الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 110/العصر الذهبي

مجلة الرسالة/العدد 110/العصر الذهبي

مجلة الرسالة - العدد 110
العصر الذهبي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 08 - 1935


للأستاذ عبد الرحمن شكري

مقدمة:

أولع الناس من قديم الزمن بالتفكير في عصر الإنسانية السعيد: عصر الخير العميم الشامل؛ فبعضهم كان ينشده في الزمن القديم ويبكي انقضاءه، وبعضهم ينشده في المقبل من العصور، يدينه رقي الإنسان. وكثيرا ما استخدم شعاره أهل الحرص لنيل أطماعهم، واقتياد الناس لاستثماراتهم واستذلالهم؛ وكثيرا ما علق الأذلاء بكماله حتى إذا تحكموا ساروا على نهج الطغاة؛ وهو مثل عال ولا تحلو حياة الإنسان إلا به؛ ولئن صدق ما يقوله بعض المفكرين الذين يزعمون تحققه نذير الفناء، فمرحبا بالفناء يكون نذيره الخير كله والسعادة الشاملة والمثل العالي، وقد لا يصدق تشاؤمهم!

الناظم

عصرَ السلام تحية وسلام ... خلعتْ عليك رجاَءها الأقوام

من كل عصر في نسيجك لحْمَة ... أَلأجل صنعك تدلفُ الأعوام

إمَّا دنوت وما عهدتك دانياً ... عَفَّى على نقص الأنام تمام

نستقبل الأيام وهي كوالح ... مستبشرين إذِ التمام إمام

خالوك في الماضي - ولم تك ماضياً - ... إذ زان منه البعد والأوهام

ويرون في غدهم سراباً نائياً ... فيطول نحس العيش والإجرام

تتغير المُثُلُ التي شاقتهمُ ... تتبدل الآمال والأحلام

حسب الورى من حسن عهدك قدوة ... علياء ما إنْ شانها استبهام

ما فاتهم طب الطبيب وإنما ... تتباين الأرواح والأفهام

ولاَنت في سير النفوس إذا صفت ... يدنى إليك البر والإكرام

عطف النفوس على النفوس ولن تُرَى ... أبداً ونفس في الأنام تضام

هيهات يكرم فاضلاً ذو خسة ... أو يغفر الجاني شآه كرام

استبطأوك وأنت بين جنوبهم ... وتَنَظَّروك ودأبك الإلمام ورأوك في الدهر البعيد ولو دروا ... أنْ لو أرادوا كان منك لِمَام

لرأوا مشيئتهم تشاء ولا تشاء ... هاموا وتحسب أنهم ما هاموا

ومن المشيئة ما يجيء فجاءة ... ليست تجزئ أمره الأيام

ونأى بهم عن وِرْدِ خيرك أنهم ... للحرص حادٍ بينهم وزمام

أمباغتا بالخير بعد تمنع ... حب الأنام لعهدك استقدام

ولقد يتوب أخو المجانة بغتة ... من بعد عيشِ كله آثام

ويتوب هذا الخلق من شر ومن ... إثمٍ فتحمد خَيْرَك الأيامُ

كم فتنة أجحتَ نار جحيمها ... شوقاً لعهدك والأنام حُطام

وشعار حق كم غدا أُحْبُولة ... أثرى بحقك في الأنام لئام

وإذا العبيد تحكموا في فتنة ... ساروا على نهج الظَّلُوم وضاموا

أترى العبيد ببابلٍ وبطيبةٍ ... أغرتهمُ بكمالك الآلام

لو أنهم ملكوا لعافوا مسلكا ... يدني إليك وطاشت الأحلام

ولطالما حن اليهود لشرعه ... ودعا المسيح له ورِيمَ سلام

وتَنَظَّر المهديَّ قوم أمَّلوا ... ركباً له يحدو به الإسلام

ثار الفرنس وخيرهم يبغي له ... عهداً تدين لشرعه الأحكام

يبكي ويعتنق الغريب مُبَشَّراً ... بالشر زال وبالكمال يُشام

ما زال شر - لا - ولم يمهد به ... نهجَ السلام الحكمُ والحكام

أنَّى تكون وفي الأنام تفاوتٌ ... أُسْدٌ لها في الصاغرين سَوام

عِرٌّ وذو مكر فلست بكائن ... حتى تَساَوَى في الأنام الْهَام

فمتى يدين لسُنَّةٍ لك جمعهم ... ويراك خيراً شَرُّهم فترام

لا يصدق الكُهّان إن هم أنبأوا ... بدوام ما لم يُلْف فيه دوام

كم من عهودٍ كان يحسب أهلها ... أنْ زل عنها النقض والإبرام

نَسِىَ الأنام عهودهم فعهودهم ... أقصى وأدنى منهمُ الأوهام

فقد الأنام صفاتِ أجداد لهم ... وتحولت وتبدلت أجسام

والطبع في غدد الجُسوم فَعَلَّها ... يوماً تصح فلا يكون أثاَم وتعود من فرط الصفاء حياتهم ... ذهبيةً أيامها والعام

خير مَرَى الحرصُ الخسيسُ أقل من ... خير لديك تردوه الأحلام

والنحس عدوى ليس يُقصِى شرَّها ... إلا التضافر شاده الأقوام

كذبوا فما أبقى التقاتل بينهم ... إلا الضعيف وقد قَضَى المقدام

خلفت في سير النفوس مباهجاً ... وتجملت بجمالك الأيام

كغناء حادي الركب رَفهَ عنهمُ ... نعم النشيد ونعمت الأنغام

حُلُمٌ هو المثل الأجلُّ وإنهم ... لولا مثال كمالك الأنعام

ولعل عمر الشر ليس بدائم ... ينمو سناك فينمحي الإظلام

قالوا إذا ما جاء خيراً كله ... لم يبق خير في الحياة يشام

لولا جهاد في الشرور تعطلت ... سبل المكارم واستنام أَنام

إن لم يكن نقص ففيم رجاحة ... وبضدها تتميز الأقوام

لا يطعم السعدُ الشَّهِيّ وشُهْدَهُ ... من لا ترود فؤادَه الآلام

والوهن يسعى للفناء دنيبه ... إن لم يكن حذرٌ وعَمَّ سلام

لغز الحياة وليس يفقه لغزها ... بين الأنام مُفَهَّمٌ عَلاَّم

والشر أهون بعضه من بعضه ... فاطلب كمالاً كي يقل الذام

أهلاً بغائلة الفناء نذيرها ... عهد يَشُوق سلامُه وتمام

إن لم يصح العيش إلا أن ترى ... شرع التنافس في الأنام يقام

فعسى التنافس في المحامد ينثني ... طبعاً وإن قيل الأنام لئام

يدنوا إذا بطلت ضرورة كائدٍ ... يُزْجَي بها رزق له وحطام

إن نال كلٌّ مطمئناً رزقَه ... فعلام لؤم للورى وخصام

دِيْنُ التنافس في المكارم ربما ... أنماه نصح فيهمُ وحسام

فترى الورى دينَ الورى وصلاحُهم ... فرض يدين لشرعه الأقوام

عبد الرحمن شكري