الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 110/القصص

مجلة الرسالة/العدد 110/القصص

بتاريخ: 12 - 08 - 1935


من أساطير الإغريق

مأساة أم

للأستاذ دريني خشبة

رآها زيوس تقطف الزهر وتتيه في حدائق السوسن، وتنشد مع البلابل ألحان الشباب، فتنصت الطبيعة وتتفتح آذان الورود، وتحملق نواظر النرجس ترى إلى كليستو الرقيقة رقة النسيم، الحلوة كأنها حلم جميل في أجفان عاشق، الموسيقية التي يستطيل نغمها حتى يبلغ السماء، ويتسع حتى يغمر الكون، فيثوي بكل أذن، ويستقر في كل قلب، ويخفق مع نبضات المحبين، وينسكب ذوبا من دموع المدنفين المعذبين!

رآها زيوس فجن بها! وبالرغم مما أعطى على نفسه من ومواثيق لزوجه حيرا ألا يصبو إلى أنثى غير أزواجه اللائى كن إلى هذه اللحظة ستا أو أكثر من ست، فقد ذهب يقتفي أثر كليستو، ويرهف سمعيه ليملأ بموسيقاها قلبه

كانت تمشي بين صفين من أعواد الزنبق، تنمقهما ورود ورياحين؛ وكانت تنثني وتميس، فيهتز الروض وينتشي الزهر، وكلما ترنمت بأغنية من أغانيها الساحرة، رددت الأزهار والأطيار ما تغنت، كأن كل شيء في تلك الطبيعة الرائعة الفنانة عضو في فرقة كليستو الموسيقية

وجلست تتفيأ ظل خوخة وارفة كانت تداعبها فتساقط عليها من ثمرها الجني، ورطبها الشهي، فتتذوقه كليستو وهي تبتسم

وأسكر النسيم الخمري عينها الساجيتين، فاستسلمت للكرى الطارئ والغفوة العارضة، وتمددت على البساط السندسي ليحسر الهواء عن ساقيها، ولتكون فتنة يضل في تيهها قلب زيوس، وتضرب في بيدائها نفسه. . . على غير هدى!!. . .

وبدا الإله الأكبر أن يرتد فتى موفور الشباب ريان الأهاب؛ ثم يسوق آلهة الأحلام فترقص في أجفان كليستو، تبهرج لها من الرؤى ما يشب في نفسها رغائب الهوى ولذائذ الحب، ويثير فيها حرارة الحياة ونام الخبيث إلى جانبها، وطفق يروح على وجهها، ثم نثر ذراعه على جيدها الناهد، وراح يضغط قليلا. . . قليلا

ولقد فعلت الأحلام الحلوة فعلها في قلب كليستو، فلما استيقظت، ووجدت نفسها في حضن هذا الشاب اليافع الجميل، لم تنفر، بل خجلت خجلة زادتها جمالا، وضاعفت سحرها وفتونها؛ وفترت أهدابها فاسترخت، وفنيت في حبيبها المفاجئ. . . وفنى هو الآخر فيها

وجاءها المخاض!

ووضعت غلاما أحلى من القبلة الحارة على الثغر الحبيب، وأعذب من ابتسامة الزهرة طلها الندى

فلما زارها زيوس وبشرت به، اهتز الإله الأكبر وشاعت الكبرياء في أعطافه، وأخذ الغلام فباركه، وطبع على جبينه الوضاح قبلة أولمبية خالدة؛؛ ثم زف إلى كليستو تلك البشرى التي ظل يخفيها عنها طوال حبه لها، وذلك حينما أشار إلى ابنه بيمينه البيضاء هاتفا:

- (بوركت يا أركس! يا أجمل أطفال الأولمب!)

وقد اضطربت الأم الصغيرة حين سمعت هذا الدعاء ونظرت إلى حبيبها كأنها تستريب، وقالت له:

- (أجمل أطفال الأولمب؟ إذن من أنت أيها الحبيب؟)

- (بشرك يا كليستو! فأنا ربك وزوجك وحبيبك زيوس!) ولم يسع كليستو إلا أن تسجد لربها وهي ترتعد من الخوف؛ فقال لها:

- (انهضي! انهضي! ماذا تصنعين يا حبيبة! انهضي فقد رسمت ابننا أركس إلها، فاكفليه حتى يشب، وإياك أن تراكما حيرا فتسحقكما. . .)

وقبل الغلام وقبل الأم،،، وغاب في الأفق. . .

وكانت كليستو أحرص على فتاها من أن تدعه وحده لحظة واحدة، فإذا خرجت للصيد في الغابات القريبة، أقامت عليه حارسين من كلابها الكواسر، يكفي أحدهما لتشتيت شمل جيش بأكمله. وكانت تحمل إليه أثمار اللوز والبندق كلما عادت من الغابة؛ حتى إذا اشتد ساعده، علمته الرماية وألعاب الفروسية، مستعينة بذلك بالسنتور العظيم، شيرون، مؤدب هرقل ومدربه وذاعت الأنباء في دولة الأولمب، أن لزيوس خليلة يختلف إليها في الفينة بعد الفينة، وأنه أولدها طفلا بارع الحسن، وسيما قسيما، يكاد يكون في مستقبله هرقل آخر، يضارع هذا الهرقل الهائل، ابن ألكمين، الذي كان يدوخ أبطال العالم في ذلك الوقت. . .

