مجلة الرسالة/العدد 138/قصة المكروب
→ الفردوس الإسلامي المفقود | مجلة الرسالة - العدد 138 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
أندلسيات: ← |
بتاريخ: 24 - 02 - 1936 |
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
لم يستطع بستور رؤية مكروب داء الكلب لصغره ومع هذا رباه في مخ الأرانب فتربى، وذلك لان حقن لعاب كلب مسعور في أرنب، ثم أخذ نخاع هذا الأرنب فحقنه في مخ كلب فمات. فعلم بذلك أن مخ الأرنب ونخاعه غذاء طيب يتربى المكروب عليه. واتجه مع أعوانه الشباب إلى تأنيس المكروب ليصنعوا منه لقاحا ففشلوا، ويئس الأعوان الشباب، أما بستور الشيخ العاجز فلم تضعف عزيمته ولا قل رجاؤه
قال الشابان: (انه يا أستاذنا لا فائدة من كل هذا)، وأشاحا بأيديهما في تخاذل إلى الأقفاص بحيواناتها الشلاء وإلى ركام الأنابيب والقوارير
فصوب الشيخ عينه فيهما تصويباً شديداً، وعلته جَهمة خالا معها أن شعره الأشيب المخِفّ تصلب واستقام، وصاح فيهما: (أعيدا هذه التجربة نفسها مرة اخرى، ولو أنها خابت آخر مرة. قد تتراءى لكما الحماقة في الذي اقول، ولكن الشيء المهم الآن أن تظلا غامرين أيديكما في الموضوع الذي أنتما فيه فلا تغسلاها منه فتنفضا عنه). هكذا ظل ينخّسهما حتى يعيدا مرة بعد أخرى تجارب لا أمل فيها ولا رجاء. فهذا كان دأبه دائما؛ تُعْوِزه الحجة، ويصرخ المنطق والحقائق غاضبة في وجهه، ومع هذا يتشبث بالتجربة العقيمة، ويتغافل جنوناً عن وحي الرأي العادي السليم، ولكنه تشبثٌ وتغافلٌ يُفضيان أحيانا من طريق الخيبة إلى النجاح المأمول
لكأني بك تسألني لم كان عقيما محاولة تأنيس مكروب الكلب هذا؟ ولم وجبت إضاعة الرجاء في ترويضه؟ أوْجَبَ ذلك يا سيدي أن تاريخ الإنسان كله لم يذكر حالة واحد أصيب فيها إنسان أو حيوان بهذا الداء ثم اشتَفى. أن هي إلا أعراضه تظهر على المريض، وتبلغ جرثومة الداء إلى نخاعه ومخه، حتى يضيع فيه الرجاء. وأي جرثومة فتّاكة قتّالة! وهذه الجرثومة يا سيدي هي التي حملها بستور وأصحابه عارية على أطراف مشارطهم تكاد تهمّ أن تسقط البلاء عليهم. هذه الجرثومة هي التي مصها بستور وأعوانه في أنابيب الزجاج حتى بلغت إلى شفاههم إلا بوصة واحدة، وإلا قطعة من القطن فصلت بينها وبين أفواههم
وفي ظلمة اليأس الذي هم فيه أشرقت بارقة من الأمل؛ وفي صموت الكآبة التي هم فيها سمعوا نغمة موسيقية حلوة بعثت فيهم الرجاء. ذلك أنهم ذات يوم وجدوا كلباً من الكلاب حُقنت بالمادة الوبيئة شُفي بأعجوبة بعد أن ظهرت عليه أعراض الداء من ارتعاد وعواء، وبعد أسابيع قاموا في لهفة إلى هذا الكلب، وهو أول مشتفِ من هذا الداء، فحقنوا الوباء في مخه حقناً، ولكن ما أسرع ما أندمل جرح رأسه! وتربص بستور به الموت، ولكن الموت لم يأته، وظل أشهراً يلعب ناشطا في قفصه وقد تمت حصانته كل التمام
قال بستور لرجاله: (الآن أنفتح لنا ما استغلق، وعلمنا أن لنا أملاً في النجاح. . . أن الحيوان إذا جاءه داء الكلب ثم أشتفى منه فلن يعود إليه هذا الداء من بعد ذلك. . . فلم يبق علينا إلا أن نجد طريقة لإضعاف الجرثومة وتأنيسها). فأمّن رجاله على ما يقول وفي قلوبهم أن لا سبيل إلى تأنيس هذه الجرثومة أبداً
