مجلة الرسالة/العدد 128/النقد
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 128 النقد [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 16 - 12 - 1935 |
3 - تاريخ الإسلام السياسي
تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن
مصادر الكتاب لأستاذ كبير
ألممت في كلمتي السابقتين بما تأخذه النظرة العجلى من الأغلاط التاريخية والجغرافية الواقعة في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) وهي لعمري أغلاط يذهب بعضها بمحاسن أي كتاب يرد فيه فكيف بها كلها: وأريد في هذه الكلمة أن أعرض في شيء من النقد لمصادر هذا الكتاب، وأن آتي بعد ذلك على بعض عيوب لحظتها على طريقة المؤلف في أخذه عن المصادر المذكورة، وكم كنت أود، علم الله، أن تكون كلمة اليوم كلمة ثناء أكيله للمؤلف جزافاً لعلي أمحو ما عساه أن يكون قد علق بنفسه من جراء المقالين السابقين، ولكن شاء سوء حظي أن يجئ الأمر على غير ما أريد
كل من يطلع على (تاريخ الإسلام السياسي) تبهره من غير شك كثرة المصادر التي تدل على أن المؤلف رجع إليها في وضع كتابه، فما من صفحة من صفحاته، ولا فقرة من فقرة إلا وهي تحتوي على أقل تقدير إحالة واحدة للقارئ على مرجع من مراجع التاريخ الإسلامي القديمة والحديثة. ثم إن المؤلف لا يكتفي بذكر مراجعه منثورة مفرقة على الفصول والصفحات والفقر والأسطر، بل هو يوردها في آخر كتابه مجموعة منسوقة في بضع صفحات تروع النظر والفؤاد جميعاً
وإيراد المراجع العلمية على هذا النحو واجب محتوم في البحوث العلمية الدقيقة التي يراد فيها الإدلاء بنظرية علمية جديدة أو بسط وجهة نظر مستطرفة. أما في الكتب العامة التي يقصد أن تكون في متناول الطلاب المثقفين فقد جرى العرف بأن يقتصر من ذكر المراجع في صلب الفصول على الضروري، ثم يذيل كل فصل بذكر المراجع التي استعان المؤلف بها في كتابة الفصل تبرئة لذمته وتوسيعه على الطلب والقارئ الراغب في سعة الاطلاع وكثرة التحصيل. ومما يبعث على سلوك هذه الطريقة أن الأصل في الكتب المؤلفة للطلاب وراغبي الثقافة، أن يكون واضعوها من أعلام العلماء وجهابذة الأساتذة، ممن لهم في العلم قدم راسخة ومكانة عالية تحمل قراءهم على تصديقهم فيما يقررون وما إليهيذهبون
ومع أن كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) من الصنف الثاني فقد آثر المؤلف ركوب الطريقة التي تتبع في الصنف الأول، فحمل متن كتابه من الشروح والحواشي حملا ثقيلا، وكلف نفسه شططا وقراءه مشقة وعنتا. ولم كل هذا؟ لا لشيء سوى ابتغاء السمعة عند الناس وأن يلقي في روع القارئ أنه في التاريخ واسع الاطلاع، طويل الباع، قد وعى ما كتبه الأوائل والأواخر
على أن نظرة ناقدة إلى المراجع المذكورة كفيلة بأن تثبت أن كثرتها إلى حد بعيد صورية لا حقيقية. فان حرص المؤلف على التكثير والتزيد قد حمله في كثير من الأحيان على أن يدلل على ما لا يحتاج إلى دليل، وأن يعدد المراجع ولو كانت في مرد أمرها ترجع إلى مصدر واحد. فمن من تلاميذ المدارس لا يعرف نص الخطبة التي افتتح بها أول الخلفاء الراشدين عهده؟ إنها أشهر من أن تجهل. ومع ذلك فالمؤلف الكريم يحيل قارئه عند إيراده نص هذه الخطبة على أربعة كتب قديمة متضمنة لها ذاكرا اسم الكتاب واسم المؤلف ورقم الجزء والصفحة والطبعة ومكان الطبع! كذلك الحديث الذي يزعم رواة العرب أنه جرى بين أبي سفيان وبين هرقل قيصر الروم في الشام. وهو حديث يحمل في ثناياه أدلة ضعفه وانتحاله، وهو على فرض صحته ليس بذي خطر، ولا يقدم في فهم سيرة الرسول ولا يؤخر. ومع ذلك، فالمؤلف يورده بنصه على طول ذلك النص ثم يحيل القارئ على الكتب القديمة التي ذكرته، وقد ذكر منها خمسة أكثرها شروح مختلفة على متن البخاري. لو أن المؤلف قصد إلى مناقشة هذه النصوص ومقارنة رواياتها المختلفة بعضها ببعض، وبيان ما تتفق فيه وما تختلف من حيث اللفظ والمعنى، ثم الوصول بعد ذلك إلى حكم يكون لها أو عليها، لكان للمشقة التي عني نفسه وقارئه بها ما يجيزها ويسوغها. أما وهو لم بقصد إلى شيء من ذلك فقد انتقلت المزية وبقيت المشقة
