مجلة الرسالة/العدد 115/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ شاعرنا العالمي أبو العتاهية | مجلة الرسالة - العدد 115 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1935 |
20 - تطوير الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتش
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
كل جيل أو كل حضارة مرتبطة بسلسة من القيم الاجتماعية تؤمن بأن هنالك شيئاً أسمى من شيء، وأن عملاً أفضل من عمل، وترى أن الحقيقة أسمى من الضلال، وأن عاطفة الرأفة أفضل من عاطفة القسوة، وواجب التاريخ البشري هو تعيين هذه المقامات والفصل بينها، لأن هذه المقامات المنطوية على التقاليد الاجتماعية هي التي تسيطر على حياة الأفراد والجماعات، وتؤثر في كل أحكامنا ومناقشاتنا. وجدير بها والحالة هذه أن تشغل عقل الفيلسوف وأن تستبد بأكثر عقله وفراغه.
نظر نيتشه إلى هذه المقامات وتأملها ملياً، فجاءت نتيجة تأمله أن هذه المقامات التي تتعاقب عليها الحياة الأوروبية اليوم لهي مقامات فاسدة يجب تنكيسها لأنها لا تصلح للبقاء، وبهذا يتبدل مجرى حياتنا، وتبيد هذه العكازات التي تتوكأ عليها أحكامنا وأفكارنا. وقد نرى نيتشه - في أحد نوبات ألمه العنيف قبل ضياع عقله - ينذر بخراب مروع لهذه البشرية: (إنني أحلف لكم بأن الأرض ستتلوى متشنجة خلال عامين أثنين. . . إنني بنفسي قضاء وقدر)
إن الإنسان الحالي يضع في قائمة (القيم الاجتماعية) عدداً من القيم المطلقة العالية التي لا يمسها سوء ولا يشرف عليها عقل، ولا يتطاول إليها نقاش، وبواسطة هذه القيم يسعى إلى تبيين الحقيقة. من هذه القيم المعروفة مثلاً عنصرا الخير والحقيقة. وقديماً وحديثاً نرى أن تعبد الحقيقة والصدق هو رأس عقائدنا وإيماننا. ناهيك أن المفكرين أنفسهم وقفوا متهيبين إزاء مسألة الخير والشر حين عرضت لهم، وقد ظلموا مترددين أمامها، راعين للتقاليد التي توارثوها عنها. (فكانت) قد افترض وجودها.
وشوبنهاور وجد أن العقدة الأخلاقية إنما عقدة عامة، جميع الناس فيها سواء. (فلا تسئ لأخيك، وأغث إخوانك ما استطعت). وهكذا تطامن الفلاسفة على هذه العقدة ولم يهزوا شجرتها. وكلهم تجمهروا ليدرسوا رأس الأخلاق وهذا الضمير الخلقي الذي أصطلح البشر عامتهم على احترامه والذي لا يزال يسيطر على الأجيال الحالية.
أعلن نيتشه الحرب على هذا التعبد للحقيقة وهذه العبادة لشريعة الأخلاق. وبدلاً من أن يتقبلها قبولاً لا مفر منه ولا وجه لمقابلته بجدل. رأيناه يقابلها كمسألة يدرس وجوهها ويحل مبهمها ويفترض ما يفترض في سبيل تفهمها. أليس من حقه أن يتساءل (ولماذا كانت الحقيقة خيراً وأحرى؟: ولماذا كان الخير أجدر من الشر بالأخذ؟) ثم حلّ هذه المسألة بذات الجرأة التي ظهر بها جاعلاً قاعدة الإنسان الحر هذه الكلمة المأثورة (لا شيء حقيقي في الوجود، كل شيء حلٌ للإنسان).
