مجلة الرسالة/العدد 128/قصة المكروب
→ المرأة كما يراها شوبنهور | مجلة الرسالة - العدد 128 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
في طريق المدينة ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1935 |
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
كوخ غزاة المكروب
وانتقل كوخ بزوجه ومتاع بيته إلى برِسْلاوة، وعُيّن فيها طبيبا للبلدية براتب قدره تسعون جنيها في العام، وكان قد افتُرِضَ عند تقدير المرتب أن كوخ لا شك سيضاعفه أضعافا بما يكسبه من مرضاه، وأن المرضى لا شك آتون إليهزرافات ووحدانا إذا شاع في البلد أنه قد حلّ به مثل هذه العبقرية الفذّة. هكذا ظن الأستاذ كوُن، وهكذا ظن الأستاذ كُون هايم؛ وفتح كوخ داره للناس، فلم يقرع بابه طارق واحد. عندئذ تعلم كوخ أن من مساوئ الطبيب أن يكون فِكِّيرا يبحث في علل الأشياء. وعاد أدراجه إلى قرية فُلِشتين عودة حنين بخُفيه، وفيها ظل يقتفي آثار المكروب، ويتجسّس الجراثيم، ويقتنص تلك الخلائق الدنيئة في أجحارها، تلك الموجودات المعدومات في حكم العين، التي تصل إلى جروح الإنسان والحيوان فتبُثّ فيها سمّا قاتلا. وظل يحرز في هذا الميدان السبق بعد السبق من عام 1878 إلى عام 1880، وتعّلم أن يَصْبُغ كل نوع من أنواع البشلاّت صَبْغاتٍ مختلفات لتظهر صُغرها بَيْنة الجرم فيما حولها واضحة الحدود. واقتصد شيئا من المال، ولا يدري إلا الله كيف اقتصده، وأشترى كمِرةً ربط عدستها بمكروسكوبه، وتعلم وحده كيف يصوّر بها تلك الخلائق الصغيرة
قال كوخ: (ليس في استطاعة المرء أن يقنع العالم بحقيقة هذه المكروبات حتى يريهم صُوَرا منها. وفوق هذا فالمجهر الواحد لا يستطيع النظر فيه اثنان في آن، وهما إذا نظرا استحال عليهما أن يَنْقلا عن المكروبة الواحدة صورةً واحدة، وإذَنْ يكون خصام وانقسام. أما الصور الفوتوغرافية فلا تكذب، ويستطيع العشرة من الرجال أن ينظروها معاً، ويدرسوها سوياً، ويخرجوا منها على نتيجة واحدة لا سبيل للخُلف فيها) على هذا النحو أراد كوخ أن يدخل في هذا العلم الوليد شيئاً من النظام والانسجام مكان الهرجلة والتخليط، وشيئاً من الموسيقى والنغم المتسق بعد النشوز الذي آذى الآذان ردحا طويلا من الزمان وفي هذه الأثناء لم يغب عن بال أصدقائه؛ ففي عام 1880 لم يدر إلا والحكومة تدعوه إلى الحضور إلى برلين ليتعين بها زميلا فوق العادة لمصلحة الصحة الإمبراطورية. وفي منصبه الجديد أعطت له السلطات معملا جميلا، ووفرة كبيرة من الأجهزة لم يكن يحلم بها، ومساعدين، ومالا كافياً فيه غناءٌ عن طلب الرزق، وتمكينٌ له من قضاء ست عشرة ساعة أو ثماني عشرة في اليوم الواحد بين صبغاته وأنابيبه وخنازيره الغينية
