مجلة الرسالة/العدد 115/القصص
→ فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية | مجلة الرسالة - العدد 115 القصص [[مؤلف:|]] |
من الفن القصصي الحديث ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1935 |
صور من هوميروس
5 - حروب طَرْوَادَة
أخيل
للأستاذ دريني خشبة
شده القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، ونهض الكاهن الوقور ذو اللحية المرتعشة يضرب في غَبْشَةِ الصبح، متكئاً على عكازه الذي أحنته وأحنتْ صاحبه السنون، ولم يكد يتسم ذروة الجبل حتى أشرقت ذُكاء، فاختلط ذهب أشعتها بفضة لحيته، فزادته رهْيةً، وزاده البعد وقاراً، وملأ بهامته السامقة وطيلسانه القشيب، قلوب العسكر، وعيون القادة، ألغازاً وأسراراً. . .
عاشت ذيتيس في كنف بليوز قانعة راضيةً، لا يعنيها من هذا العالم الرحب إلا الجنين الحبيب الذي يتقلب في أحشائها، فتتقلب معه أكبر الآمال.
ومضت شهور. . . ووضعته غلاماً بكاءً كثير الصخب، يضرب الهواء برجليه الصغيرتين، فكأنما يضرب المشرقين والمغربين، وينظر في السماء العميقة بعينيه الزرقاوين، وكأنما يبحث في أغوارها عن جده. . ومجده! وترى إليه أمة وتبتسم!
وشبّ الغلام وأيفع؛ وتحدَّثت إلى أمه العرَّافات والكاشفاتُ الغيب أنه سيكون محارباً عظيماً، تتحدث بذكره الركبان، وتتعطر باسمة المحافل في كل زمن ومكان؛ وأن لا بد من رحلةٍ به إلى الدار الآخرة - هيدز مملكة بلوتو - حيث تستطيع الأم غَسلَ ابنها في أمواه ستيكس، نهر الخلود الزاخر، الذي أودعته الآلهة أسرارها، ونظمت فيه شعراء الأولمب أشعارها واشتهرت بركاته في العالمين.
حدثنها أنها إذا غسلت أبنها في أمواه ستيكس، فانها تكسب جسمة مناعةً ضد الموت، وحِفَاظاً من الفناء؛ لأن جلده يصبح كالدرعِ المسرودة من حديد، لا تنفذ فيه السهام، ولا يؤثر فيه طعن القنا، ولا ضرب المشرفيات البيض.
ووقفت به على شواطئ ستيكس!.
وهالها أن تنظر فترى إلى المنايا تقفز على غوارب الموج، وتثب فوق نواصي الثبج؛ تدمدم كأنها الذئاب، وتهوم كأنها البواشق، وترقص ظلالاً سوداء كأنها الجن!.
لقد ريعت الأم المسكينة، وكادت تنثني بطفلها المعبود، إشفاقاً عليه من هول ما شاهدت. . . بيد أن الطفل. . . بيد أن أخيل الصغير، كان يصرخ وينتحب كلما بعدت به أمه عن شواطئ النهر، في حين كان يهدأ وبتسم كلما اقتربت به منها. فتعجبت ذيتيس، وجلست ترقب من النهر فرصة هادئة فتغمر ابنها في مائه لحظةً وتمضى لشأنها. . .
وكأن الآلهة قد استجابت لتوسّلاتها. . . . فقد نامت الآمواج، واستقر سطح الماء، وقالت شياطين النهر المصطخب؛ فتقدمت الأم المضطربة، حاملة ولدها من إحدى رجليه، وذكرت أربابها، متبهلةٍ إليهم، وغمست أخيل في الماء الهادئ في أقل من لمح البصر، وعادت أدراجها فرحة متهللة. . .
جزء واد من جسم أخيل لم يغمره الماء!!
ذلك هو عقب قدمه اليسرى! فيا للهول!
لقد أسلمت ذيتيس ولدها الحبيب للسنتور العظيم شيرون، مؤدب هرقل ومدربه، يلقنه الفنون الحربية، وبنشئه على أعمال الفروسية، ويبث فيه من ذلك الروح الكبير، الذي بثه في سائر تلاميذه من قبل، فكانوا فرسان كل حلْبة، وصناديد كل ميدان، ولقد نبغ أخيل في استعمال السيف، والعب بالرمح وتوتير القسِي، وثقف حِيل المصارعة والملاكمة. . . . وقصارى القول، أصبح فتى زمانه، والهلع الملقى في قلوب أنداده وأقرانه. . . إن كان له أنداد وأقران.
