مجلة الرسالة/العدد 110/للأدب والتاريخ
→ إلى الشباب الناهض | مجلة الرسالة - العدد 110 للأدب والتاريخ [[مؤلف:|]] |
دراسات في الأدب الإنكليزي ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1935 |
3 - الرافعي
بقلم تلميذه وصديقه
الأستاذ محمد سعيد العريان
تتمة
أيمانه:
والرافعي رجل مؤمن إيمان فكر وعقيدة، تشرق قلبه وعقله حقائق هذا الدين، فهي كأنما تأتيه تلتمس في كتابته وشعره حياة تكون بها في الناس معنى يقدرون على فهمه، إذ لا يستطيعون أن يفهموه بأنفسهم، فمن ثم تراه حين يكتب عن الدين يتدفق تدفق البحر، وتتدافع معانيه تدافع الموج، وتزدحم أفكاره ازدحام اللجة؛ ومن هنا تغمض معانيه على بعض من لم تشرق حقائق هذا الدين على روحه وفكره
وما سهل أن تجد كاتبا غير الرافعي يكتب بهذا الأسلوب في هذه المعاني؛ فأنك لترى إيمان أكثر من تعرف، فكرة يستبد بها العقل المتقلب، فهو إيمان متقلقل يتنازعه الشك، لا يأخذ ولا يدع إلا بحذر؛ أو تراه إيمان عقيدة موروثة تستبد بصاحبها استبداد الجهل والتقليد، فهو إيمان جامد، لا يأخذ ولا يدع إلا ما أريد على أن يأخذ وأن يدع. وقلما تجد غير هذين من يؤمن إيمان الفكر والعقيدة معا؛ ولو قد وجد من يؤمن هذا الأيمان، لرأيت الإسلام ينبعث اليوم كأوله، ولعادت المعجزة الإسلامية تكتب فصلا جديدا في تاريخ الإنسانية
والرافعي بأيمانه ذاك ينقاد للمقدور انقياد الطاعة، واثقا أن لا مفر للإنسان مما قدر عليه؛ فلا تراه يتبرم أو يتسخط لشيء يناله، وتسمعه يقول: (جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين، ونذهب غير مخيرين، إن طوعا وإن كرها؛ فمد يدك بالرضى والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت، فأنك على الطاعة ما أنت على الكره، وعلى الرضى ما أنت على الغضب؛ ولن تعرف في مذاهب القدر، إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه؛ فقد تكون مقبلا والمنفعة من ورائك، أو مدبرا والمنفعة أمامك، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء. وحري يمن يوقن أنه لم يولد بذاته، ألا يشك في أنه لم يولد لذاته، وإنما هي الغاية المقدورة المتعينة، فلا الخلق يتركونك لنفسك، ولا الخالق تارك نفسك لك. . .) فمن ثم ترى الرافعي دائما يحسن الظن بالغد ويراه خير أيامه، فهو يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذة يشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيرا يترقبه ويهيئ له، وهو يفصح عن ذلك المعنى في مقالاته: سمو الفقر، وحديث قطين، وبين خروفين، والانتحار، وكتاب المساكين، أدق إفصاح وأبلغه
ولعل أحدا لا يعرف أن الرافعي لا يرى في تلك العلة التي أودت بسمعه وهو غلام بعد، إلا نعمة هيأته لهذا النبوغ العقلي الذي يملي به في تاريخ الأدب فصلا لم يكتب مثله في العربية منذ قرون. ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض، يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن، فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . .
حياته الخاصة:
وبعد، فأنا قد رأيت الرافعي يكتب، وجالسته وهو يفكر، وجلست إليه ليملي علي، وصحبته في غدواته وروحاته، وأشركني في مطالعاته، وأخذ مني وأعطاني؛ فمن حق العربية علي أن أصف بعض ما أستطيع مما رأيت
وحياة الرافعي بسيطة كل البساطة؛ فهو في أشيائه بعيد كل البعد عن التأنق، ولا يعتد بالعرف اعتدادا كبيرا. تراه في الديوان، وفي البيت، وفي الشارع، وفي القهوة - رجلا كبعض من تعرف. ولو أنك ذهبت إليه في الديوان، ورأيته جالسا إلى مكتبه، يوقع على هذه الورقة، ويراجع تلك الحسبة، ويحادث الناس ويحادثونه. . . لشككت أن يكون هذا هو الرافعي؛ وقد يميز مكتبه عن مكاتب غيره من الموظفين بضع صحف مركومة إلى جانب، أو كتاب جديد مستند إلى كتاب، على أنه في عمله معروف بشدته وعنفوانه، وكثرة دلاله أيضا. . .!
وفي البيت قلما تجد الرافعي إلا جالسا إلى مكتبه مطالعا أو كاتبا، وتكاد غرفة كتبه أن تكون كل نصيبه من الدار. . . وله صبرا عجيب على العمل؛ فهو حين يجلس للمطالعة قد يظل ثماني ساعات لا يزايل موضعه. ولا يسهر خارج الدار عادة إلا ليلة أو ليلتين في الأسبوع، وسائر لياليه عمل مستمر في الكتابة أو المطالعة؛ ويندر أن يأوي إلى فراشه ليلة قبل الثانية عشرة؛ وقد كان له عناية كبيرة بالرياضة البدنية إلى عهد قريب، وهو يحاول معظم تمرينات (صاندو) الرياضي المشهور؛ وترى صورته قريبة من مكتبه، إلى جانب صورة محمد عبده، وجمال الدين، و. . . وملكة الجمال التركية كريمان هانم خالص. . .!
