مجلة الرسالة/العدد 138/اثر الحضارة الإسلامية في الإحياء الأوربي
→ الزاهدان | مجلة الرسالة - العدد 138 اثر الحضارة الإسلامية في الإحياء الأوربي [[مؤلف:|]] |
الفردوس الإسلامي المفقود ← |
بتاريخ: 24 - 02 - 1936 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عصر الإحياء أو إحياء العلوم من أعظم عصور التاريخ الأوربي؛ وهو بلا ريب مطلع النور والعظمة في حياة أوربا الحديثة وفي تكوينها السياسي والفكري الاجتماعي؛ وفي معترك الإحياء الساطع تذوب ظلمات العصور الوسطى التي خيمت على أوربا منذ سقوط الدولة الرومانية، ويفتر ليلها الطويل عن حياة جديدة تسرى إلى جنبات القارة القديمة، فتلقي من حولها غمر الماضي بقوة، وتستقبل عصوراً جديدة من القوة والعظمة والسيادة في جميع مناحي الحياة
وإنا لنشعر ونحن نستعرض تاريخ الإحياء أننا لا نتلو تاريخ أمم أو شعوب معينة، وإنما نتلو صفحة من أنبل صفحات الإنسانية تبهرنا بما حوت من المظاهر والمعاني السامية للعبقرية البشرية. ولقد كان تراث الإحياء وما يزال تراث الإنسانية كلها، ذلك أن ثمرات التفكير البشري هي ملك الإنسانية في كل زمان ومكان؛ ولم يكن تاريخ الإحياء مدى قرن ونصف في معظم الدول الأوربية سوى تاريخ العلوم والفنون والآداب التي تفتحت في ذلك العصر كما تتفتح الأزهار، والتي بثها إلى ظلمات العصور الوسطى أرواح وأذهان وعقول ارتفعت فوق العصور والمجتمعات التي ازدهرت بها، وسمت بمبادئها ومثلها كما سمت بعبقريتها
ولقد كتب تاريخ الإحياء مدى القرون وما زال يكتب في كل عصر؛ ولكنه يتخذ دائماً طابعه القومي أو المحلي، وقلما يكتب من الناحية الإنسانية المحضة؛ وانك لتشعر حتى فيما يكتب من الناحية الإنسانية أن العوامل القومية والمحلية تتبوأ دائما مكانتها وتغشى فيه كل نزعة أخرى؛ وكثيراً ما تساءلت وأنا استعرض هذه الصفحة الباهرة من تاريخ الإنسانية، كيف يغفل مؤرخو الغرب حين يكتبون تاريخ الإحياء عن استعراض صفحة أخرى من تاريخ الإنسانية لا تقل عن صفحة الإحياء قوة وجمالا وروعة هي الحضارة العربية الإسلامية، وما كان لها من اثر بارز في بعث عصر الإحياء الأوربي؟
والحقيقة أن هذه الناحية من تاريخ عصر الإحياء كثيرا ما تغمط حقها وتنكر علائقها وآثارها في بعثه وتكوينه. بيد أنها تستحق منا نحن الذين يفهمونها ويقدرونها عناية خاصة؛ وليس يكفي أن نكتب تاريخ الحضارة الإسلامية، بل يجب نعالج آثارها في تكوين مختلف المدنيات والحركات العقلية الأخرى؛ ولقد كان الإحياء الأوربي حركة عقلية عظيمة ومطلع حضارة جديدة رائعة، وكان لحضارة الغرب الإسلامي أثرها في بعث هذه الحركة، فمن واجبنا أن نستقصي هذا الأثر وأن نعرضه إلى جانب ما يعرض لنا من تطور حركة الإحياء الأوربي
ومن الصعب أن نحاول استعراض هذا الأثر في مقال أو فصل، ولكنا نحاول فقط أن نلم ببعض أطرافه العامة؛ وأخص ما يبدو هذا الأثر في النواحي الفكرية والاجتماعية من عصر الإحياء؛ ونلاحظ أن طوالع الإحياء ظهرت بادئ بدء في إيطاليا وبدت في الشعر بوجه خاص، وحمل لواءها الأول شعراء عظام مثل دانتي وبترارك، حاولوا أن يعيدوا مجد الشعر الروماني القديم؛ ولم تكن هذه النهضة الشعرية الرائعة رغم اتجاهها إلى مثل فرجيل عميد الشعر الروماني خالية من تأثير المثل الشعرية في غرب أوربا. ذلك أن النهضة الشعرية التي ازدهرت قبل ذلك بنحو قرن في