مجلة الرسالة/العدد 128/في طريق المدينة
→ قصة المكروب | مجلة الرسالة - العدد 128 في طريق المدينة [[مؤلف:|]] |
نظرية النسبية الخصوصية ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1935 |
للأستاذ علي الطنطاوي
أفاق سحراً - ولا يبدو السحر على أتمه إلاّ في البادية، فلا ليل في الجلال كلَيْلها، ولا صبح في الجمال كصبحها، ولا نهار في الشدة كنهارها - فجلس ينظر إلى هذه الصحراء التي تمتد من حوله؛ يغيب أوْلها في بياض الفجر المقبل، وآخرها في سواد الليل المدبر، وهي ساكنة سكون الموت، واسعة سعة السماء، فأحس في نفسه بشيء لم يحسّ به قط؛ فقال: لا إله إلا الله! فخرجت من أعماق قلبه. . . وأي امرئ تلقيه الأيام في البادية، فيرى ليلها ونهارها، وشمسها ورمالها، ثم لا يكون أشد الناس بالله إيماناً، وعليه اتكالا؟ وهو يرى أبداً من جلال المخلوق ما يخشع منه قلبه لجلال الخالق؛ وهو يعلم أنه ليس بينه وبين أن يموت عطشاً، أو يهلك جوعاً، إلا أن يحيد عن طريقه ذراعاً، أو ينحرف عن وجهته شبراً. . . وكيف يكفر بالذي لا يرجو النجاة إلا منه، ولا قوّة إلاّ به، وليس له من يدعوه إلاّ إياه؟
وكانت تلك صبيحة اليوم السابع عشر من أيام البادية، فطفق يذكر هذه الأيام، وينظر ما أفاده فيها، فإذا هو قد عرف من خبر العرب، في سبعة عشر يوماً، ما لم يعرفه في سبع عشرة سنة، يقرأ فيها أسفار العرب، ويتلو أشعار العرب، ويدرس لغة العرب، وتاريخ العرب، وإذا هو قد سافر ألفاً وثلثمائة سنة في الزمان، لا ألفاً وثلثمائة كيلٍ على الأرض؛ وسلك الطريق التي سلكها الغزاة الأوّلون، فعلم أن سرّ قوةّ العربي الأوّل الذي عمل ما لم تعمله الجن، ولا تقوى عليه المرَدَة، حتى بنى للحضارة هذا الصرح العظيم، فأوت إليه، وتفيأت ظلاله، وإنّ سر عجز العربيّ الأخير، حتى نام عن هذا الصرح، وأباح العدوّ حماه، إنما هو (بعد الإسلام) هذه الصحراء
هذه الصحراء الذي لا يعيش فيها الجبان العاجز، لأن الحياة فيها بين عيني الأسد، لا ينالها إلاّ شجاع مقدام، أخو غمرات، صّبار على النكبات، ضحّاك في الملمّات، وإلاّ ابن الشمس، صديق الرمال، حليف الجوع والعطش، ذو إرادة لا تنثني، وهمة لا تطاول، وعزيمة لا تفلّ
ولا يعيش فيها المريض، لأنها لم تخلق مستشفى للمرضى، ولكنما خلقت ميداناً للأبطال، وأنىّ يأتي البدويّ المرض، ما دام لا يؤتى من قبل معدته (والمعدة بيت الداء)، وما دام ك طعامه التمر والسّمن واللحم والأقط، وكلّ شرابه اللبن والماء، فإذا مرض يشرب قارورة من شعاع الشمس، وشمس الصحراء أنفع من مجموعة صيدليات باريز! فإذا لم تجده نفعاً، أجداه الكي، وما بعد الكيّ إلا حياة كاملة أو موت كامل، هو خير على كل حال من حياة ناقصة. . . وقديماً قالوا آخر الطب الكيّ!
ولا يعيش فيها الفقير، لأن أهلها كلهم أغنياء. . . وهل الغنى إلاّ أن تنال كل ما تطلب؟ وهل يطلب البدويّ إلاّ ماء له وكلأ لمواشيه؟ فإذا أمحلت الدار أم غيرها:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
ولا يعيش فيها المنافق المتملّق الخدّاع، الذي يلبس جلد الحمل على جلد الذئب. . . . لأن الصحراء منبسطة مستوية متكشّفة، ظاهرها كباطنها، وليس فيها سقوف ولا جدران، ولا مغارات ولا سراديب، وكذلك نفس العربيّ ما في قلبه على لسانه؛ فان عاداك فعداوة الشريف، يستقبلك بالشر ولا يستدبرك به؛ ويحمل إليك الموت على شفرة السيف، لا يقدمه في كأس من الذهب، قد خلط فيها السمّ بالدسم؛ وإن صافاك آخاك، فأخوّة الشريف يفديك بنفسه وماله، ولا يرغب عنك حتى ترغب به، وإذا أنت أنكرت من العرب جفاء في الطبع، أو خشونة في المقال، فلن تنكر منهم عَوْضُ تلوّناً ولا تملقاً، ولا تنكر منهم لين الحيّة ولا لطف المستعمر. . . على أنّ الجفاء ليس من شأن العرب، ولا هو في جميعهم، وإن فيهم للطفاً، وإن فيهم لظرفاً، وإن لهم لأحلاما. . .
