مجلة الرسالة/العدد 128/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 128 الكتب [[مؤلف:|]] |
النقد ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1935 |
في الأدب القديم
1 - اعجام الأعلام: للأستاذ محمود مصطفى
(أخرجته جماعة دار العلوم بإقرار لجنتها العلمية)
2 - الفروق اللغوية: لأبي هلال العسكري
3 - معجم الشعراء: للموزباني
4 - المؤتلف والمختلف: لأبي القاسم الآمدي
(نشرتها مكتبة القدسي)
للأستاذ محمد سعيد العريان
كيف نفهم الأدب القديم، وكيف نتروَّاه، وإلى أي مدى نستفيد منه، وما وسيلتنا إلى ذلك. . .؟
هذه أسئلةٌ كثيراً ما تعرض لي، حين يضمني مجلس إلى بعض المتأدّبين من ناشئتنا الذين يدعون إلى الجديد؛ وإن أعجب ما يلقاك في مثل مجلس هؤلاء، هو الدعوة العريضة، والإنكار الساخر - أو سمَّه الإنكارَ الجاهل - والاعتداد بالنفس في غير مُعتدّ، ثم الحكم الجامع لا نقض فيه ولا استثناء. ما ايسر أن تسمعمن واحد من هؤلاء. (الأدب القديم. . .! وما الأدب القديم؟ وماذا فيه. . .؟) فلا أدب عنده إلا هذا اللغو الذي تنشره له الصحف، أو هذه الرطانة العجماء تحاول أن تستعرب على لسانه؛ ولا إنشاء إلا على مثال برقيات (روتر) و (هافاس)، التي يترجمها (فلان) ويدعو إلى احتذاءها فيما يكتب الأدباء وينشئون. . .!
ولو أنك ذهبت تحاول أن تحمل واحداً من هؤلاء على غير ما يرى في الأدب القديم، أو أن تقنعه بما فيه من حياة وقوة - لأعياك أن تبلغ إليه؛ وأنى لك أن تبلغ وما يعرف أكثر هؤلاء ولا يفهمون من الأدب القديم إلا محفوظات المدارس. . . وما حصلوا من فنون اللغة إلا القليل من قواعد النحو والبلاغة في حجرات التعليم. . .؟ بل لو أنك أردت واحداً من هؤلاء على أن يحقق لفظة في معجم، أو يقرأ سطراً غير مشكوا في كتاب - لكنت كمن يطلب إليهأن ينقل صخرة، أو يحفر بئراً. . .! فمن أين لمثل هذا أن يتذوق ما تجلوه عليه من روائع الأدب القديم؟
وطائفة أخرى من هؤلاء المتأدبين آمنت عن تلقين، أو تقليد، أن في الأدب القديم ثروة مخبوءة، ومنجماً حقيقياً بالجهد وحسن الاستغلال؛ فراحت هذه الطائفة - طمعاً في الثورة وحسن الاستغلال وحسب! تحاول أن تعثر بشيء تستسيغه، أو تجد لَقًي تسعى إليه، ولكنها لم تأخذ الأهبة، ولم تهيئ الأسباب، وحسبت أن في أظفارها اللينة غَناءً عن الفئوس والمساحي في الحفر والتنقيب؛ قلما آبت أوبتها الخاسرة، عادت تعيب ما كانت تباهي به، وتنكر ما كانت تعترف؛ ولو أنصفت لعابت الجهد الكليل والعزم الخائر
وقد جلست مرة إلى آنسة متأدبة تشتغل بشؤون التعليم، فلقيتني متعبة مكدودة وهي تقول: (حسبي منك يا صاحبي ومن أدبك القديم!) قلت: (ماذا يا آنسة؟) قلت: (هذا (نهاية الأرب) بين يديّ منذ أيام ثلاثة، أحاول أن أجد فيه شيئاً يفيد تلميذاتي فأترجمه لهن في كتاب المطالعة الذي أشتغل بتأليفه فما وجدْت. . .!)
وكان هذا أول عهد صاحبتي بالأدب القديم، وقد لجأت إليه أوّل ما تلجأ، لتجد بغيتها تحت عينيها؛ فلما استيأست ونال منها الجهد، ورمت الكتاب وهي تسب الأدب القديم، وتعيب الأدب القديم!
وإنما يتأنى الفوز بمثل ذلك لمن أدمن الاطلاع والنظر، وداوم البحث والاستقرار، فيقرأ أولاً ليدرس ويلذّ نفسه، حتى إذا بلغ من ذلك ما بلغ، جاءته الثمرة من حيث لا يطلبها، ووجد الفائدة تحت عينيه تدلّ على موضعها وهؤلاء الباحثون جميعا لم يؤدوا إلينا نتائج ما بحثوا مستوفاةً ناضجة لأنهم أرادوا أن يبلغوا هذه النتائج أوّل ما قرءوا؛ إنما كانت القراءة أولا؛ ثم شعاع الفكرة، ثم عناصر البحث، ثم هذه الثمرات التي نقرؤها فتعجب بها فنثني على ما جاهدوا وظفروا؛ ولو أنهم أرادوا موضوع البحث قبل أن يقرأوا، لكان غاية جهدهم أن يخترعوا عناوين البحوث. . .!