بروفانس (جنوب فرنسا) والتي كانت حركة (التروبادور) الأدبية في الشعر والقصص من أقوى مظاهرها، كانت قد أحدثت آثارها في الحركة الأدبية في شمال إيطاليا حيث بزغ فجر الإحياء؛ ولم يكن شعر دانتي بعيداً عن التأثر بعوامل الشعر البروفنسي ووحيه، بل لم يكن أسلوب دانتي نفسه بعيداً عن التأثر بالأساليب البروفنسية، ويرى علماء اللغة فوق ذلك أن اللغة الإيطالية الحديثة والتي وضعت أسسها في عصر الإحياء قد تأثرت في تكوينها إلى حد كبير بالروح والتراكيب البروفنسية القديمة؛ ويشيد دانتي نفسه في بعض قصائده الكبرى بعبقرية زعماء الشعر البروفنسي ومثلهم الشعرية، ويرى في تيبول ملك نافار مثلاً أعلى للشاعر؛ فهذه الظواهر والعوامل كلها تدلل على آثار النهضة الشعرية الغربية في شعر الإحياء
هذا ومن جهة أخرى فقد كان الشعر البروفنسي ذاته عرضة لمؤثرات قوية، من الجنوب فيما وراء البرنيه. وكانت الحضارة الإسلامية في الأندلس تنفث آثارها منذ القرن التاسع في شمال أسبانيا وفي غاليس (جنوب فرنسا)، وكان أثرها بالأخص قوياً واضحاً في بروفانس التي كانت مركز الحركة الأدبية في الجنوب منذ القرن العاشر؛ وكانت بروفانس ذاتها مدى حين مستقراً لبعض المستعمرات العربية الغازية التي حملت إلى تلك الأنحاء كثيراً من التقاليد والمؤثرات الإسلامية، ولاسيما في شعر الفروسية، بل لقد سرت هذه التقاليد والمؤثرات إلى الحركات الفكرية والأدبية في أنكربرديه (لومباردي)؛ فليس غريباً أن نستخلص من تفاعل هذه المؤثرات والعوامل كلها أن شعر الإحياء لم يكن بدايته بعيداً عن التأثر بمؤثرات الحضارة الإسلامية ومؤثرات الشعر الأندلسي عن طريق الشعر البروفنسي
ومما يبعث حقاً إلى الدهشة أن نجد شبهاً عجيباً في الموضوع والخيال والتصوير بين (جحيم دانتي) وهي أعظم وأروع آثاره وبين أثر عربي أقدم هو رسالة الغفران للشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، مما قد يحمل البعض على الظن بأن دانتي قد وقف بطريقة من الطرق على موضوع رسالة الغفران، وقد كتبت قبل عصره بأكثر من قرنين، ومع أن هذا الرأي لم يؤيد بصفة علمية واضحة، إلا أنه مما يلاحظ في تأييده أن كثيراً من علوم العرب آثارهم العلمية والعربية كانت معروفة في شمال إيطاليا عن طريق البندقية منذ القرن العاشر الميلادي
هذا ونستطيع من الناحية العلمية العامة أن نقول أيضاً أن بعث الإحياء الأوربي لم يكن بعيداً عن التأثر بمؤثرات العلوم الإسلامية؛ فنحن نعرف أن الأندلس كانت منذ القرن التاسع الميلادي نبراس الغرب كله في العلوم، ونعرف أن مدارس قرطبة واشبيلية وغرناطة كانت فيما بعد كعبة الطلاب من سائر أنحاء أوربا، وأن النهضة العلمية في أوربا بدأت قبل عصر الإحياء على يد جماعة من الرهبان النصارى الذين تلقوا العلوم في مدارس الأندلس مثل جربرت الراهب الفرنسي الذي ارتقى عرش البابوية فيما بعد باسم سلفستر الثاني (سنة 999 م) وآبيار وهو أيضاً راهب فرنسي تفقه في الفلسفة والعلوم المعاصرة وطار صيته في أوائل القرن الثاني عشر؛ وكان اعظم ما يتلقى الرهبان العلماء - وهم يومئذ دعاة العلم في الغرب الأوربي - الفلسفة اليونانية عن طريق العلماء والفلاسفة المسلمين، ولاسيما ابن رشد الأندلسي الذي كان أول من عرف العالم الغربي بالفلسفة الأرسطوطالية، وقد ترجمت شروحه المستمدة من الفلسفة الأرسطوطالية في المنطق وما وراء