وقد مدت الأرض بحيرا حين علمت هذه الأنباء، لأنها كانت تغار من أزواج زيوس، وتخشى أن تلد إحداهن بطلا يكسف شمس ولديها مارس وفلكان. وكانت الحرب بينها وبين هرقل على أشدها، فكم نثرت في طريقه شوكا، وكم فجرت تحت قدميه ينابيع من نار. أفلا يحزنها إذن أن يبرز لها خصم آخر يغطش حياتها، ويراوحها بالأشجان والآلام!!

وكانت كليستو تصدح في أصيل يوم من أيام الربيع، فتستجيب لها الغابة، ويردد غنائها الطير، ويمشي في إثرها الدوح، وتهتز الأرض والسماء؛ وكانت حيرا قد عرفت أوصافها من شيرون، مدرب فتاها أركس؛ فلما سمعتها تغني، ويمشي وراءها العالم بأسره، عرفت أنها هي!!

وكاد قلب حيرا يصبو إلى كليستو، مسحورا بروعة الغناء، مأخوذا بترجيع البلابل. . . حتى لكانت تخال الورد نفسه يغني معها!! وكادت بذلك تنسى غيظها، بل كادت تنخرط في هذا الحشد الموسيقي الذي يصفق لكليستو ويستجيب لألحانها! ولكن!

لقد ذكرت ابنيها مارس وفلكان، وذكرت يوم صرعهما هرقل في حفل الأولمبياد، حتى لكانا ضحكة كل راء! فنسيت الغناء وأصمت أذنيها، وغرفت من ماء قريب بيديها غرفة جعلت تتمتم عليها بتعاويذ سحرية، ورقى في غيبية، ثم صاحت بالفتاة فسمرت مكانها دهشة مأخوذة، فنثرت حيرا في وجهها الماء وهي تقول: (شاهت دبة! شاهت دبة!)

وا أسفاه!!

لقد أحست كليستو في ذراعيها الجميلتين بخدر شديد، ثم نظرت فرأت شعرا خشنا ينمو بسرعة فيغطي جسمها البض الجميل كله!

وأحست أظافر طويلة غليظة تنبت في أطارف أصابعها، ومخالب مرعبة تبرز من أصابع رجليها المعبودتين!

وشعرت بوجهها الوضاء المشرق يتغير ويتحول، ثم يتغير ويتحول حتى لقد ركب فيه أنف كبير أسود، وفم مغبر في منتهى القبح، يسيل على جنباته لعاب شائه كريه! وخيل لها أن ذنبا ينبت وراءها، فتحسسته فأيقنت أنه ذيل خبيث. . . ما في ذلك ريب!

وفزعت كليستو، فأردت أن تصيح تستنصر الغابة، ولكن. . . يا للهول! لقد راحت تصرخ كما تصرخ الحيوانات، وتعوي كما تعوي الذئاب!!

وانخلع قلب الفتاة فحاولت أن تغادر هذا المكان الساحر، ولكنها لم تستطع أن تنهض على قدمين، بل انطلقت تعدو على أربع كأنها بهيمة من بهائم الأرض!

وأصابتها حيرا بظمأ كاد يصهر حلقها فذهبت إلى غدير ترتوي، ولما انحنت ترشف الماء رأت صورتها المفزعة تتقلب في صفحته، وأنها لم تعد كليستو الحسناء بعد، بل إنها قد انسحرت فصارت دبة قبيحة قذرة ذات أنف طويل أسود، وعينين رجراجتين تقدحان بالشرر

وانطلقت في الغابة تعدو وتعدو، وتتوارى بين الأشجار حتى لا يراها أحد، وكانت الحيوانات - حتى ضواريها - تفزع منها كلما مرت بها، وهكذا شاءت المقادير الظالمة ألا يكون لها صديق حتى من سباع الغابة الموحشة، التي كانت قبل لحظات ترقص بين يديها. . . وتنشد وتغني!!

وضربت في القفار والفلوات، مؤثرة ألا تعود إلى ابنها الحبيب أركس فتفزعه؛ وكانت تختلف إلى الغابة، فإذا مر بها بعض أصدقائها القدماء عرفتهم ولكنها تتوارى عنهم، وفي نفسها هموم وحسرات

خمس عشرة سنة!!

قضتها كليستو التاعسة في هذا الشقاء الطويل، لا تمر بها هنيهة دون أن تفكر في ابنها وتبكي. . . وتفكر في مآلها. . . وتبكي، وتفكر في ذكريات شبابها. . . وتبكي، وتذكر الموسيقى والغناء. . . وتبكي!!