وطفق يذكر كيف كان يتبرم بهذه الأشعار التي تندب الديار وتبكي الأطلال، ويستثقلها ويراها كأنها الدّمى فيها جمال وليس فيها روح؛ فلما كانت أول ليلة قضاها وأصحابه في البادية، وحطّ الركب في قاع الدغيلة فوقفت السيارات الخمس، ووضعت الأحمال، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران، ورفعت القدور، وبسطت البسط، ومدّت الفرش، وكمل المجلس حتى قام المذياع (الراديو) يسمعهم بين الشّيح والقيصوم، أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم
ف. . . باتوا بأنعم ليلة حتى بدا ... صبح تلوَّح كالأغرّ الأشقر
فنادى منادي الرحيل؛ فما هي حتى طويت الخيام، ولفّت البسط، وشدّت الأحمال، فإذا كل شيء كأنه حلم، أو كأنه صفحة طويت، ولم يبق إلا الؤى المهدم، وإلاّ موقد النار، فامتلأت نفسه حزناً، وانطلق لسانه يترجم عن أصدق عاطفة، وأعمق شعور، بكلمة النابغة التي استثقلها، وعدها من القول المعاد، والكلام الفارغ:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار. . .
وانطلق يقف إخوانه لحظة، يحيّ فيها هذه البقعة التي ترك فيها ليلة من حياته، وطائفة من ذكرياته، وقطعة من نفسه؛ ثم عاد فسخر منهم كيف يقفون على أحجار قد سوّدتها النار، وحفرة حفروها من حول الخيمة خشية الأمطار. .
ماذا تحيوّن من نؤى وأحجار؟
ويجد القاع بعد أن تقوّضت الخيام، وطويت البسط، وضاع المكان الذي سوّاه لنومه، وأعدّه لجلوسه
أقوى وأقفر من نعم وغّيره ... هوج الرياح بهابي الترب موّار
ويطول به الوقوف، وأصحابه يستحثّونه، والسيارات (تصرخ) مستعجلة، فيمشي وهو يفكر في هذا القاع. هل يحفظ هذه الذكريات؟ ويسأل هذا القاع: هل يذكر أبداً هذه الليلة التي قضاها فيه، والعواطف التي استودعه إياها؟ فلا يسمع مجيباً، ولا يجد إلا أحجار الموقد، وإلا هذا الثمام الضعيف الليّن، الذي جمعوا منه فأوقدوا به النار، واتخذوه فراشاً، فينشد قول النابغة:
وقفت فيها سراة اليوم أسألها ... عن آل نعم أمواناً عبر أسفار
فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار
فما وجدت بها شيئاً ألوذ به ... إلا الثمام وإلا موقد النار
وتعدو به السيارة عدو الظليم، وهو لاهٍ عما حوله، يتمثل الشاعر وقد يممّ الديار، فلم يجد بها سائلاً ولا مجيباً:
ناديت: أين أحبّتي؟ ... فأِجبت: أين أحبّتي؟
فبرّح به الشوق، واشتعلت في صدره النار، وكواه الهجر فذهب يذكر نعماً، وقد كان يسايرها حتى ينأى بها عن الحيّ، ثم يجلسان حتى تغيب الشمس، ويلفهما الظلام برداء الأمن من الرقباء، ويسبغ عليهما نعمة الحبّ، فلا يكون بينهما إلا كل خير: يبثها حبّه، فتشكو له حبّها، ويكشف لها عن قلبه، فتكشف له عن قلبها، ولا يخفي عنها شيئاً، ولا تكتمه شيئاً: وقد أراني ونعما لاهيين بها ... والدهر والعيش لم يهمم بامرار
أيام تخبرني نعم، وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
وجعل يذكر كيف فهم في تلك الساعة قصيدة النابغة، ونفذ إلى روحها، وقد كان يتلوها، ويدرّسها، ويشرحها، فلا يفهم منها إلا كلماتها وجملها، وعروضها وإعرابها؛ وجعل يذكر ما حفظ من أشعار الديار، فيبصر فيه جمالاً لم يبصره من قبل، فيعلم أنه قد كان منه في ليل مظلم، لا يرى فيه إلا سواداً فطلعت تلك الساعة بدراً، أراه أن وراء الظلام دنيا واسعة، وفتنة وجمالاً، وروضة وأنهاراً. . .
وجعل يذكر كيف كان يقرأ أمثال العرب فلا يفهم من قولهم: (أن ترد الماء بماء أكيس) إلاّ أن ذلك أحزم، فلما خرجوا من القاع وأقبلوا على ماء الهزيم الذي طالما وصفوه لهم وحببوه إليهم، وجده بئراً منتنة خبيثة، تقتل من يشمها، فكيف بمن يشرب منها؟ فعلم أن معنى أكيس: أنك لا تشرب ماء خبيثاً فتمرض!
فلما وردوا ماء الفجر، بعد مسيرة يومين في الشعب لم تر السيارة فيهما كيلين متتابعين على أرض كالأرض، ولكنها كانت تعلو صخرة، أو تهبط حفرة، أو تغوص في رملة، لما وردوا الماء وجدوه جافاً، فعلم أن معنى أكيس: أنك تبقى بلا ماء فتموت
ثم نظر فرأى الفجر قد انبثق، فأيقظ المؤذن، وكان قوي الحنجرة حسن الصوت، فأذن فزلزل البادية بـ (الله أكبر) فلما قال (أشهد أن محمداً رسول الله)، لم يتمالك صاحبنا نفسه أن تضطرب وقلبه أن يخفق، وعينه أن تدمع:
هذا آخر يوم من أيام البادية. لم يبق بيننا وبين المدينة إلاّ نصف مرحلة. . . فهل يكتب لنا أن ندخل من باب السلام ونقوم أمام الحجرة ونسلم على رسول الله ﷺ؟
علي الطنطاوي