وما هذه الكلمات النظرية التي تتردد بحروف مختلفة وأسماء متباينة دون أن يخرج معناها بخروج مبناها إلا كلمات ابتدعها الخيال وثبتها الوهم. أما الحقيقة الجدير بالنظر، الحقيقة التي ينبغي لنا أن نعرفها فهي حقيقة عالم رغائبنا وأهوائنا. فكل ما تحتوي عليه حياتنا وإرادتنا وفكرتنا هو في الحقيقة نتاج ما فينا من الغرائز الحاكمة. وهذه الغرائز المتفرقة إنما تتشعب بها السبل إلى غريرة واحد، لا ترد إلا أليها ولا تصدر إلا عنها. هذه الغريزة هي إرادة القوة، هذه الإرادة التي تغنينا - لو رجعنا إليها في تحليل جميع مظاهر الحياة التي تحيط بنا ونحيط بها. فكل كائن - سواء كان من عالم الحيوان أو النبات أو الإنسان - يسعى إلى بسط سلطانه على غيره من الكائنات حتى يخضع له ما يخضع منها. وإن الحرب القائمة وهذه الجهود الدائمة، حيث لا تستقر حياة موجود إلا ببسط نفوذها ونشر قواها، هي الشريعة الأساسية في الوجود، وفي كل مظاهر الحياة - أنى كانت - ترى الغزيرة قائدها وهاديها: فإذا رأيت إنساناً ما يجنح بطبعه إلى حب الفضيلة والفن والحقيقة فهذا الجنوح إنما قام بفضل هذه الغريزة الطبيعية التي رأت من خيرها أن تسلك هذا السبيل، وهكذا قل في الفضيلة الدينية التي تجد بها بعض النفوس أقواتها وطعام غرائزها. وفي الحقيقة التي يضحي العالم في سبيلها بأزهى عمره تسوقه إليها إرادة القوة التي تعمل على بسط سلطانها، ولكن الإنسان مال إلى عبادة ما ابتدعه بنفسه (كمثل أعلى) ليشبع حاجة فيه من حاجاته. فبدلاً من أن يقول: سأحيا أنا لإشباع غرائزي، وسأتحرى عن الخير والحقيقة تبعاً لهذه الشريعة حيث تدفعني إرادة قوتي: قال: إنما الخير والحقيقة شيئان ينبغي أن يطلبا لنفسيهما. . . يجب صنع الخير لأنه الخير. ويجب نشدان الحقيقة حباً للحقيقة. وحياة الإنسان ليس لها قيمة إلا بقدر ما تنكر من أنانيتها وذاتيتها في سبيل خدمة هذا المثل الأعلى، فلتقُتل إذن كل ميولها الغريزية في سبيل هذا الإنسان نفسه الذي قدر هذا التقدير إنما تسوقه غريزة - لأن الغريزة هي سائقة النفوس إلى ما تعمل - ولكن هذه الغريزة غريزة فاسدة.
على أن هذه الغرائز ليست في الناس سواء، فبعضها، فبعضها معتدلة تعمل على تغذية حياتها وصيانة نموها، وبعضها فاسدة معتلة تعمل على إخفاء مادتها الحيوية. وللعلل الجسدية تأثير كبير فيها قد يتداركها الطبيب قبل أن تضوي الجسد. وهنالك علل (الشخصية) ولهذه العلل أسباب طبيعية. وبحسب هذه الغرائز المختلفة المتسيطرة على الإنسان يأتي صاحبها صالحاً أو طالحاً، مثلاً عالياً أو مثلاً سافلاً.
إن - هنالك - رجالاً خالصي الأجسام والأرواح يقولون (نعم) للوجود! هم سعداء ناعمون بحياتهم، وهم ممن يجدر بالحياة أن تخلد لهم. وهنالك رجال منحطون ضعفاء مرضى قد أظلمت غريزتهم وماتت حيويتهم، يقولون (لا) للوجود! يجنحون إلى الموت والفناء، لا غاية لهم يتحرون عنها، وليس لهم - والحالة هذه - أن يتحروا عن بقائهم في الوجود، وهذه سنة طبيعية تنطبق على الحياة التي لا تتمرد، والحياة - في كل صقع - سائرة في طريق التقدم أو في طريق الانحطاط. والإنسان فيها مثل غرسة، طوراً تحيا ذابلة يائسة، وطوراً تتفتح مشرفة زاهية، تسمو منها فروع عالية.
يتبع
خليل هنداوي