وفي هذا الوقت كانت اكتشافات كوخ شاعت في معامل أوربا جميعها، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أمريكا، فقام لها أطباؤها وقعدوا، وتحمسوا لها، واتقدوا من جرائها اتقادا؛ ودارت معركة حامية الوطيس واسعة النطاق حول نظرية الجراثيم وبلغت في هذا الأوان أشدها. واتخذ كل طبيب وكل أستاذ في علم الأمراض عرف المكرسكوب وخفاياه، أو خال أنه عرفه وعرف خفاياه، اتخذ عدته وعتاده، وقام بتقفي المكروبات يؤمل اصطياد جديد منها؛ وأخذت تنجلي الأسابيع عن اكتشافات مزعومة فرح الناس لها عن جراثيم خال أصحابها أنها سبب السرطان أو السل أو التيفود. وصرخ صارخ منهم صرخة تردد صداها في القارات الخمس زعم فيها أنه وجد مكروبا واسع الأثر يعطيك من الأمراض على هواك، من التهاب الرئة إلى زكمة الدجاج. وهدأت هذه الصرخة، وتلاشت موجاتها في الهواء، لتَتْبعها أخرى من سخيف آخر يدعي أنه أثبت أن الداء الواحد كالسل مثلا قد تسببه مئات من أنواع مختلفات من المكروبات
ازداد تحمس القوم لفكرة الجراثيم، وزاد تخليطهم فيها، حتى خِيف على اكتشافات كوخ ذاتها أن يضحك الناس منها ضحكهم من هذه الخُزَعْبِلات التي ملأت الكتب والمجلات في هذا السبيل، وأن ينسوها نسيانهم تلك الأباطيل
ولكن قُدّر لأعمال كوخ أن تحيا؛ واليوم صيحة الأمم أقوى في طلب زيادةٍ في المعامل، وزيادة في قنّاص المكروب، وزيادة في أجور البُحّاث الذين يعملون جهدهم في دفع السوء عنا، ولا سبيل إلى التقدم إلا أن يبعث الله لنا رجالا ككوخ ذوي صدق وبصيرة
كان ما كان من هذا الحماس الجاهل المشئوم الذي لا يكون من نتيجته إلا القضاء على علم المكروب وهو وليد ناشئ. ولكن كوخ حفظ اتزانه في وسط هذه الجلبة الضارة، وجلس في هدوء وسكون يتعلم كيف يربي النوع الواحد من المكروب خالصاً من أخلاطه. قال: (أنا أومن بأن النوع الواحد من الجراثيم يسبب نوعاً واحدا من الأدواء، وأن كل داء له جرثومته الخاصة) آمن بذلك قبل أن يُثبته، فكأنما أُوحي إليه. قال: (. . . . . فلا بد لي أن أجد طريقة أكيدة يسيرة أُكّثر بها الجنس الواحد من المكروب دون أن تختلط به الأجناس الأخرى التي هي دائماً حوله تحاول الدخول إليهخلسة واستراقا)
ولكن كيف السبيل إلى اقتناص جرثومة واحدة بادئ ذي بدء؟ اخترع المخترعون عدة مكنات غريبة لفصل المكروبات، ونصب آخرون منهم أجهزة مركبة معقدة، طويلة لا شك أنهم من طولها وتعقد تركيبها نسوا بعد أن أتموا الغرض الذي من أجله نصبوها. وقام بحاث غير هؤلاء، لا يبالون الموت، فحقنوا المكروب الذي حقنوا في جو سام قتال من الكيميائيات المطهرات ليقتلوا جراثيم الهواء التي تسبح فيه على ضلال كي لا تقع في المكروب الذي يحقنون
- 5 -