واشتعل قلبها شوقا إلى أركس، فجلست إلى أيكة حزينة تتناجى:

(ترى! ماذا تصنع الآن يا بني؟ أما تزال تنهل كأس هذه الحياة المرة؟ أم أنت قد طواك الردى ونسيك كبير الأولمب؟. هل أنت مريض يا أركس؟ هل في جنبك جرح يتفجر دما لبعد أمك عنك، كهذا الجرح الذي تنزف منه نفسي، وتنسكب حياتي؟ وهل إذا أصابك ضر، فأنت واجد قلبا يحنو عليك ويترفق بك. . . . ويرعاك؟ ومن هو صاحب هذا القلب الرقيق يا ترى؟

يا ولدي!!. . . يا حبة القلب يا أركس. . .!!)

وتبكي البائسة بكاء يذيب الصخر، ويحرق فحمة الليل، ويزلزل أركان الكهف المظلم الذي تعودت قضاء لياليها فيه. . .

أما أركس فقد كان هو الآخر يبكي أمه، حتى استطاع مؤدبه شيرون أن يفل بنصائحه غرب حزنه، ويطفئ بمواعظة نار أساه، فنسى، أو تسلى. . . أو تناسى. . .

واستد ساعده، وثقف الرماية حتى ما يطيش له سهم، ولا تخيب له رمية؛ وأحبه شيرون من سويدائه، ولازمه طويلا، حتى كانت حرب السنتور فودعه وعاش الفتى وحيدا. . . يحيا حياة هي بحياة أمه في شبابها الأول أشبه، فيختلف إلى الغابة يصيد منها الثعالب، وإلى البرية يرمي فيها الوعول، ويعود مع الغروب مثقلا بالصيد

وفيما هو يرتاد الغابة في ضحى يوم شديد القيظ، إذا أمه المسكينة تلمحه فجأة، وتعرف فيه ابنها، وأعز الناس عليها. . .! فتذهل عن نفسها وتقف مشدوهة باهتة لا تنبس ولا تحير!

فهل عرفت هذا التماثيل المرمرية التي تقف صامتة كالألغاز في المتاحف ودور الآثار؟ لقد كانت كليستو أشد منها تحجرا عندما شاهدت ابنها بعد هذه السنين الطوال!

ولقد خشيت أن تزعجه بوجودها، لأن الصيادين لا يرهبون من ضواري الغاب شيئا كما يرهبون الدباب، فحاولت أن تختبئ وراء شجرة أو نحوها، ولكن. . هيهات!! فلقد عجزت عن الحركة المجردة لما تولاها من الحيرة والارتباك!

والتفت أركس ففزع أيما فزع لوجود دبة متوحشة كبيرة الجرم على مقربة منه، وهو غير متهيئ للرماية، فارتبك حين تناول قوسه بيد مرتجفة، وأصابع مرتعشة. . . . ولكنه، ويا للعجب! أحس ببريق غريب ينبعث من عيني الدبة، وشعر بحنان وعطف يتحركان في صميمه من أجلها، وحاول أن يتعرف مصدر هذا الحنان فلم يستطع، وضاعف دهشته أن الدبة سمرت مكانها دون ما حراك، وأن دموعا حارة أخذت تنسكب بغزارة من عينيها اللتين ترنوان إليه، وما تريمان عنه!!

وكم كانت كليستو تتمنى لو تقدر الكلام فتقص حكايتها على ابنها، بيد أنها خافت أن تضاعف انزعاجه بصراخها الحيواني المخيف. . . فصمتت. . . وتكلمت عبراتها!! ثم. . . . . . . .

سدد أركس سهمه إلى رأس أمه، وكاد السهم المميت يمرق فيؤدي بحياة أعز الأمهات. . . . لولا أن زيوس. . . الإله الذي طال رقاده!. . . كان يسمع تلك الآونة ويرى، ولولا أن تحركت في قلبه الرحمة هذه المرة، فلم يبال التدخل في سحر زوجته - حيرا الخبيثة - فأطلق لسان كليستو، وصاحت فجأة: (أركس!. . . بني العزيز!. . . أنا هي. . . أنا هي أمك. . .)

وسقطت القوس من يد أركس. . . وكانت مفاجأة مشجية! وظل الفتى يرمق الدبة عن كثب وهو لا يصدق!! وقال لها:

- (ماذا تقولين؟ أدبة تتكلم؟ أم من؟. . . من أنا؟. . .)

- (أنا هي يا بني. . . أنا كليستو أمك البائسة. . . فعلت بي حيرا ما ترى. . . خمسة عشر عاما يا أركس وأنا أتعذب وأبكي من أجلك في هذه الغابة الموحشة. . .!)

ولم ينبس أركس ببنت شفة، بل تقدم مهدما من الهم، فعانق أمه. . . ووقفا لحظة يبكيان!!

ثم تدفق حنان السماء، وأمطرت رحمة الإلهة، وأمر زيوس فحملا إلى الأولمب - أركس وأمه - ومن ثمة أطلقها رب الأرباب في السماء الخالدة ليكونا برجين من أبراجها، ما نزال نراهما إلى اليوم، وما نزال نحتفظ لهما بعنوان المأساة المؤلمة، إذ نسمي الأم (الدب الأكبر)، ونسمي الابن، أركس الحبيب (الدب الأصغر. . .). . . وما تزال حيرا القاسية تنظر إليهما وتتميز من الغيظ

دريني خشبة