لا يحدها حد ولا يضبطها ضابط؛ كانت النهضة الفكرية مطردة في سبيلها، والحياة العلمية تقدم للناس أحسن مثلها، والعلماء يقومون على مذهبهم في الحياة بالرعاية والتقدير، لا يكاد يلفتهم عنه ما تعتلج به البلاد من الفتن، وما تموج به من الاضطراب

ولسنا الآن بصدد التعليل التاريخي لهذه الظاهرة التي لا نزاع في حقيقتها، وإنما سبيلنا أن نسجلها هنا لنلفت أنظار بعض القراء عندنا إلى أن التاريخ الفكري شيء غير التاريخ السياسي، وأنه لا ينبغي أن يصرفنا إنكار أحدهما عن الإعجاب بالآخر، وإنا لنرجو أن يتجه البحث العلمي اتجاهاً جدياً دائباً إلى إثارة دفائن هذا العصر العلمي المجيد في تاريخ مصر، وأن يعنى القوم عناية بليغة بكشف آثاره وتنور أسراره، فإن في ذلك متاعاً للروح العلمية التي تتمشى في نفوسنا، وقياماً بحق مصر الكريمة علينا، وتغذية للروح الق التي نحاول بكل سبيل تقويتها وتعزيزها في قلوبنا

وإذا كانت الصورة المقيتة التي تركها التاريخ السياسي والدرس المقتضب لهذا العصر في أذهاننا، قد صرفتنا عنه إنكاراً له، حتى ليود بعض الناس لو لم تكن هذه الفترة في تاريخ مصر؛ فإن الصورة الجميلة الرائعة التي تركها التاريخ الفكري لمصر عن هذا العهد جديرة أن تصرفنا إليه وتحببنا فيه، وتجعل منه مفخرة لنا تخفق لها قلوبنا، ومثلا عالياً لطلابنا ورجال العلم عندنا؛ حينما يستطيع البحث العلمي أن ينفض التراب عن هذه الصورة، ويجلوها للناس كريمة رائعة

وإنه ليغبطنا أن نقدم اليوم وجهاً من وجوه هذه الصورة، في شخص رجل من رجال ذلك العهد، لا نخطئ إذا قلنا إنه من خير ما يمثل هذا العصر تمثيلا يملأ قلوبنا روعة وإكباراً، ويهز مشاعرنا حباً وإعجاباً، وإن كنا نأسف لأن أسباب البحث لم تهيأ لنا كما ينبغي لعرض هذه الشخصية في أكمل مجاليها: ذلكم هو العلامة الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي

- 1 -

ولد تقي الدين في شهر صفر سنة 683هـ (أغسطس سنة 1284م)، في أسرة شريفة النسب، كريمة الحسب، تنمى إلى قبيلة الخزرج الأنصارية من بطن منها يقال لها أسلم، كما أثبت ذلك النسابة المصري شرف الدين الدمياطي، وقد أشار إلى هذا النسب الشاعر المصري ابن نباتة في مدائحه للشيخ عبد الكافي السبكي أبي تقي الدين:

وبيت فضل صحيح الوزن قد رجحت ... به مفاخر آباء وأبناء

قامت لنصرة خير الأنبياء ظبا ... أنصارهم واستعاضوا خير أنباء

أهل الصريحين من نطق ولحن ظبا ... أهل الربيحين من نصر وإيواء

كما ذكره أيضاً القاضي صلاح الدين الصفدي في كتابه (أعيان العصر). وقال ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار) في ثنايا كلامه عن الشيخ تقي الدين: (جواد جرى على أعراقه، وجاء على أثر سباقه. من عصاية الأنصار حيث يعرف في الحسب التليد، ويدخر شرف النسب للمواليد. . . . بزغ من مطلع الصحابة رضي الله عنهم، ونزع به عرقه إلى التابعين لهم بإحسان. وهو مثلهم إن لم يكن منهم) ويظهر أن قبيلة (أسلم) التي ينتسب إليها تقي الدين لو تظل متميزة في مصر كما كان بعض القبائل الأخرى، بل اندمجت في المصريين وذهبت فيهم، ولعله لهذا السبب لم يذكرها المقريزي في رسالته (البيان والإعراب) بين القبائل التي بنى عليها رسالته. وإنما بقي نسب بيت السبكي معروفاً لمكانته الاجتماعية التي سنشير إليها. والحق أن ذلك البيت كان بيتاً مصرياً صميماً انطبع بالروح المصرية وسرت فيه، كما ظهر ذلك جلياً في المقدمة الجميلة التي كتبها أحد أفراد هذا البيت: بهاء الدين أبو حامد أحمد بن تقي الدين السبكي لشرحه على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني. فقد كتب فيها فصلا عن مصر وطبيعتها ومزاجها وأثرها في أهلها. كما يبدو ذلك في عاطفة الشيخ تقي الدين نحوها حينما كان يتولى قضاء القضاة في الشام، فقد كان يتمنى أن يأتيه أجله في مصر: أمنية من ثلاث

أما مكانة هذا البيت الاجتماعية فيظهر أن منصب الوزارة كان فيه، فقد قرن اسم جد تقي الدين الثاني كما جاء في سلسلة النسب الذي أثبته شرف الدين الدمياطي، بلقب الوزير. كما أشار إلى ذلك ابن فضل الله العمري فيما كتب عن الشيخ تقي الدين. فقال:

(. . . ثم خرج من بيت الوزارة حيث تتقامر النجوم، وتتناصر ثم تتناصف الخصوم)

وهكذا نرى أنه قد أتيح لشيخنا الجليل عرق في الشرف راسخ، ومكان في المجد باذخ، وأنه قد أمدته في حياته وراثة نبيلة، وأعانته من قومه مكانة جليلة. إلى بيئة علمية خالصة ترى في العلم وحده المثل الأعلى والغاية المثلى، فقد كان أبوه زين الدين عبد الكافي السبكي من علماء العصر وفضلائه، وكان قد أدرك الإمام الكبير تقي الدين ابن دقيق العيد وصحبه وأخذ عنه وتأثر به؛ وكان ذلك الإمام آية عصره في سعة العلم ونفاذ البصيرة وقوة الخلق، حتى يقول تاج الدين السبكي في طبقاته: (ولم ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي) وقد عرض عليه قضاء القضاة في مصر، وناهيك به منصبا، فتأبى وتمنع واستعصم بخلقه القوي وإيمانه المتين. ولكنهم مازالوا به حتى قبل، وإذا صار قاضي القضاة كان لابد له في دينه وورعه أن يتحرى جهده في تعيين نوابه على الأقاليم من صفوة العلماء. فكان زين الدين السبكي من أعيان نوابه كما كان من أعيان أصحابه: ولاه قضاء الشرقية والغربية (يتبع)

محمد طه الحاجري