وعاد إلى أمه فاحتفت به، وذهبت من فوْرها هذا إلى العرافات القُدامى، وكهنة المعبد، فاستوحتهم ما عسى أن يكون في كتاب الغيب من حظ لابنها في الميدان. . .
ولكنها حزنت، ودهاها من الهم ما دهاها، حين قال لها الكاهن الأكبر، مؤمَّناً على ما تنبأت به العرَّافات، إن أخيل سيدعى للقتال في صفوف الإغريق، وأنه سيلقى حتفه تحت أسوار طرواده، بسهم يرميه بع ألد أعدائه، يصيب منه مقتلاً في موضع دقيق من جسمه، هو، واأسفاه، عَقِبُ قدمه اليسرى، التي لم تغمرها مياه ستيكس!!.
حزنت ذيتيس، وتجهمت للحياة المشرقة، وتجهمت الحياة المشرقة لها، وآلت إلا أن تحول بين أبنها وبين الحملة على طرواده التي كانت الصيحة لها تجوب آفاق هيلاس في تلك الآونة. . .
وجلست تفكر. . .
وبدالها أن ترسل بأخيل حيث يحل ضيفاً على ليقوميدس ملك سيروس الكريم المضياف، وان تنتحل الأعذار الواهية، فتعرض على الملك أن يسمح لولده بالتنكر، بأن يصفَّف طرته ويرسل غدائره، ويزجج عينيه وحاجبيه، ويصبغ خذيه وشفتيه ويضفي عليه من وشي العرئس، وأفواف الاناث، وحِبَرَ القيان الغيد، ما يبدو به كأنه واحدة من بنات الملك أو إحدى سراريه! تحسب المسكينة أنها تعفيه مما قدر له، وأينما كان يدركه القتل، ولو كان في برج مشيد!!.
واشتد طلب الإغريق لأخيل، ولبث الأسطول الضخم يرقب مجيئه في كل لحظةٍ عدة أيام، وخشى اجاممنون إن هو أقلع بالفلك، ورسا عند شطئان طرواده أن ترسل الآلهة ريحاً صرصراً تسخرها عليه فتأتي على أسطوله، أو يظل تحت أسوار أعدائه مرابطاً أبداً، لا يتقدّم. . . ولا يتأخر؛ وتكون إقامته ثمة بالهزيمة أشبه، وإلى الانخذال أقرب. فأخذ يبعث الرسول يتلو الرسول للبحث عن أخيل، الذي أنبأت الآلهة أن فتح طرواده مستحيل بدونه؛ ولكن عبثاً حاول أحد من الرسل العثور بأخيل أو بظل أخيل؛ بل كانوا يعودون جميعاً وهم يتعثرون في أذيال الخيبة، ويلملمون أطراف الفشل!.
وهنا، نهض البطل الملك، أوليسيز، فتى إيتاكا، وندب نفسه للبحث عن أخيل، وأقسم لا يعودن إلا به!.
ومع أن بعض القادة من أعضاء المجلس الحربي، أوجس خيفةً من أن يفر أوليسيز، وأن يكون ندبه لنفسه بحجة البحث عن أخيل، إن هو إلا حيلة يريد بها أن يفلت من تبعات الحرب وأهوالها، إلا أن أجا ممنون نفسه، وهو القائد الأعلى للجيوش والأساطيل، قبل أن يذهب أوليسيز كيما يقص أثر أخيل، بعد أن أخذ عليه (يميناً على حَدَّ الحسام المهنّد!).
استطاع اوليسيز أن ينفذ إلى مملكة بليوز في أعماق المحيط واستطاع أيضاً أن يختلط بالخدم والخول وحاشية القصر، وأمكنه أن يستدرج بعض الأمراء المقربين من رجال الأسرة المالكة فيعلم منهم أين يختبي أخيل، وكيف يمارس حياة العذارى في بلاط ليقوميدس، ملك سيروس، كأنه إحداهن، وعلم أيضاً أن أخيل نشأ نشأة عسكرية على يدي شيرون العظيم، ومن كان تلميذ شيرون فأخلق به إلا يستنيم لهذه الحياة الناعمة التي لا تليق إلا بأبكار الخدور، وربات الحجال، لا بالأبطال وصناديد الرجال. . . . . . فانطلق إلى سيروس من فوره!.
انطلق أوليسيز إلى سيروس النائية، التي تكاد تكون منقطعة عن العالم، وقد حمل على ظهره العريض، وكاهله القوي حقيبة كبيرة جمع فيها من كتان مصر واصباغها، وعطورها وحِبَرَ الشام، وحريره وممُّوره، وتصاوير فارس، وقاقمها وسنجابها، ومشرفيات الهند، وتحف السند، وطرق الصقلب. . . . . . ومن كل ما غلا وارتفع ثمنه من أدق صناعات العالم جميعاً.