وأخذ بستور في اختراع تجارب مما لا يستطيعها الجن بَلهَ البشر، وانتثرت على مكتبه تخطيطات عدّة منها كأنها الخط الهيروغليفي، وكانت تجتمع عنده في صباح اليوم نتائج تجارب الأمس فيدعو إليه في الساعة الحادية عشرة صباحا عَوْنيه رو وشمبرلاند، فيقرأ عليهما خطة جامحة أخرى يختطّها ليصل بها تحسساً في الظلام إلى هذه الجرثومة التي لا تُرى ولا تُنال رجاء أن يُضْعفها - خطة تأخذ بإصبعه إلى باطن الأرض فتحط به على رأس الجرثومة حطاً
كان يقول لهما بستور: (جرّبا هذه التجربة اليوم)
فيقولان له في اعتراض: (ولكن هذا غير ممكن عملاً)
فيقول بستور: (ومع ذلك أجْرياها، أجرياها بالطريقة التي تتراءى لكما بشريطة أن تُحسناها)
كان مثل بستور في ذلك مثل بتهوفن يُضمن سِنْفُونياته الموسيقية دورا لا يلعبه إلا البوق وهو ليس عنده، ولكنه لا يلبث بعد خلق الدور أن يخلق بوّاقاً. كذلك كان بستور في تلك الأيام يفتن في التجارب افتناناً، ثم بعد ذلك يجد من ذكاء عونيه وحرصهما ضميناً لإنجاحها
وأخيراً اهتدوا إلى طريقة لتأنيس جرثومة الكلب، وذلك بأن استخرجوا قطعة من نخاع أرنب مات من الداء، ثم علقوها مدة أربعة عشر يوماً في قارورة لا تدخلها جراثيم الهواء، فلما جفّت وانضمرت حقنوها في أمخاخ كلاب سليمة فإذا هذه الكلاب لا تموت!
قال بستور: (مات الجرثوم! أو خير من ذلك أُضعف إضعافاً كبيراً)، وتلك النتيجة الأخيرة نطّ إليها بستور نطاً بلا سبب مقبول ولا مبرر معقول. قال: (والآن فلنجفف قطعاً أخرى من النخاع الوبيء اثني عشر يوماً، ثم أخرى عشرة أيام، فأخرى ثمانية ثم ستة، ثم نرى أنستطيع بهذه القطع أن نعطي كلابنا قليل من الداء. . . إذن والله لتحصنت منه
وأخذوا جميعاً في سبيل هذه التجربة الخالية، ومضت أربعة عشر يوما ذرع فيها بستور أرض المعمل رائحاً غادياً بين القوارير والمجاهر والأقفاص المنثورة فيه، وعبس وتسخط، وخط في كراسته الشهيرة ما شاء له الخاطر أن يخط؛ وفي اليوم الأول حقنت كلاب بالنخاع الوبيء الذي جفف أربعة عشر يوماً، وفي اليوم الثاني حقنت بالنخاع الأقوى وباء، ذلك الذي جُفف في القارورة ثلاثة عشر يوماً، وهكذا إلى اليوم الرابع عشر وفيه حقنت الكلاب بالنخاع الذي جفف يوماً واحداً، وبه وباء لا شك يقتل الكلاب لو أنها فوجئت به أول مرة
وظلوا جميعا ينتظرون هذه الكلاب أياماً شابت فيها رؤوسهم، ولكن شيء من داء الكلب لم يظهر عليها أبداً. فانبسطت أسارير هذه الأغوار الثلاثة التي قامت تحارب الموت فتكشر له كما كشر. حقنوا في الكلاب أربعة عشر حقنة وبيئية فلم يصبها من الضرر قليل أو كثير. ولكن هل هي حقاً تحصنت من الداء؟
وخشي بستور أن لا تكون، فأجفل من ذكرى ضياع كل هذه الأعوام في عمل غير نافع. لكأني بك تسمعه يقول لنفسه: (أنا اليوم شيخ عاجز، والأيام تجيء فلا تزيدني إلا عجزاً. . .)، وكان لابد من إجراء التجربة الفاصلة الأخيرة. وكان لابد لبستور أن يتجلّد على إجرائها مهما كانت عاقبتها. كان لابد له أن يعلم أتحتمل هذه الكلاب بعد كل الذي جرى لها حقنة قوية غير مضعفة من التي تحقن في الكلاب المائة السليمة فتقتل منها المائة
وذات يوم ثقب رو في رأس كلبين من هذه الكلاب ثقبا حقن فيه وباء قوياً لم يُضعف. وفعل مثل ذلك في كلبين سليمين لم يحقنا بحقنة أبداً