وهذا أديب آخر يظفر بالشهرة والجاه عند دعاة الجديد، ويحسبونه واحداً منهم، لأنه يكتب بأسلوبهم وعلى طريقتهم، لقيته مرة فحدّثته وحدّثني، فقال لي: (دعهم يقولون عني، وينسبون إلي وينتسبون؛ ولكني لا أكذبك، فكم تمنيّت أن يكون حظّي من الأدب القديم أكثر مما عندي، وسأبلغ ذاك، وسيعلم أصدقائي يومئذ أنني لم أكن في المجددين لأني أنكر القديم، بل لأن زادي وثروتي من اللغة لم يكن يبلغ بي أن أكون مع غير الذين يسمونهم مجددين. . .!)
أفينكر إخوانُنا في اللغة أن هذه النهضة التي ينتسبون إليها لم تكن من صنعهم؟ وإنما هّيأ أسبابها وأذكاها تلك الكتب القديمة التي يسبّونها اليوم حين نهض لنشرها أدباؤنا منذ قرن فدرسوها مخطوطٍات باليةً مركومة، وخلّفوها لنا مطبوعةً مصحّحة مجلوّة
ولكل عمل أدته ووسيلته، وإنما الوسيلة لدراسة هذه اللغة هي النشاط الدائب في التحصيل، والجهد المتصل في الاستقراء، والمحاولة المستمرة للكشف والبحث والاطلاع. ولهذه اللغة أصول لابد من الإحاطة بها قبل الشروع، وعندها طرف الخيط، فمن شاء فليبلغ إلى الغاية. . .
أما بعد فهذه كتب أربعة، لم أكن بحاجة في تقديمها إلى كل ما أسلفت، ولكنها جميعاً من الأدب القديم؛ وللأدب القديم ملمس خشن، أفيدري اللامسون ما وراء. . .؟
1 - اعجام الأعلام:
أكثر ما يعاني المطالع في الكتب القديمة، هذه الأعلام الكثيرة في كل سطر وفي كل عبارة مما يقرأ؛ على أن أشق ما يعانيه في هذه الأعلام، هو ضبطها والتميز بينها؛ وحسبك أن تعلم أن أكثر هذه الأعلام ليس مما يسمى به في هذا الزمان، فلا سبيل إلى تصحيح نطقه إلا بالسماع والرواية، ولا سبيل إلى الترجمة لمسّماه - إنسانا كان أو بلدا - إلا بالبحث الطويل والجهد المضني، على أن ذلك لا يتأنى لكل طالب؛ فأنت لا تجد كتابا في العربيةُ يستغني به عن سواه في هذا الباب
والأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية الأزهرية، رجل دءوب كثير البحث، طويل الأناة؛ وهو قد لقي في شتى مطالعاته ضروبا من العناء في ضبط الأعلام والتعرف إلى أصحابها؛ فاجتمع له بسبيل ذلك فيما أجتمع من ثمرات المطالعة طائفةٌ كبيرة من أعلام الأناسيّ والبلاد مضبوطة مترجمة لا تجتمع لمثله حين ينشدها إلا بجهاد سنوات وسنوات؛ فرأى أن يقدّم هذه الثمرة الجليلة إلى أدباء عصره، ليخفف عنهم بعض ما لقي، على أنه لم يثقل عليهم بما لا حاجة بهم إليه. فاكتفى من عمله بضبط الأعلام وتصحيحها، ثم إيجاز ترجمتها بما يقصر على ما يفيد، بعيدا من الاختصار المخلّ والتطويل الممل؛ وقد أعانته على إخراج كتابه (جماعة دار العلوم) بإقرار لجنتها العلمية؛ ومن غير جماعة دار العلوم تعرف قيمة هذا العمل الجليل؟ على أن ذلك وإن يكن من واجبها، لا يمنعنا أن نذكر عملها شاكرين، فقلَّ في هذا الزمان من يذكر واجبه بمقدار ما يفكر في وسائل الفرار منه!