ثم إن هذه الكثرة صورية من وجه آخر أكثر خطرا وأضر بقيمة الكتاب العلمية وبمقدرة مؤلفه على نقد مراجعه وتقويمها ذلك بأن المؤلف كثيرا ما يأخذ عن كتب أثبت البحث العلمي الدقيق أنها لا يصح الاعتماد عليها بحال في معرض التدليل العلمي الصحيح. فهو يعتقد أن الكتاب القصصي المسمى (فتوح الشام) للواقدي حقا، ثم يذهب يستعين به في الفصل الذي عقده لفتح العرب الشام، وينقل عنه صفحات برمتها، ثم لا يكتفي بذلك بل ينبري لمناقشته ومجادلته. فليأذن لنا الدكتور أن نقول له إن هذا الكتاب ليس للواقدي، بل ليس من آثار عصر الواقدي، وإنما هو كتاب كتب بعد زمن الواقدي بمئات السنين: كتب على أغلب الظن إبان الحروب الصليبية لبث الحمية الدينية في نفوس الجمهور وترغيبه في مجاهدة الصليبيين بتذكيره بفعال آبائه في الشام. ونفس عبارة الكتاب من النوع القصصي الحماسي. جاء في دائرة المعارف الإسلامية في ترجمة الواقدي ما يأتي:
, ; ' , وترجمتها (إن كتابي فتوح الشام والعراق قد فقدا. أما الكتابان المتدولان بهذا الاسم فيرجعان إلى عصر متأخر، وهما مضافان إلى الواقدي خطأ.)
كذلك يعتمد المؤلف في عدة مواضع من كتابه على كتاب آخر زائف هو كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب إلى ابن قتيبة وكل شيء في هذا الكتاب يدل على أنه ليس لابن قتيبة. وإنما هو في غالب الظن لكاتب أندلسي أراد تسلية الخاصة باسم الحياة السياسية الإسلامية فوضع هذا الكتاب الذي يعتبر من الناحية الأدبية قطعة فنية، وإن كان من الناحية التاريخية لا يعول عليه على الإطلاق. وفي ذلك يقول المستشرق الإنجليزي مرجوليوث في كتابه (مؤرخو العرب) في ص125)
' وترجمته (أن ما في هذا الكتاب من تكذيب للتاريخ أم جهل به، لفاضح بحيث لا يمكن أن يكون من تصنيف ابن قتيبة.)
ثم إن المؤلف كثيراً ما يستمد ويقتبس من كتب منها ما قد أصبح قديماً قاصراً من حيث المستوى العلمي، ومنها ما هو ثانوي الأهمية، ومنها الضعيف، ومنها ما قصد بكتابته إلى التثقيف العام. من هذه: (تاريخ العرب) لسديو، و (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي، و (الحضارة العربية) لجوستاف لوبون)، و (أتباع محمد) لواشنجتن أيرفنج
إن هذه الكتب وكثيراً غيرها قد وضعها في أغلب الأحوال هواة قصدوا بها ناحية الثقافة العامة والتصوير المجمل، فكثيرة الاستدلال بها في مقام البحث الجدي ترخص لا مسوغ له
هذا عن مبلغ نقد المؤلف أمهات مصادره. أما مذهبه في الانتفاع بهذه المصادر إجمال فلنا عليه بعض الاستدراك. فهو مفرط في الأخذ عنها والاقتباس منها، بحيث أنك في كثير من فصول الكتاب تبحث عن شخصية المؤلف فلا تجدها أو تجدها ضئيلة ضعيفة، خذ لذلك مثلا الباب الأخير من أبواب الكتاب الخاص بالحضارة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وهو باب كان يمكن المؤلف أن يجول فيه ويصول، ومع ذلك فهو لا يخرج عن كونه مجرد تلخيص لكتاب (الحلافة) لارنولد، وكتب الحضارة الإسلامية والأدب العربي لفون كريمر والسيد أمير علي ونيكلسن. أن الأمر هنا أمر تكرار لا ابتكار
وقد يخطئ المؤلف بعض من يأخذ عنهم تخطئه لا حق له فيها. من ذلك أنه عند كلامه على الخوارج استشهد بقول صاحب كتاب (الفخري): (وصدرت منهم أمور متناقصة تدل على أنهم يخبطون خبط عشواء، منها أن رطبة سقطت من نخلة فتناولها رجل ووضعها في فيه، فقالوا له أكلتها غصبا وأخذتها بلا ثمن، فألقاها، ومنها أن خنزيراً لبعض أهل القرى مر بهم فضربه أحدهم بسيفه فعقره فقالوا هذا فساد في الأرض، فمضى الرجل إلى صاحب الخنزير وأرضاه، ومنها أنهم كانوا يقتلون النفس التي حرمت إلاّ بالحق، قتلوا عبد الله بن خباب، وكان خباب من كبار الصحابة، وقتلوا عدة نساء وسبوا، وفعلوا أفاعيل من هذا القبيل) هذه العبارة التي يصح أن تعتبر مثلاً للتناقض يعلق عليها المؤلف بقوله: (نرى أن هذا ليس من التناقض في شيء، وإنما هو أقرب إلى أن يكون غلوا في تطبيق مذهبهم)!!