وبعد شهر أيقن بستور وأصحابه أن النصر أتاهم أخيراً بعد عمل ثلاث سنين. فالكلبان اللذان كانا حقنا أربع عشرة مرة ظلا يجريان في قفصيهما ويلعبان ولم يتوعكا أصلاً، أما الكلبان الآخران اللذان لم يتحصنا فنبحا آخر نباح وماتا من الداء
إن بستور له شخصيتان، فهو مخلص الأرواح وبحّاثة في آن، وهما شخصيتان دائماً متنازعتان، ودائما تجور أولاهما على أخراهما. لذلك ما كاد يطمئن إلى النتيجة الطيبة التي خرج عليها من هذه الكلاب، حتى دارت رأسه بالخطط الكثيرة يرسمها ليمحو بها داء الكلب من على ظهر هذه البسيطة. فكانت له في ذلك مئات المشروعات كلها سخيفة، دار منها في عالم أدكن من الخيال، وسلك فيها من الفكر سُبُلاً كثر ضبابها واشتد، فلم يستطيع رو وشمبرلاند أن يخترقاه فضلا فيه وضلت فيه زوجه كذلك. وكان ذلك عام 1884، وفي هذا العام نسي بستور مما هو فيه عيد زواجه، فأساء هذا النسيان إلى زوجه، وهي التي عانت في حياتها ما عانت، فكتبت إلى أبنها تشكو: (إن أباك غارق في أفكاره؛ وهو قليل الكلام، قليل النوم، وهو يستيقظ مع الفجر؛ واختصاراً هو يجري في هذا اليوم على نفس الأسلوب الذي جرى عليه منذ التقت حياتانا من خمس وثلاثين سنة كاملة)
ومن تلك الخطط الجامحة أنه رأى أن يحقن هذا المكروب المضعف في كل كلاب فرنسا في دفعة نابليونية واحدة. قال للبيطار الشهير نوكار (يجب أن نذكر أن الإنسان لا يصاب بداء الكلب أبداً إلا إذا هو عضه كلب مكلوب فإذا نحن محونا هذا الداء من الكلاب محوا كاملا. . .) فضحك نوكار من قوله وهزّ رأسه إنكارا، ثم قال له: (إن في باريس وحدها مائة ألف من كلاب وجِراء. وفي فرنسا مليونان ونصف مليون منها، فإذا أنت أردت أن تحقنها دفعة واحدة، وأن تحقن كلا منها أربع عشرة حقنة في أربعة عشر يوما، فمن أين لك بالرجال؟ ومن أين لك بالزمان؟ ومن أين لك يا عزيزي الأفخم بهذا العدد من الأرانب؟ بل من أين تأتي بأنخعة وبيئة تصنع منها ألف لقاح فحسب؟ وأخيراً طلعت على بستور فكرة بسيطة أخرجته من ورطته. قال لنفسه: (ليست الكلاب هي التي نعطيها الألقحة، بل الرجال التي عضتها الكلاب. ألا ما أحصر! ألا ما أيسر! يعض الكلب المسعور رجلا فلا يختمر الداء فيه ولا تظهر أعراضه عليه إلا بعد أسابيع. . . إن الجرثومة إذن تستغرق كل هذه الأسابيع لتصل من مكان العضة إلى مخ الرجل. . . إذن نحن نستطيع في هذه الفترة أن نحقن في الرجل حقناتنا الأربع عشرة وبذلك نحميه من المرض قبل اختماره.) وما أسرع ما دعا إليه رو وشمبرلاند وقاموا بتجربة هذا الرأي في الكلاب أولا
فوضعوا كلابا مريضة في أقفاص واحدة مع أخرى سليمة فعضتها. كذلك جاء رو بكلاب أخرى سليمة وحقنها بحقنة فاتكة من نخاع أرنب وبئ، ثم جاءوا بجميع هذه الكلاب، المعضوضة والمحقونة بالوباء، تلك الكلاب التي لاشك هي لاقيةٌ حتفها إذا تُركت لشأنها، فحقنوها جميعا بالأحقنة المحصنة الضعيفة فالأقل ضعفاً حتى استتمت أربع عشرة لكل منها، فما الذي كان؟ كان الفوز كل الفوز، فكل مخلوق من تلك الخلائق صد عن نفسه في استكمال وخفاء هجمة هذا الوباء. وبستور الذي عانى من ألقحة الجمرة الذي عانى، صاح يدعو إلى تأليف لجنة من خير رجال الطب في فرنسا تقوم بامتحان تجاربه والحكم لها أو عليها. وجاء حكم اللجنة فإذا به يقول: (إن الكلب إذا حُصِّن بأنخعة الأرانب الوبيئة التي ماتت من هذا الداء، بأن يُحقن بالتدرج بضعيف الوباء فالأقل منه ضعفاً، فهذا الكلب لا يأتيه الكَلَب أبداً)