فلما كان في حاضرة المملكة، يمم شطر قصر الملك. . . وكان الوقت ضحى؛ ثم إنه طفق يصيح باللهجة السيروسية، معدَّداً أسماء السلع التي: (استحضرناها حديثاً من مصر الجميلة المتفننة، والهند العظيمة، والسند ال. . . ونحن لا نبيع إلا للملوك وأبناء الملوك، لأن الشعب فقير لا يقدَّر بضائعنا الغالية. . . ونحن معروفون في مصر، لا يشتري فرعون إلا منا، وفي الشام، وفي فارس، وفي الهند، حيث الأقيال العظام وال. . .).
وأرسلت بنات الملك فأحضرن هذا التاجر المفاخر بما معه واجتمعن حوله يتفرّجن ويتلَّهيْن؛ هذه تختار منديلاً من حرير الهند، أو منطقة من خز الشام، وتلك تشتري من أصباغ مصر وعطورها وخرزها، وثالثة تفتن بتصاوير فارس، فتشتري كل ما مع الرجل منها. . . . . .
ولكن فتاةً مُلَّثمة. . . وقفت وحدها ترمق سائر الفتيات بنظرات ساخرة، ولا تكاد تبين إلا عن عينين زرقاوين متألقتين، تقدمت في خطوات متزنة، ومشية منتظمة، وأخذت الحقيبة من الرجال فقلبتها، وما كادت ترى إلى المشرفيات الرقاق الظَّبي، حتى تهللت، وبدا البْشر في عينيها، وتناولت حساماً مرهفاً وشرعت تلعب به في الهواء، ههنا وههنا، كأنما تطيح به رؤوس أعدائها الذين تتصورهم في لوحة الخيال البعيد، المنطبع على أسوار طروادة!!. . .
وشُده أوليسيز مما رأى!.
إنه هو نفسه لا يستطيع أن يلاعب السيف كما تلاعبه هذه الفتاة!.
وإن فتاة تغازل السيف هكذا، لا يستطيع عشرة آلاف فارس أن يقفوا في وجهها؛ إذا جمعتهم وإياها حلبَةٌ للوغى!.
إنها تأخذ على الهواء مسلكه، فالهواء نفسه ذبيح هذه الضربات القاسيات!
وانقشع الشك من نفس أوليسيز، وأيقن أنه أمام البطل المنشود، فصاح بصوته الجهوري، وكأن الرعد ينبري من بين شدقيه:
(أخيل!. . . . . . . . .).
وكأن كل ما في الأرض والسماء راح يردد صيحة أوليسيز:
(أخيل. . . أخيل. . . أخيل. . .).
ووقف أخيل لحظة جامداً، شارد اللب، زائغ العينين، كأنه مستيقظ من حلم كريه مفزع؛ ثم ما هو إلا أن نثر لثامه ومزق الغلالة الحريرية التي تحبس جسمه العظيم في سجن امرأة، وصاح بأوليسيز وقد بدا في بُرْد الأسد.
(أنا هو. . . أنا أخيل. . . فمرحى يا رجل!).
- (أنت هو. . . .؟!)
- (أجل. . . أخيل بن بليوز. . . أبي إله عظيم وأمي بنت إله عظيم، فلبيك وسعديك!)
- (وأنت مختبئ هنا في خدور النساء خشية الحرب التي احتشد لها قومك دفاعاً عن الوطن؟)
- (أية حرب يا رجل؟)
- (بين هيلاس وبين طرواده!)
- (ومن أثارها؟)
- (لقد سرق باريس بن بريام، هيلين ملكة أسباطة)
- (سرقها؟ ولم لم تقتله الفاجرة؟)
- (فرَّت معه، ولم يُعنها أن تلقي شرف هيلاس في الوحل)
- (ولم لم تذهب أنت إلى الصفوف، ويبدو لي أنك محارب كبير؟)
- (بل أقبلت من الصفوف لا بحث عنك!!) - (ومن أنت حتى ينتدبك الجيش للبحث عن أخيل؟)
- (ومن أنا؟ وماذا أسرك أن أكون؟)
- (ومن أنت يا رجل؟)
- (أيسرك أن ملكاً هو الذي يبحث عنك يا أخيل أبن بليوز؟)
- (ماذا تعني؟ أأنت ملك إذن؟ ملك ماذا؟)
- (ملكإيتاكا يا أخيل!!).
