مجلة الرسالة/العدد 138/الفردوس الإسلامي المفقود
→ اثر الحضارة الإسلامية في الإحياء الأوربي | مجلة الرسالة - العدد 138 الفردوس الإسلامي المفقود [[مؤلف:|]] |
قصة المكروب ← |
بتاريخ: 24 - 02 - 1936 |
تحت قناطر جامع قرطبة
للشاعر الألماني هنري هين
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
ترجمة الأستاذ معروف الارناءوط
محرر فتى العرب ومؤلف سيد قريش
(. . . . . أيتها القبة الرفيعة من المنار، لقد ظللت في
الماضي بيت الله. . .)
(هنري هين)
أرأيت سيدي السائح إلى مسجد قرطبة الجامع! أرأيت إلى تلك العُمُدِ المرمرية وقد نهضت على قباب فيحاء واسعة الأرجاء؟
أرأيت إلى مفاتن الفن العربي وقد راحت تطفو على القباب والحنايا والقناطر؟ أرأيت إلى سُوَرٍ من القرآن كيف أذابها الذكاء في شتى الألوان؟
في سبيل الله، وفي سبيل مجده الذي لا يبلى قام هذا الصرح المُشمَخر ثم تنَكَّر الزمن وجَهُمت نواحيه، فتنكرت الأشياء وجَهُمت المشاهد، وأرعد في الأفق الذي تسرب إليه صوت المؤذن حلواً صافياً، صوت النواقيس، وقام الرهبان يدعون في أغانيهم الشجية الكئيبة إلى المسيح في محراب كان بالأمس مزهواً بالمؤمنين، وامتلأت السُّوح بالدُّمى والتماثيل، وتقاصرت ظلال الشمس أمام أنوار شاحبة تريقها الشموع والمصابيح!
وقف (المنصور بن أبي عبد الله) في مسجد قرطبة تحت القبة المرمرية وهو يحدِّق إلى العُمُد والحنايا هادئا ناعم الجأش، ثم مضى يتخافت بصوته:
(أيتها القبة الرفيعة المنار، لقد ظللت في الماضي بيت الله، ثم عدت إليك فرايتك تظللين بيتاً غريباً، ثم أصغيت إليك، فإذا بك ترددين صلاة ما كانت لبناتك الأولين!
لقد هَدْهَد الزمن حماستك، وأطفأ كبرياءك، فجمدت على خطبك الكريه، وصبرت لبؤسك الأليم، ولكن نفسي وقد صاغها الله من معدنٍ ضعيف مازالت - وا رحمتاه لها - ملتاعةً أسوانة حتى أعجزها اليأس عن الصبر فما عادت تطيق شجنها المجاهد!)
وانثنى الفتى العربي إلى الماء المقدس يمسح به رأسه ويغسل جبينه، ثم جفا المسجد وراح إلى فرسه فنهض على ذؤابته فانطلق به يعدو في الطريق، واخذ الهواء المستفيض في الأفق يعبث بغدائره المرسلة ويلاعب ريش قبعته المطرزة!
اشرف الفارس العربي على طريق القلعة حيث تجرى أمواه الوادي الكبير متطامنةً هادئة، فبدت له الخضرة والرياحين والأعناب وشجر اللوز الباسق المتهدل وأزهار البرتقال الكاسية الضافية فلذّ الغناء فغنى، وراحت نغماته العذاب تختلط بأغاني الطيور!
وإنه لكذلك إذا قصر القلعة يلوح له عن بعد فطفر إليه مستروحاً إلى غناء رقيق يستفيض من حواشيه!
في هذا القصر عزلات هانئة أوت إليها (كلارا الفاريس) وهي فتاة طفّارة وثّابة فارق أبوها مغناه إلى أرض (النافار) فاستغدى الغرق في المرح والأهواء خلال غيبته عن القصر!
وقف المنصور بن أبي عبد الله في ناحية دانية من القصر وطفق يُصغي إلى عزيف لذٍّ هادئ، وقد بهرته الأنوار وأشجته الأعراف، فتمايد من الطرب، فنحى ناحية القصر يريد التوغل في جنته بين ورده وأقحوانه!
