مجلة الرسالة/العدد 110/إلى الشباب الناهض
→ التطور والتقليد | مجلة الرسالة - العدد 110 إلى الشباب الناهض [[مؤلف:|]] |
للأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1935 |
الأدب الاهي. . .
للأستاذ محمد روحي فيصل
قال صاحبي:
(والأدب لو تدبرت متعة تلهو بها النفوس، ولذة تنشط لها العقول، وفن جميل نقرؤه فتبرز الأحلام، وتتدافع الخواطر، وتخف الحياة، ثم نخلص إلى عالم حلو لا تجثم عليه أثقال السعي والعيش، ولا تحده قيود الجد والوقار. .)
وسكت هامسا قد انفجرت عيناه الصغيرتان تستطلعان في وجهي أثر الحديث، وتتبينان ما عسى أن أقول، فراعه أن أجمع الأنف وأزوي اللحظ وأقطب ما بين الحاجبين، ثم أقوم هادئا إلى مكتبتي المتواضعة فأنزع منها رسالة في مائة صفحة قد ألفت النظر إليها والإنعام فيها منذ سنوات، فما أتركها إلا لنوم أو طعام، أو شأن من شؤون الدنيا. وشرعت أتلو على صاحبي صفحة موجزة ليست جديدة في روحها ومعناها لدى القراء، ولكنها جديدة طريفة في عيني، أريد أن أذيعها اليوم في الناس ليتدبروها وليروا الرأي الذي يرتئون فيها
فافتح إن شئت أية مجلة عربية، فانك لا شك واجدها قد جردت كثيرا من صفحاتها للشعر، أو للشعر المنثور، أو لغير هذا من القطع الفنية مما يسمونه أدبا، وما هو من الأدب الصادق الصحيح في شيء! والظاهر أن اعتبار الأدب وسيلة للتعابث والمفاكهة، أو للتظرف والمنادمة، هو علة هذا الهراء والهذيان، وسبب قوي لكل ما يعتري الآداب والفنون من انحطاط وإسفاف، وما يتدسس إليها من ألوان المجانة وفضول الكلام. ونحن في هذه العجالة إنما نبغي تبيان أوجه الخطأ في هذه النظرة اللاهية الهازلة، والكشف عن عقمها وفسادها، وعن نتائجها الخطيرة التي تقتل في الأدب روح الجد والصدق والطبع
وقبل أن نخوض في هذا الحديث الذي يستشرف له القلم اليوم نقرر أن النهضات القومية التي تحدو بالأمم في مدارج العظمة والمجد، وتنفث في الشعوب معنى القوة والاستقلال، لا تطلع عليها إلا إثر النهضات الأدبية التي تهتاج فيها النفوس، ويتيقظ الشعور، وتلتهب العواطف، ويتحرك الكامن من الهواجس والأماني، فيكون الأدب بمثابة ناقوس يهيب بالركب الغافي إلى المسير والعمل. فهذه ألمانيا لم يستطع بسمارك تأليف وحدتها وضم دويلاتها بعضها إلى بعض إلا بعد أن تذوق الألمانيون آثار جوت وشيلر وهيني وليسنغ وهردر. وهذه فرنسا ما نهضت في الثورة الكبرى إلا بعد أن شاعت بين أبنائها مؤلفات روسو وفولتير ومونتسكيو. وشبيه بذلك إنجلترا في القرن السابع عشر يوم هبت للحياة العالية وللفتح والسيادة، فقد كان شكسبير وغير شكسبير نشروا قبل ذلك في الأمة الإنجليزية أرواحهم الحية ونفثاتهم القدسية
هذا ما تستفيده الجماعات من الأدب؛ ولعل ما يعود منه على الفرد أجل وأرفع، ذلك بأن الأدب باب كبير من أبواب السعادة، وطريق ناعم ناضر تشم من جوانبه روائح الورد، وتمتع باصريتك في مسالكه بأكمام الزهور، وتتسمع في أجوائه إلى أناشيد البلابل الثائرة الخافقة. انك بالأدب تحيا حياة طيبة راضية، تحيا حياة موسعة (مضاعفة) تحسها في أعماق قلبك، وفي رجع شهيقك وزفيرك!
