مجلة الرسالة/العدد 115/من الفن القصصي الحديث
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 115 من الفن القصصي الحديث [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1935 |
المشعوذ
للقصصي الألماني أريش كستنر
ترجمة علي كامل
في ليلة من ليالي الصيف الماضي شوهد على شرفة مقهى (مجلس الوصاية) الواقع على رصيف مون بلان بجنيف منظر كان حقاً غير عادي، إذ قبل أن ينتصف الليل بقليل كان المقهى يفيض بالزبائن الوجهاء الذين كانوا يشربون قبل أن يذهبوا للنوم مختلف المشروبات المثلجة. فقد كان الجو ثقيلاً، ثقيلاً لدرجة أن رياح البحيرة لم تستطيع إحداث أقل إنعاش أو تخفيف.
وكان الأغنياء البرجوازيون من أهل جنيف يوقفون عرباتهم أمام الفندق ثم يبحثون بعد أن ينزلوا منها عن مكان وسط ذلك الجمع المختلف الأجناس المحتشد في ذلك المكان.
وكان فريق الأوركسترا يعزف في الهواء الطلق بضع مقطوعات من أوبرات شهيرة، وكان كل الجالسين يشعرون بأنه يحيط بهم جو على أتم ما يرام: فجوازات السفر تامة من كل الوجوه، والحقائب مهيأة للغاية، وأربطة الرقبة متفقة مع (البدل)، والقهوة المثلجة في درجة الحرارة التي يرغبونها، وأمواج الأوبرات التي يعزفونها جيداً تفتن جميع الآذان.
وفي هذا الجو المفعم بالنعيم والفخامة برز مرة واحدة وسط الشارع أحد حمالي البواخر، وكان أشبه ما يكون بمصارع، وكان جسمه كله برنزي اللون من أثر الشمس. وبدل القميص كلن يلبس (مايوه) بنفسجياً وحول فخذيه بنطلون أحمر متسخ. وكان يلّوح بيديه بكوبه من الجعة نصفها فارغ. محيياً - وهو يضحك - الجالسين في المقهى الذين لم يكن من السهل لعينيه أن تراهم جميعاً. ولقد كان يبدو من منظره أن الشراب قد أسكره قليلاً. وكانت ابتسامته تبدو غريبة، وبعد أن عبر شرفة المقهى عاد أدراجه وبدا على وجهه كأنه يريد أن يشرب في صحة الحاضرين. ثم أفرغ ببطء ما تحتويه كوبته ولم يظهر على من بالمقهى أنهم وجدوا في هذا المنظر تسلية كبيرة جداً، وأفرغ الرجل ما تبقى من الجعة على الرصيف دون أن يبدو عليه أي أرتباك، ثم مسك الكوب بكلتا يديه وحطمها كاملاً بين أسنانه كإنسان عضه الجوع. وكان بالقرب منه فتاة أمريكية من اعظم الموجودات رشاقة فصرخت حين رأته يفعل ذلك وأصفر لونها مرة واحدة. أما جارتها ملكها الفزع وضعت منديلها سريعاً على فمها. ووقف عدد من الزبائن ودفعوا كراسيهم إلى الوراء وجروَا بأقصى سرعة. أما أفراد الأوركسترا أنفسهم فقد تحولت أنظارهم عن النوت إلى أمامهم وطاشت أنغام كل منهم
وفي أثناء كل ذلك الوقت كان الرجل يسحق قطع الزجاج بصوت مرتفع دون أن يتحرك من مكانه متابعاً بعينيه بكل هدوء عصبية المتفرجين المتزايدة، وكان صوت مضغ الزجاج - ذلك الأمر العجيب النادر - هو وحده الذي يزعج ذلك السكون الشامل. ثم أحنى الرجل رأسه كأنه يتحدث سراً مع أحد من الناس وتأرجح على ركبتيه ثم أتجه إلى مناضد أكثر بعداً وهز من جديد كوبه ونظر بهدوء شديد إلى الوجوه الخائفة وحطم قطعة أخرى بين أسنانه. وهرب هذه المرة أيضاً عدد من الجالسين بينما طلب عدد آخر - وقد أثارهم ذلك المنظر الغريب - من خدم المقهى أن يطردوا ذلك الرجل. على أن الخدم اكتفوا بهز أكتافهم، فقد كانوا على جانب من التعب الشديد غير قادرين حتى على جمع الحساب الذي لهم عند الزبائن. كما أن الفزع كان قد أخذ منهم كل مأخذ. ومن الحق القول أيضاً بأنهم كانوا لا يودون مطلقاً أن يتشاجروا مع (آكل الزجاج) وطلب رجل فرنسي - كان قد أصبح وجهه رمادي اللون من هول الرعب - مدير المحل كيما يوجه إليه اللوم الشديد. ووعد مدير المحل بأن يقدم مساعدته وتقدم خطوات نحو حمال البواخر، لكن شجاعته خانته حالاً فتقهقر. ذلك لأن المشعوذ لم ينقطع عن التردد بين طرفي المقهى وهو يمضغ على مهل بقايا كوبه الجعة، وبعد أن ازدرد جزءاً منها لفظ البقية على الأرض.