وأكثر الكتاب في ضبط أعلام الأناسيّ، وأقله لأعلام البلاد. ولو أنني حاولت الإنصاف لما وسعني إلا أن أعترف بأن هذه الصفحات المائتين والأربعين، تغني عن مكتبة حافلة بكتب التراجم ومعاجم الأعلام
ولكن إعجابي بالكتاب وثنائي عليه لا يمنعان أن آخذ على مؤلفه العالم أنه أهمل الإشارة إلى المراجع التي منها استمدّ؛ وأحسبه كان يجمعه لنفسه فلا يهتم بحفظ المصادر، فلما اجتمع له هذا القدر الكبير أخرجه كتاباً. أفيدفع عنه النقد هذا الاعتذار. . .؟؟
وفي الكتاب أشياء كانت تقتضي جهداً أوسع، وعناية أدق، فالتعرف بالأماكن قليل مخل، وأرى المؤلف في هذا الباب لم يُفد إلا ضبط أعلام المواضع، أما تحديدها وتعيين أماكنها فما بلغ منه إلى كثير. وتراه في أكثر من موضع من الكتاب، قد أوجز الحديث وأحال إلى موضع آخر، فإذا انتقلنا إلى ذلك الموضع لم نجد شيئاً مما أحال إليه، أو نجد شيئاً ولكنه لا يغني كل الغناء؛ فمن ذلك في ص76 (. . . . بسطام، وهي بلدة مشهورة من أعمال قومس)، فإذا بحثت عن (قومس) هذه في أعلام البلاد وجدت (القوامس) كثيرة، فلا تعرف إلى أيها تنتسب (بسطام). وفي ص94: (كان منزل رهط (جميل) في وادي القرى (أنظره). . .) وتنتظر في أعلام البلاد، فلا تجد ذكراً لوادي القرى. ومثل ذلك في ص128 ترجمة السُّهْرَوَرْديّ (ونسبته إلى سهرورد، وهي بلدة (أنظرها)) ولكن أين؟ وغير ذلك كثير
على أن الكتاب مع ذلك لا يستغني عنه متأدب، وإن فيه لغناء عن كتب ومكتبة، وأكثر مصادره مما لا تتناوله الأيدي، وهو مجهود مشكور، جدير بالثناء والإعجاب
2 - الفروق اللغوية
أبو هلال إمام من أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري، تحتفظ له المكتبة العربية بآثار خالدة؛ أكثرها معروف متداول، وهو إلى أنه شاعر وأديب، عالم فحل، واسع المعرفة، صنَّف في أكثر من فن من فنون العربية، وهذا كتابه (الفروق اللغوية) يبحث في الفرق بين الألفاظ التي تؤدي معاني متقاربة، والتي يسميها علماء اللغة مترادفات، وهو في هذا الكتاب يقرر مذهباً في اللغة: (أن كل اسمين يجريان على معنى من المعاني وعين من الأعيان في لغة واحدة، فان كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلا لا يحتاج إليه. . . لأن في ذلك تكثيرا للغة بما لا فائدة فيه. . . إلا أن يجئ ذلك في لغتين، فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى واحد كما ظن كثير من النحويين واللغويين. . .)
فهو يرى كل لفظين مما نسميه مترادفاً، يختلفان في المعنى، أو في الصفة، أو الاستعمال. أو الاشتقاق. . . وتراه على هذا المذهب يسير في كتابه، يبين الفرق بين اللفظ ومرادفه، في أبواب مقسمة على معاني الكلمات، تريك دقة أبي هلال، وسعة علمه، وصدق نظره في فقه اللغة العربية، والكتاب كله أمثلة على ما ذكرت ولو أن كاتباً من أبلغ أدباء هذا الزمان، عرض كلامه على كتاب (الفروق اللغوية)، لبانت له قيمة ما يكتب بازاء ما يجب أن يكتب، ولعرف مقداره بين كتّاب العربية حين يعرف أين عربيته من العربية الصحيحة. وهذا وحده الدليل كلُّ الدليل على جدوى هذا الكتاب في كل زمان، لا سيما هذا الزمان!
3 - معجم الشعراء:، 4 - المؤتلف والمختلف
يعترض القارئ في أثناء مطالعته في الأدب القديم، أسماء شتى لشعراء من مختلف العصور، فتختلف عليه، وتَشْعَب فكره، وتتشابه في مسمعه، ويا أكثر ما يشترك شاعران أو أكثر في اسم واحد، فتتداخل الصور وتزدحم عليه، فما يتأنى له أن يحكم حكمه في موضوعه، أو يتضح له منهاج بحثه، إلى أن يعرف ترجمة كل شاعر من هؤلاء، معرفة تحدد في الذهن صورته وتكشف عن ابهامه، وسبيل هذه المعرفة لا تكون إلا بمثل هذين الكتابين
والمرزباني والآمدي عَلمان من أعلام القرن الرابع الهجري، لهما في الأدب العربي فكر وفنٌ وبيان
والكاتبان على ما اختلفا في الغرض يلتقيان في الموضوع، فأوّلهما يترجم لشعرائه ترجمة تعرّف بهم في إيجاز مفيد مع استشهاد رائق، على أن الذي بين يدينا من كتابه هو جزء منه أحسبه يبلغ ثلثيه
وأما الآمدي فيترجم للشعراء المشتبهة أسماؤهم وحسب، ترجمةً تزيل الشبهة وتكشف اللبس، ويجمع هذا الكتاب مع الجزء الموجود من معجم الشعراء - أكثر من ألفي شاعر، بأسمائهم، وكُناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبعض شعرهم. وقد أحسن ناشرهما إحساناً كبيراً بضم بعضهما إلى بعض في مجلد واحد، ليكون النفع بهما أتم والغاية أوفى
ولا نشك أن مكتبة (القدسيّ) بنشرها هذين الكتابين، وكتاب (الفروق اللغوية) قد بذلت جهدا، ويسرت نفعاً، وعممت فائدة، وهذا باب في خدمة العربيةُ يُذكر فيه العاملون.
(شبرا)
محمد سعيد العريان