ومن ذلك نقدم الهادم لحاجي خليفة، لا لشيء سوى أنه أورد خبراً لم يرضي المؤلف فيقول: (ومثل هذا المؤرخ لا يؤخذ بكلامه ولا يعول عليه في المسائل التاريخية الهامة لأنه كان متأخراً في الزمن فقد توفي سنة 1067هـ) وهو تعسف في الحكم من غير منازع، ومن هذا القبيل أيضاً تصديه لمرجوليوث في أمر الرجلين اللذين تزعم الرواية العربية أن كسرى أمر عامله على اليمن أن ينفذهما إلى الرسول ليأتياه به، فلما قدم الرجلان على الرسول أخبرهما النبي بأن كسرى قتل وأن أبنه هو الذي قتله. فمرجوليوث يأخذ من هذه الرواية أن النبي كان له من يأتيه بالأخبار. أما المؤلف فبدلاً من أن ينقد الرواية العربية، ليرى هل من المعقول أن ينفذ كسرى من طريق عامله على اليمن رجلين اثنين إلى سيد الحجاز ليأتياه به، فانه يأخذ في الرد على مرجوليوت لأنه لم ينظر إلى المسألة نظر المسلم المؤمن بنبوة محمد (ص)، ولو عمد إلى نقد الرواية أو تأولها على أقل تقدير لأنهارت دعوى مرجوليوت من تلقاء نفسها والمؤلف يسهو أحياناً فيذكر أنه أخذ من مصدر بعينه أخذاً مباشراً، في حين أنه يكون قد أخذ عنه بالوساطة، فهو يحيل القارئ في ص80 وغيرها على ما يسميه هو المجلد الثاني من كتاب (بقية الوثنية العربية) المستشرق الألماني فلها وزن. والواقع أن الكتاب المذكور يقع في مجلد واحد فقط، ولكنه طبع مرتين، فلو أنه رجع إليهحقاً لما وقع هذا الخلط القبيح
وعلى كثرة من يستشهد المؤلف بهم في كتابه وذكره أسماءهم مباهياً بتلميذته لبعض المستشرقين منهم، كأرنولد ونيكلسون، نراه ينسى أن يذكر أن الفصل الذي عقده لمكتبة الإسكندرية كله ملخص من كلام دكتور بطلر في كتاب (فتح العرب مصر) والغريب أنه يحيل في ختام هذا الفصل على كتابه هو (عمر بن العاص)
وبهذه المناسبة نقول أن المؤلف غمط حق مؤرخ جليل وعالم كبير طالما جلس المؤلف منه مجلس التلميذ من الأستاذ، ذلك هو المرحوم الشيخ محمد الخضري بك الذي طوى الموت ما بينه وبين هذه الدنيا بما فيها من غدر ومحال، وباطل وغرور. لقد انتفع المؤلف بعلم هذا الشيخ حياً وميتاً كما يدل كلامه على شرعية القتال، ثم هو يبخل بأن يذكر اسمه ضمن من أخذ عنهم. فيا ليت شعري إذا كنا لا نظفر بالوفاء عند تلاميذنا، فعند من سواهم يكون الظفر بالوفاء؟.
(يتبع)
مؤرخ