وبدا على جانب شفتيه مجرى رفيع من الدم انساب حتى ذقنه دون أن يشعر هو نفسه بذلك إذ كان منشغلاً تماماً بمضغ غذائه الوحيد.
ومر بالمكان مصادفة أحد رجال البوليس قادماً من رصيف و. ولسن وكان يرتدي (بدلة) زرقاء بأشرطة بيضاء، فعندما رأى ذلك المنظر الغريب انسل بهدوء إلى شارع الناقوس، واختفى دون أن يصرخ آمراً بعودة النظام.
ووقفت السيارات في عرض الطريق بينما جلس السائحون صامتين من الذهول، وقد اتجهت أنظارهم - دون أن تتحول مطلقاً - صوب النوافذ الزجاجية.
لقد فقد زبائن المقهى وعيهم كلية، وملكهم الرعب من جراء شجاعة ذلك الرجل الخارقة، ولقد دفعهم الخوف لأن يضعوا أيديهم على حقائبهم، فقد تكون هي احسن وسيلة لأبعاد ذلك الحمال الذي حمل إليهم الألم والأذى.
على أنه لم تكن هناك وسيلة ما!.
لم يبق من الكوبة شيء يذكر، كان الرجل يمضغ بهدوء البقايا الأخيرة ولم يقاومه إلا القاعدة لأن زجاجها أكثر سمكاً فلوح بها في الهواء وعليه إمارات النصر الممتلئ بالاحتقار.
كان السكون التام يسود المكان كله ولم يكن هناك إلا فتاة صغيرة - عيناها نصف مقفولتين - تبكي بوداعة. وفي تلك اللحظة اقترب رجلنا من المنضدة المجاورة وقبض - دون أن ينطق بكلمة واحدة - على آنية السكر المعدنية وأدارها على المنضدة ثم قدمها وهي فارغة مما كانت تحويه طالباً المعونة، وقد علت وجهه إمارات التهديد. وفي الحال انفتحت حقائب النقود كأن قوة سحرية فعلت بها ذلك. وتراكمت قطعه النقود في آنية السكر كأنها قطرات مطر هاطل، وتنقل الرجل من منضدة إلى أخرى وهو مالك نفسه أكثر من رجل مسلح من رجال العصابات. ماداً آنية السكر كأنه يصوت مسدساً. إنه لم يستجد بلسانه مطلقاً، كما أنه لم يشكر من أعطوه، على أنه لم يكن يغادر المنضدة إلا بعد أن يعطيه الجالسون عليها نقوداً.
وفي الطريق وقف المارون ينظرون في صمت ما يفعله الرجل وقد ظهر عليهم السرور واضحاً. لاحظ مدير المحل - ولكن بعد أن فات الأوان - أن سمعته في خطر كبير فانحنى يطلب بأدب جم إلى العامل أن يوقف هذه الشحاذة، لكن الرجل أبعد ذلك الشخص الذي يضايقه بأن هز كتفه هزة خفيفة ثم استمر في تكديس النقود كأن شيئاً لم يحدث قط، فقد كان يعتبر الجالسين في المقهى كأنهم أكياس منتفخة من الذهب.
لقد جاء إلى المكان وأطاعوه بسهولة! وفي اللحظة التي شعر فيها بأنه حصل على ما يريد أفرغ ما تحتويه آنية السكر في جيبه وألقى على الأرض - دون أي مراعاة - قاع الكوبة الذي لم ينقطع عن التلويح به في الهواء حتى تلك اللحظة، ثم ارتدى بنطلونه بإهمال، كما هي حال الطبقات الدنيا، وسار في طريقه باحتقار وازدراء.
وبقي الزبائن المساكين جالسين في أماكنهم ذاهلين، أشبه ما يكونون بمرضى في دور النقاهة، محطمين من التعب والإرهاق والآن ما الذي حدث؟
الذي حدث أن رجلاً لا يلبس ياقة ولا رباطاً للرقبة ازدرد الزجاج. بيد أن وقع الحادث على المتفرجين كان أكثر من ذلك هولاً ورهبة.
وابتداء فريق الأوركسترا يعزف مقطوعات للموسيقي فيردي بينما كان أحد خدم المقهى يمسح جبهته خفية.