الطبيعة اللاتينية منذ القرن الثاني عشر، وكانت أساسا لكثير من المباحث الفلسفية التي ازدهرت أيام الإحياء الأوروبي في شمال إيطاليا، بل يرى مؤرخو الفلسفة أن الفلسفة الجدلية الأوربية استمدت من العرب والفلسفة العربية أكثر مما استمدت من قسطنطينية التي كانت مستودعاً لتراث المدنية اليونانية؛ وليس من ريب في أن جهود العرب في ميدان الكيمياء والطب كانت أكبر مستقي للغرب في هذا الميدان؛ فقد كانت الكيمياء العلمية علماً عربياً محضاً، وقد بلغت ذروة ازدهارها في العصور الوسطى في معامل قرطبة واشبيلية وغرناطة، وكان أطباء الأندلس أساتذة الطب في أوربا كلها، وإليهم كان يهرع الطلاب من سائر الأمم الشمالية؛ وكانت مدرسة سالرنو الطبية في جنوب إيطاليا تقوم على تراث الحضارة الإسلامية التي سادت صقلية وجنوب إيطاليا زهاء قرنين؛ وكانت آثار الطب العربي تبدو في هذا الميدان بصورة قوية بارزة؛ ويمكن أن يقال مثل ذلك على بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والرياضيات، وقد بلغت أيضاً في الأندلس شأواً عظيماً
والخلاصة أن آثار الحضارة والعلوم الإسلامية في بناء النهضة العلمية الأوربية واضحة لا يمكن إنكارها؛ وإذا استثنينا ميدان الفنون في نهضة الإحياء، فأنه يصعب علينا أن نتصور ناحية من نواحي هذه النهضة الفكرية الرائعة؛ سواء في العلوم أو الآداب تبعد كل البعد عن التأثر بعبقرية التفكير الإسلامي، سواء مباشرة أو بواسطة عوامل أخرى. بيد أنه مما يؤسف له أن هذه الناحية لا تلقى في المباحث الغربية ما يجدر بها من الشرح والتقدير؛ ويلاحظ أن مؤرخ الإحياء الأوربي يكاد يغفلها بصفة مطلقة، هذا في حين أن مؤرخ العصور الوسطى لا يستطيع أن يغفلها
ولكن معظم مفكري الغرب ومؤرخيه ما زالوا ينظرون إلى تاريخ العرب والإسلام والحضارة الإسلامية ومؤثراتها نظرة خاصة قلما تنجو من مؤثرات الدين والقومية، بل لقد درج فريق منهم على اعتبار العرب ضمن القبائل والأجناس البربرية التي حطمت صرح الدولة الرومانية، واعتبار الغزوات الإسلامية لجنوب أوربا كوارث دينية وقومية؛ وما زالت المباحث التاريخية تبالغ في تقدير مؤثرات الحضارة الرومانية في أمم العصور الوسطى وتعتبرها دائما عاملاً حاسماً في كل تطور فكري أو اجتماعي، هذا بينما نراها تغفل تقدير الحضارة الإسلامية ومؤثراتها؛ ويلوح لنا أن الوقت قد حان لنعمل من جانبنا على تصحيح هذا الموقف، ورفع هذا الإجحاف الذي يلحق بتراث المدنية الإسلامية في أوربا، والتنويه بما لهذا التراث من الآثار الحاسمة في المدنية الأوربية بوجه عام، وبما له من آثار خاصة في معظم الحركات الفكرية التي قامت في أوربا خلال العصور الوسطى
بيد أنه من الإنصاف أيضاً أن نقول أننا نلمح في بعض المباحث الغربية المستنيرة، أثر هذا التطور في فهم المهام الإنسانية التي أدتها الفتوحات الإسلامية في العصور الوسطى، وفي تقدير التراث العظيم الذي خلفته الحضارة الإسلامية، وما كان لها من آثار خطيرة حاسمة في تطور الحركات العقلية والاجتماعية في تلك العصور؛ ومن الحق أن نقول أن بحوث أولئك العلماء المستنيرين قد رفعت كثيراً من الحيف والإجحاف والريب التي لحقت ذكريات العرب والإسلام في أوربا من جراء الصور والروايات الخاطئة المغرضة التي مازالت تقدم منذ أحقاب عن العرب والإسلام إلى المجتمع الأوربي الحديث
محمد عبد الله عنان