إن العطف والألفة قوام الهيئة الإنسانية، فلا ينعم امرؤ بالانفراد ولا يهنأ بالوحدة، وأحسب لو أن الناس جميعا كانوا فجرة خسرة لا يجوز منهم إلى جنة الله غير رجل واحد لكان هذا الرجل الصالح أنكد حظا وأسوا مقاما ممن هم على النار يتقلبون! كأني أراه في جنبات الفردوس وعلى ضفاف الأنهار يمشي على غير هدى وإلى غير غاية حتى تبلى قدماه، وينظر إلى أفاويق النعيم وألوان الجمال فتبدو له كئيبة محزونة، ثم يرتمي في الجحيم الصالي يفضله على هذا النعيم الذي لا يرى فيه من يقول له: ما أرغده! ويحب ذو النعمة الحسد، ولو نزع من الصدور لاشتراه وفرقه على الناس مجانا ليحسدوه على ما به من نعمة! ويرتاح العاشق إلى من يتحدث إليه عن فرحة حبيبة وغضبة عذولة. . . فالسعادة كما ترى لا تتم حتى تستجلي مثالها في المرآة، والإنسان لا يطرب حقا إلا إذا رأى كلا م النفس مسطورا على قطعة من طرس
فما دام التعاطف عماد الحياة فلن يوجد بغير تعبير، لأن الحياة لا يمكن أن تكون بغير أدب؛ تصور أمة تتملى في نفسها شعورا ساميا: هذا تطمح آماله إلى السيادة، وهذا يدفعه حب الخطر إلى جوب البحار ومجاهل الأرض، وذاك تترع قلبه بهجة الجمال وفتنة الحسن؛ تصور أمة تجيش في نفوس أبنائها مختلف الميول والأهواء ملحة قاسية، مكتظة دافقة؛ أفتستطيع أن تتمثلها حريبة من الأدب؟ أما أنا فلست أعرف أمة حية لم يكن لها أدب جميل؛ فان أمة لا تعرف الشعور مكتوبا لا تعرفه محسوسا
فالأدب كما ترى ليس حلية تزين بها الأمة جيدها، وليس هو ألهية من الألاهي كما يزعم الأستاذ شفيق جبري لأنه لو كان كذلك لانتظم في سمط الكماليات، والأدب إنما هو ضرورة من ضرورات الحياة، وشرط لازم لها، لا يمكن تخيلها ولا تكمل سعادتها بدونه
ما ينبغي أن يكون الأدب ألهية من الألاهي نعبث بها على ما تقتضيه المآرب وترتضيه الأهواء، فان الشر كل الشر في هذه النظرة الخاطئة، ذلك بأن الألهية تصدفنا عن جليل الحياة وعظيمها، وتدفعنا إلى عالم البطالة نلهو ونعبث؛ فإذا نحن رحنا نصور ذلك ظفرنا بما لا خطر فيه ولا قيمة له، ونكون كمن فاز بالقبض على الريح. واعتبار الأدب ألهية يهيب بالمتأدب إلى أن يتحرر من ربقة الجد واللمحة الصادقة، فيهذي لغوا تقرؤه العقول في ساع كلالها وفتورها، أو يستمع الناس إليه كما يستمع الوالدان إلى ولدهما المحبوب وهو يلثغ بالألفاظ والكلمات، فإذا كذب أو أخطأ أو مسخ الحقيقة أو شوه الفضيلة غفر له ذلك
ولعل في النظر إلى الأدب كألهية مدعاة إلى التزويق في البيان، والإكثار من المحسنات البديعية من جناس وتورية وطي ونشر، فينعدم الطبع ويغدو الشعر مجموعة من الألاعيب اللفظية والتهريج الكلامي. والحق أننا بلغنا في هذا غاية ننكرها ونأسف لها، فنحن ما نزال نخطئ في تقديرنا للشعر، وفهمنا للمعاني، ونقدنا لفنون القول والبيان، وما نزال بسطاء سذجا تخدعنا البهرجة الكاذبة والطلاوة العابثة، وتفتتنا الألاعيب اللفظية والأناقة الكلامية، وترانا على ثقافتنا وجلال نهضتنا نجهل كل الجهل مقاييس الأدب الصحيحة، وحدود الجودة والرداءة، ومواطن الجمال والدمامة، نستحسن ما تغثى منه النفس وما هو حقيق بالنبذ والإهمال، ثم نستقبح ما قد يكون في الذروة من البلاغة الرائعة! فما أحوجنا إلى إصلاح هذه النظرة العقيمة التي نزن بها الآثار الفنية، وتصحيح الذوق الأدبي المقلوب! وما أفقرنا إلى من يأخذ بأيدينا إلى النماذج الحية فيدلنا على قوتها وحسن تمثيلها، وإلى السخافة المرذولة فيرينا وجه ضعفها وعبثها! وعندي أن كل إنتاج في الأدب لم يبدأ بهذا الإصلاح على هذا النحو فإنما هو محاولة فاشلة فائلة، ومضيعة للجهود المبذولة في غير طائل. . .