- (أنت ملك إيتاكا؟ أنت أوليسيز؟ هاها. . . وما تلك الحقيبة إذن؟)
- (هي وسيلتي اليك، لقد مزقت بها خمارك؛ وهتكت بما فيها براقعك!)
- (أنت تهيني!)
- (لا عليك، مادام محدثك أوليسيز!)
- (أفي الحق انك هو. . . . . .؟؟)
- (أقسم لك بالكُناس الذي آواك. . .)
- (وفيم كنت تحرث شاطئ البحر إذن؟ لقد ذُكر أنك زرعته ملحاً، فهل حصدت سرديناً يا أوليسيز؟.)
- (أخيل! الأسطول ينتظرنا، ألف ألفٍ يتحرقون شوقاً لرؤياك، وأنت أكرم من أن تفر من حرب. . . فهلم!.)
- (هلم إلى أين؟.)
- (إلى أوليس أيها العزيز. . إلى حياة البطولة والمجد والشرف!)
- (البطولة والمجد والشرف!! ماذا تقول؟.)
- (لم يخلق تلاميذ شيرون للتقلب في الراحة، في قصور الراحة، والتلذذ بما في العيش من طراوةٍ ونعومة. . . هلم يا أخيل نخض المعمعة، ونلق طروادة العاتية، ونُلَقّنهْا درساً دامياً في الذود عن كرامة الوطن! لا تقتل وقتنا فقد حرصنا جميعاً على أن تكون معنا، وتحدثت إلينا آلهتنا أن طروادة لا تُفْتَح إلا عليك، ولا تعنو إلا لك، وقد اتفقت المقادير أن ترميها بك. . . لا تترك لخصومك فرصة أن يقولوا فر أخيل وتقاعس، فأين أبطال هيلاس!! هلم هلم، فقومك بنو الكريهة وقروم الحرب وحتوف الأقران. . . لو رأيت إليهم مستلْئمين في سلاحهم، مُقَنّعين في حديدهم، مُلملمين في سفينهم، لزهاك عسكرهم الجرار، وبهرك خميسُهم العرمرم! وتمنيت أن تكون أحدهم بالدنيا وما فيها.
دع الغيد يفاخرون بالقلائد والعقود، وتعال نحن ما في أجسامنا من ضربات السيوف، ووخزات الرماح، ومواقع السهام، فهذه أعز مفاخر الرجال يا أخيل!.
أخيل! ردّ علىّ! قل سأحضر معك! كلنا ننتظرك يا أخيل! لن تفتح طروادة إلا عليك! فأي فخر ينتظرك تحت أسوارها، وأي مجد يكلل هامتك يا بطلها الصنديد!.
تكلم، ولا تصمت هكذا. . . إن ملك إيتاكا يتوسل إليك أنا أوليسيز كله! سأكون خدنك في الحوْمة، وصديقك في المعمعة! وأجا ممنون! إنه قائدنا إلى الفخار، وصاحبنا في مصارع الشرف! وديوميديز! بطل الأبطال وفارس كل كريهة وقتال! سينسى شجاعته حين ينظر إليك تلاعب الأسنَّة، وتقّبل مراشف الرقاق البيض! وأجاكس يا أخيل! لقد بهره ما سمعه عنك، وهو يتمنى أن يراك، ويحارب تحت بند خفاق من بنودك! أجاكس نفسه، يود أن يكون جندياً من جنودك وهو أقوى وأبسل جنودنا جميعاً. . .!
ماذا؟ تبكي؟. . . لا لا يا أخيل. . . لترقأ دموعك فهي أغلى من أن تنسكب هكذا! أكرم بك هيلانياً رقيق القلب، باراً ببلادك، مناضلاً عن رايتها في ساحة المجد!.
لتشربْ من دموع أخيل يا ثري الوطن!
لتروك هذه العبرات الغاليات، فهي ترياقك إذا حزبك أمر، أو ادلهمت بك الخطوب!).
وهكذا كان أوليسيز ماهراً في إثارة النخوة في قلب البطل!
وهل أحلى من كلمات البطولة، وأوقع من حديث المجد، في نفس شاب مثل أخيل؟ لقد تقدم مختاراً طائعاً فقبل جبين أوليسيز، ولثم سيفه، ثم ودّع بنات الملك، وحيا القصر، وتزود من الحدائق نظرات
وأنطلق في إثر أوليسيز!
إلى. . .
أوليس!
(لها بقية)
دريني خشبة أشكر الأستاذ الأديب محمد روحي فيصل، وأدع للرسالة أن تجزيه عني دريني