وذات يوم نظر كوخ إلى فِلْقة من البطاطس المسلوق تُرِكت عفوا في معمله، نظر إليه اتفاقاً وأقر هو بذلك؛ نظرها فوجدها قد تبقعت بعدة بقع ذات ألوان، فهمس لنفسه قال: (هذه بقعة شقراء، وهذه بقعة حمراء، وهذه ثالثة بنفسجية، ورابعة صفراء. لابد أنها تكوّنت جميعاً من جراثيم الهواء). وأخذ يحدق فيها من قريب لقصر نظره حتى كادت تمتزج بها لحيته الخفيفة، وهّم ينظف عدسات مجهره ويهيئ رقائق الزجاج. وأمسك بعود رقيق من معدن البلاتين فغمسه بخفة في بقعة من البقع الشقراء ورفعه بشيء منها؛ ثم وضع هذا الشيء القليل، ومزاجه كالمخاط، على رقيقة من تلك الرقائق الزجاجية، ودافه بقطرة من الماء، وحدق فيه من خلال المجهر فإذا جماعات البشلات تتهادى في الماء عموماً، وتشاكلت جميعها فلم يكن بها على كثرتها بشلة واحدة غريبة عن أخواتها. وأخذ من البقعة الصفراء ومن البنفسجية ومن الحمراء، فوجد لمكروب في إحداهما مستديرا، وفي الأخرى عصيا عائمة، وفي الثالثة حلزونيات كالبريمات دبت فيها الحياة؛ وليس في هذا جديد، وإنما الجديد أن المكروبات في البقعة الواحدة متشاكلات لا تختلف واحدة عن أختها
وفي سرعة البرق الخاطف تجلى لكوخ جمال هذه التجربة التي اصطنعتها له الطبيعة: (كل بقعة من هذه البقعات زريعة خالصة من نوع واحد من المكروبات. . . الأمر واضح وتفسيره حاضر! فالمكروبات عندما تقع من الهواء في الأحسية السائلة التي نستخدمها، هي أنواع عدة، تتكاثر جنباً لجنب، وتعوم فتختلط فلا ينتج إلا مزيج من أخلاط عدة. أما اذا هي وقعت على سطح البطاطس، وهو صلب، لصقت وحداتها في المكان الذي وقعت فيه، فتكاثرت الواحدة حيث هي فصارت ألوفاً، ولكن من نوع واحد لا يخالف)
وكان يعين كوخ طبيبان في الجيش، يدعى أحدهما لُفْلار والآخر جفكي فدعاهما كوخ في هدوء وأطلعهما على ما وجد، وأراهما مدى التغيير الذي سيطرأ على دراسة المكروب بسبب التفاتته السانحة إلى قطعة البطاطس المتروكة، نقول التغيير، وما كان إلا الثورة! وبدأ الرجال الثلاثة يدرسون صحة ما خال كوخ بجد لا حد له، وبدقة ألمانية إذا وصفها الفرنسي المتعصب سماها سخفاً. بدأ الثلاثة يعملون فكنت تراهم صفاً واحدا على كراسيهم الثلاثة، منكبين على مجاهرهم الثلاثة ينظرون في ضوء ثلاث نوافذ وقد توسطهم كوخ. ثالوث أي ثالوث! يبذلون الجهد الجاهد لا ليثبتوا الذي ظنوه، بل ليكذبوه، فإذا النتيجة تؤمن على الذي قاله كوخ وقالوه، وكانت طريقتهم في ذلك أنهم خلطوا من المكروبات نوعين أو ثلاثة؛ فتكوّن منها مزيج تعجز الأحسية السائلة عن فصل أنواعه مهما طال زرعها فيها وتكثيرها. ثم جاؤا بقطرة من هذا المزيج ونشروها نشرا واسعاً على سطح مستو لبطاطسة مسلوقة مشقوقة؛ فاستقرت المكروبات من هذا السطح على أبعاد غير متقاربة، وتكاثرت المكروبة الواحدة حيث استقرت فخرج منها الملايين ولكن من نوعها، ومن نوعها فحسب
بشق بطاطسة عتيقة استحدث كوخ طرائق جديدة لاقتناص المكروب، وأرسى هذا العلم على قواعد صحيحة يطمئن إليهاأولو الفكر اطمئنانهم إلى سائر العلوم، من بعد أن كان ظناً ورجماً بالغيب؛ ثم أخذ كوخ يتجهز لاقتناص المكروبات التي تسبب عشرات الأمراض التي تفتك بالناس، ولم يكن كوخ لقي بعد من رجال العلم انتقادا يذكر ولا اعتراضاً كبيرا، ذلك لأنه لم يفتح فمه إلا بعد ذلك أن كان يتم تأكده من نتائجه، ثم لأنه كان اذا تحدث بعد ذلك عن اكتشافاته ذكرها في كثير من التواضع فتخاذل خصومه ونام الشر في قلوبهم، وفوق هذا وهذا لأنه كان دائماً يصوّر لنفسه شتى الاعتراضات الممكنة، والانتقادات الجائزة، ويجيب عليها قبل إخراج عمله للناس