لقد كنا إلى عهد قريب أمواتا نرتدي معالم الأحياء، أمواتا في حسنا وشعورنا وتفكيرنا، أمواتا في أهدافنا ومثلنا العليا، أمواتا في نظمنا ومراقفنا الاجتماعية، أمواتا في كل شيء لا يسمع لنا نبض ولا خفق حياة. كنا أحياء نعيش في العدم أو يعيش العدم فينا، كأن الغيب الجليل الهازل قد قذفنا من جوفه جثثا هامدة تغدو من المهد في لحد ومن اللحد في مهد! فأنت، إذ تدرس الأدب العربي في هذه الفترة الغافلة من الزمان التي دامت ما يقرب ألف عام، لا تجد أثرا لما يعتلج في النفوس الخافقة من ضروب العواطف وشتى الانفعالات، وما يجري في الهواجس من الأحلام والأوهام، وما ينتاب الضمائر من قلق أو يأس أو ألم، وإنما تلفي أدبا فارغا أجوف يفيض بالإحساس المعكوس والإسفاف المخل والصناعة البديعية أو التدجيل الذي يعتمد على الطباق والجناس والمقابلة وما إليها! وحسبك أن تقرأ شعر أبن نباتة وأبن معتوق والحلي لتلم بطرف من شعر اللفظ البالي الهزيل الذي يحبس المعاني المشبوبة في أضيق الآفاق!
ثم اتصلنا بالغرب في يوم إسماعيل وبعده، وكان اتصالا وثيقا تناول بالتغيير بعضا من العادات والأوضاع المعيشية، وكثيرا من طرائق التفكير والتعليم؛ وكان للآداب من هذا التطور نصيب وافر، فإن المتأدبين الذين درسوا في معاهد أوربا عادوا إلى ديارهم بعد ذلك يحملون رؤوسا وقلوبا غير التي كانوا يحملون، ذلك بأنهم تذوقوا أشتاتا من الأدب الحي، وبلوا شخصيات من الشعر متمايزة، وفقهوا أساليب النقد الحديث، ولما أرادوا القيام برسالة (الحياة) شرعوا في الهدم وإزالة الأنقاض وتنبيه الأمة إلى مواطن النقص والهزل والكذب
هذا جماع ما يعتري الأدب في اعتباره ملهاة وتسلية؛ ولو أننا شئنا التمثيل لأتينا بهذا الغرض الوضيع الذي يكاد يكون كله غلوا وعبثا، ذلك هو المدح، ومن البديهي أن يكثر فيه الغلو البشع لأن الممدوح ليس يرضى إلا إذا خلعت عليه صورة ترفع من قدره وتعظم من شأنه، ولأن المادح إنما جل همه التكسب والاستجداء. فلا بد إذن من المبالغة والكذب في الإحساس والتوشية المموهة، ولذلك كان المدح من أنواع الأدب الرخيص
وإنما الأدب العالي الرفيع تصوير لما يتردد في أطواء النفس من النزعات والمشاعر، وترجمة لما يجول في الخاطر من الهواجس والأحلام، أو لغير هذا من صروف الحياة وأحداثها - يرسم الشاعر ذلك كله لا هازلا ولا عابثا وإنما جادا كل الجد، صادقا تمام الصدق مخلصا أوفي الإخلاص!