وكان القصر يعج بالحسان والفرسان، فزرف المنصور إليه فإذا هو بين الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات، ثم عاد ينظر إلى نفسه فإذا هو أملح فرسان هذه الليلة الساهرة شباباً وأعذبهم حديثاً، بل لقد كان أمضاهم في الإغراء والاستهواء؛ ولما استوثق من فتون عينيه، مضى إلى هذه الأسراب الناعمة الطفَّارة، يحدث غانية عن حب أجَنَّهُ في قلبه وحرص ألا يذيعه إلا على مسمع منها، حتى إذا أمله العبث والمجون، طفر إلى غانية أخرى فاحتبسها بين ذراعين محمومتين مشبوبتين، ثم شعر بالملل فارتد عنها إلى ثالثة يعانقها ويخاصرها تحت قباب من المرمر، ثم جفاها إلى أختها ملولا من هوى شديد التقلب!
وكان يمضى إلى حسناء من حسان القصر فيسألها أن كانت عنه راضية وبه ناعمة، ثم يومض بيديه إلى صليب من الذهب يَخطِف بريقه على صدره، ويقسم للكاعب اللّعوب أن مكانها من صدره مكان هذا الصليب! وإنه لنصرانيته على وفاء غريب!
سكن القصر، فسكنت فيه اللذات والأهواء، وانطفأت تحت قبابه الأنوار والأضواء، وأنقلب الفرسان إلى مضاجعهم صرعى هوى وصهباء، وخلا القصر إلا من ربته الحسناء، وفارسها العربي ذي البهاء، وإلا من شمع ضعيفة السنا والسّناء!
جلست الحسناء الأسبانية إلى فراش ناعم وثير، والفتى العربي جاثم على ركبتي الحبيبة، صريع سهد وأرق، يُريدُ عينيه على إغفاءة لذيذة فتملس هذه الإغفاءة من عينيه الضحوكين!
وإنه لسادرٌ في حمى شديدة من أرق شديد، إذا تلك الحسناء اللعوب تريق على غدائره ماء الورد من قوارير حفّت بالعجب، وازينت بالذهب، وهي بعد منزوفة سكرى من الحبّ والطرب، لقد كانت تفعل ذلك سادرة حيرى، والفتى العربي غريق هواجس وأحلام، وشهيد ذكريات وأوهام، وكان صدره يلوح محتدماً مشبوباً تمزقه الزفرات، وتقطعه الآهات!
ثم ابتعث الحب في قلبه سكراً فسلبها صحواً، فأقبلت إلى فتاها تسعى، وراحت تَلثمُ شفتيه وقد عادتا كاللّظى، وهو في سبحه غريق حب وهوى
وحدَّقت إليه مبهولةً واجمة، فرأت على جبينه وقد عاد مسفوعاً مقروراً غمامةً بلون الدجى! فشجيت حتى لقد هدَّها الشجى، وبكت وأنصبّ دمعها على جفنيه فاستفاق راعشاً من هذا الندى!
لقد هزَّته وهو يحلم! بلى لقد كان يحلم! وقد رأى في حلمه القصير كأنه لا يزال في مسجد قرطبة الجامع، وخيل إليه أنه لا يبرح يطوف بالماء المقدَّس يغسل به جبينه كأنه عريقٌ في النصرانية أشجاه هذا الذي تمثل ورأى، وشعر بأن جوانب المعبد تميد ميداً، وإن ألوف الأصوات أخذت تطفو على نفسه فلا يستطيع لها رداً!
ثم خيل إليه أنه يسمع قعقعة العمُد، وصليل القباب وهي تنهار، كأن مسجد قرطبة الجامع قد عاف عيشه الخابي، فتداعى مغيظاً مُحنقاً
وتمثّل الناس والرهبان وآلهة النصرانية وقد طوتهم الأنقاض، فاستفاق راعشاً، وأنطلق يعدو في القفر البعيد النواحي شاجناً ناشجاً، وقد خلف حبه في القصر يائساً
معروف الارناءوط