وامتلأ كوخ ثقة بنفسه، فاعتزم أن يلقى الأستاذ رودلف فرشو وما أدراك من هو؟ هو أشهر بحاث ألمانيا في أصول الأدواء، وأكبر جهابذتها وأعلامها؛ إذا حدثته في موضوعات شتى أراك فيها من العلم ما لا يريك عشرات العلماء، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. كان فرشو عمدة الطب الألماني، درس تجبن الدم وقال آخر كلمة تقال فيه، واخترع ألفاظاً من أروع الألفاظ مثال الهتربوبيا وأجنيسيا والأكرونوسس وكثير غيرها مما يسهر طلاب الطب لياليهم في محاولة تفهمها، ونظر بمكرسكوبه في ستة وعشرين ألف جثة، ووصف فيها حال الأنسجة وقد غيرتها شتى الأمراض، ونشر بلا مبالغة ألوفا من الأبحاث في كل موضع يخطر بالبال، من دراسة أشكال رؤوس الذكور من تلاميذ المدارس الألمانية، وتفحص أصواتهم، إلى قياس الأوعية الدموية، وقد بلغت الغاية في الصغر في أجسام بنات اخضرت وجوههن مرضاً واعتلالا
ذهب كوخ إلى صاحب هذا الصيت الكبير وفي قلبه رعب، فدخل الى حضرته على أطراف قدميه احتراماً وخشية أن يتحرك الهواء فينزعج رب المكان
قال كوخ وهو مطرق: (سيدي الأستاذ! لقد كشفت طريقة لتكثير النوع الواحد من المكروب خالصاً لا شائبة فيه)
فقال الأستاذ: (إذن فقل بالله كيف تصنع، ففي ظني أن هذا لن يكون)
قال كوخ: (بتربيته على طعام جامد. نعم أستطيع أن أولد منه على قطعة من البطاطس مستعمرات لا يسكنها غير نوع واحد منه. . . . فبدل البطاطس أذيب الآن الجلاتين في حساء من لحم البقر، فإذا برد انعقدا جميعاً وصار لمزيجهما سطح جامد، وعندئذ. . . . . .)
لم يتحرك فرشو لهذا الكلام؛ ولما نطق قال في استهزاء الحاقد: (إن منع المكروب من أن تختلط أنواعه عسير جداً، إلا إذا شاء كوخ أن يبني لكل نوع معملا خاصاً. .) واختصاراً لم يجد كوخ عند صاحبنا غير البرود والتثبيط؛ ولا عجب، فالرجل كان قد بلغ من الشيخوخة تلك السن التي عندها يعتقد الرجال أن كل شيء عُرِف، فلم يبق في الدنيا ما يُكتشف؛ وتولى عنه كوخ وفي نفسه شيء من الكآبة، ولكن عزيمته لم تهن، ولم يفعل ما كان غيره فاعله، فلم يجادل فرشو في الذي كان، ولا كتب المقالات، ولا خطب الخطب في النيل منه، ولكنه اتجه بكل ما فيه من حول إلى بحثٍ هو أبدع بحوثه، إلى تقفَّي أثر أخبث مكروب عرف، إلى كشف ذلك القتال الخفي الذي سبق المكروبات جميعا في حصد أنفس الرجال والنساء والأطفال، فتقاضى روحاً من كل سبع صعدت إلى ربها. شمر كوخ عن ساعديه، ومسح نظارته، وبدأ رحلته الكبرى لاقتناص جرثومة السل المروع
(يتبع)
أحمد زكي