ارجع إلى نفسك حين تكتب، فخذ عنها واستوحها، وليكن لك من صدق إحساسك ودقة تأملك وصفاء بصيرتك ما تكشف به عن ألوان الحياة النامية الزاخرة التي تسعى في تلافيف قلبك وثنايا ضلوعك بحيث تجد لها صورتين: أولاهما في الضمير وأخراهما على القرطاس. فلن يكون الأدب أدبا إلا إذا صدر عن صاحبه كما تصدر الزفرة عن فؤاد المصدور والدمعة عن عين المحزون؛ وإذا بهرك أن الشاعر أو الكاتب يبدع في التصوير ويسمو في البيان فينبغي أن تؤمن أن الرجل إنما يذيب من لحمه وعصبه، ويريق من مائه ودمه في سبيل الفن والأدب! والاستحسان إنما يجب أن يكون في إطار هذا الأدب السامي الرفيع يرسله المبين لا خادعا ولا مشعوذا وإنما مصورا مشاعره البينة النيرة ونزواته الخفية المكبوتة. فأنا إذ أنقد أنظر إلى إحساس الشاعر هل كان نافذا عميقا؟ وإلى نظرته هل كانت عامة شاملة؟ ثم إلى تعبيره هل كان فيه مجيدا موفقا؟ فإذا تبين لي هذا كله على نحو ما أريد استحسنت وفضلت، وأنا محق فخور في استحساني وتفضيلي. وقد يكون من الخير أن نضرب لذلك مثلا نوضح فيه هذا الذي نزعم، فقد تغني الأمثلة عن تقرير القواعد النظرية والشروح المستفيضة
ما اختلف عربي إلى جامع بني أمية في الشام إلا أخذته حالة نفسية خاصة ببقايا المجد والعظمة، يحسبها في أطوائه غامضة مبهمة، كئيبة متحسرة! فإن كان مبينا فصيحا وشاء نشرها وتوضيحها لم يزد على قول أمير الشعراء:
مررتُ بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت ... على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان!
هذه أبيات صادقة لا تمويه فيها ولا تضليل، نظمها الشاعر في قالب رائع جميل، ولعل في بسط الحزن على المسجد ما يضاعف هذه الروعة التي لا تلمحها في الكلمات منفردة، وإنما تلحظها منبثقة من خلال الاتساق والانسجام. إنه ليحلو لي هذا التساؤل عن مروان، وهذا الترجيع للمحزون فاقبع في مكاني هامسا في خفوت (وا حسرتاه على شوقي!)
ولنتأمل - في روية وإنعام - صورة هذا العزيز المهان التي يعرضها علينا شوقي: بنت فرعون في السلاسل تمشي ... أزعج الدهرَ عريُها والجفاءُ
وأبوها العظيم ينظر لما ... رُدِّيت مثلما تُردى الأماءُ
أُعطيتْ جرة وقيل إليك النهـ - ر قومي كما تقوم النساءُ
فمشت تظهر الأباء وتحمي الدمـ - عَ أن تَسترقه الضراءُ
فبكى رحمة وما كان من يبـ - كي، ولكنما أراد الوفاءُ!
ما أريد أن أتناول هذه الصورة الشعرية الرائعة بالتحليل أبين مواضع قوتها وجمالها، فأنني إن لمستُها أخشى تشويهها والحط من شأنها، فحسبي وحسب القارئ تلاوتها في هدوء نتملى معا حلاوتها ونستشعر نضارتها. . إنما أطلب في رفق ولين، إلى الشباب الناهض، أن ينظر الأدب بعين الجد والصدق حتى ينتج مثل إنتاج شوقي الخالد
حمص (سورية)
محمد روحي فيصل