فتساقطت الرسائل على بستور من كل صوب، رسائل هالعة من كتب وتلغرافات جاءت تنصب عليه أنصباباً من أطباء مداوين، ومن آباء جازعين، وأمهات راجفات يطلبن الغياث لأطفال لهن عضتها كلاب مسعورة. حتى إمبراطور البرازيل العظيم تنازل من عليائه فكتب إلى بستور سائلاً راجياً
ولن أحدثك كثيراً عن هم بستور في تلك الأيام، ذكر ما كان قاساه من لقاح الجمرة وشتان ما بين الجمرة والكلَب. ففي الجمرة إذا ازدادت قوة اللقاح عن القدر المقدور ماتت شياه من جراء ذلك. أما هنا في الكلَب فخطأ في التقدير يفضي إلى ضياع أرواح البرايا من رجال وأطفال. . . لم يقع أحد من صيادي المكروبات في حيرة مثل هذه، ولم تقع عليه مسئولية كتلك. . قال بستور لنفسه: (لم يمت كلب من كلابي بسبب لقاحي أبداً. والذي عُضَّ منها فحقن بهذا اللقاح احتمى من الداء احتماء كاملاً. فلا شك أن الذي حدث في الكلاب يحدث في الإنسان. . . ولكن. . .)
ومرة أخرى عاود الأرق هذا البحّاثة المسكين من أجل أنه كشف كشفاً بلغ من الإبداع مبلغاً بعيداً. فكان يرقد على ظهره في سريره وينظر في كتل الظلام التي فوقه فيرى فيها خيالات من أطفال تصرخ في طلب الماء لحلوق جافة مخنقة بالداء، أول شيء تأباه وتخافه هو هذا الماء، ويخال أنه هو الذي جاءها بداء الكلَب بسبب خطأ في لقاحه فيُجفل من تلك الخيالات إجفالاً
ومرت به ساعة عاوده فيها حب المباغتات على نحو ما يجري على المسارح من المفاجآت، أراد أن يكون بطل الدرامة، فكتب إلى صديقه القديم فرسيل يقول: (أميل كثيراً إلى أن أبدأ بنفسي فاحقنها بهذا المكروب القاتل ثم أدفع فعله بلقاحي، فقد والله بدأت أحس في قلبي الثقة بنتائجه)
ولكن رحمة الله به ساقت إليه أخيراً من حل في التجربة محله فوقته شر ما أعتزم عليه في أمر نفسه: جاءته امرأة من الألزاس تسعى إليه دامعة العين، ودخلت معمله تجر وراءها ولداً لها اسمه يوسف في التاسعة من عمره جرحه كلب مسعور في أمسه الأول أربعة عشر جرحاً، وكان ينشج بالبكاء، وقد ملأه الرعب وارتعدت فرائصه فلم يكد يستطيع سيراً
صاحت ألام راجية: (سيدي بستور، أنقذ ولدي!)
فسألها بستور أن تعود إليه في مساء اليوم، وقام هو لزيارة طبيبين يدعى أحدهما يليبان ويدعى الآخر جرانشيه وكانا من أحبابه ونُصرائه، وكانا في معمله فرأيا فيه كيف استطاع أن يخلص الكلاب من بلواها بعد أن عضتها كلاب مسعورة عضاً شديداً، وفي المساء ذهبا معه إلى الطفل فلما رأى يليبان جروحه عابسة متقيحة ألح على بستور أن يقوم بتلقيحه تواً. قال: (قم يا رجل وابدأ علاجك، فانك أن لم تفعل مات هذا الغلام لا محالة)
وفي هذه الليلة، الليلة السادسة من يوليو عام 1885، حقنت أول حقنة من لقاح الكلَب في أدمي، وقضى الطفل أربعة عشر يوما أخذ فيها أربع عشرة حقنة من إبرة تحت الجلد فلم يصبه سوء، ثم عاد إلى الألزاس فلم يأته بعد ذلك عرض من أعراض هذا الداء المخوف أبداً
في العدد القادم آخر مقال عن بستور
احمد زكي