وهو لأولاده أخ أكبر، لا يدخل أحدهم إليه في مكتبه لأمر إلا داعبه بكلمة عذبة أو إشارة لطيفة، ولكنه قلما يدخل إليه أحد منهم إلا إذا دعاه، لتخلو له جلوته
وإذا أراد الرافعي أن يسهر ليلة خارج الدار؛ فليس إلا في السيما أو القهوة، وذهابه إلى السيما عمل أدبي أيضا. . . فهو لا يميل إلا لمشاهدة نوع خاص من الروايات الفنية، يكون له منها مادة وحي. . .
وحتى في القهوة لا يريد أن يمضي وقته عبثا؛ فلابد من صحف أو كتب أو مجلات، يمضي بها الوقت، أو يفرغ منها مع الوقت؛ فتراه مكبا على كتابه، وفي يمينه قلم يشير به إشاراته، وفي يساره لي الكركرة، وفمه إلى فمها يبادلها أنفاسا بأنفاس. . . فإذا فرغ من الكتاب ومن الكركرة أقبل على جليسه بحديث عذب، أكثره دعابة وأقله هزل. . . وإذا أردت أن تستمع إلى الجد الهازل، أو الهزل الجاد، فاجلس إلى الرافعي لحظات. . .
ولصوته رنة عذبة، كانت حبسة من مرض فعادت لحنا من الموسيقى؛ فأنت تميّز صوته بلهجته ورنينه بين مئات الأصوات. ولو سمعت الرافعي خطيبا لما حسبته هو الواقف أمامك يخطب؛ فإن صوته يعلو ويعلو، ويمتد امتداده في الجهات الأربع، ثم يعود إليك عود الصدى من مكان بعيد، أرن أغن مندفعا متحمسا ينسيك الزمان والمكان والناس، فإذا أنت حيث يريد أن ينقلك. ولكنك مع الأسف قلما تسمعه خطيبا، لأنه يجهد في الخطابة جهدا كبيرا يبلغ منه. فهو لا يخطب إلا حين يدعو نفسه أو يدعوه الموضوع، فيحمل نفسه على ما يكره. . . فإذا دعوته أنت أنكر على نفسه أنه خطيب؛ ومن أين له أن يعرف. . .؟
وفي الرافعي كثير من الاعتداد بالنفس بقدر ما فيه من التواضع، ولا أحسب أحدا يؤمن باجتماع هاتين الصفتين فيه من جلسة واحدة، فقد يستقبلك لأول ما يعرفك بدعابة أو نادرة، أو ينصرف عنك إلى كتابه، أو يقبل عليك في صمت وأنت تتحدث إليه، أو يأخذ عليك أشتات الحديث فلا يدع لك أن تتكلم، فتنصرف وما عرفت إلا لونا واحدا من أخلاقه. وجلساء الرافعي قليلون على كثرة من يعرفهم ويعرفونه.
كيف يكتب؟ وهو حين يهم أن يكتب، يختار موضوعه، ثم يتركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته، ويدعه كذلك وقتا ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره؛ لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في الموجود الذي يراه صوتا يسمعه، وكأن لما يسمعه لونا يراه، وكأن في كل شيء شيئا زائدا على حقيقته، يملي عليه معنى أو رأيا أو فكرة
فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف، يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى وجملة إلى جملة، وهذه هي الخطوط من هيكل المقالة
ثم يعود إلى هذه الخواطر المرتبة، ينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، وينفلق له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها
ولا تراه حين يكتب أو يملي ينظر إلى أصول المقالة بقدر ما ينظر في أعماق فكره إلى ما يتصل بمعنى ما يكتب؛ فقد يكون المملى منه صفحة أو صفحتين، فيملي صفحات وصفحات
ومذهبه في الكتابة إعطاء العربية أكبر قسط من المعاني؛ فهو لا يكتب الكتابة الصحافية السوقية، لأن الهدف الذي يرمي إليه هو أن يضيف ثروة جديدة إلى اللغة. ولن تجد كاتبا غير الرافعي يجهد جهده فيما يكتب فلا يحاول مرة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغا يريد أن يمتلئ
وميزة أخرى تراها في كتابة الرافعي، هي أنه لا ينحرف مرة واحدة عن مذهبه في المادة والموضوع، فهو هو منذ كان إلى اليوم، لم يرجع عن رأي رآه، أو يناقض نفسه في منهج ابتدعه، وهذا بعض أسرار الإيمان في هذا الرجل الذي لم يغالط نفسه قط
وله فلسفة خاصة به، تعرف فيها طابعه وخلقه ومزاجه، على حين ترى أكثر فلسفة المتفلسفين من أدبائنا مزقا مرقعة من آراء فلان وفلان. . . وإني لأشهد أن هؤلاء أكبر من أي فيلسوف في الأرض، لأنهم وعوا في رءوسهم آراء كل فلاسفة الأرض. . . ثم لم يزيدوا. . .!
وحظ الرافعي من لغة العامة كحظه من الفرنسية. . . فأكثر لغته من الكتب، وقد استغنى بالاطلاع عن الرواية، وبالقراءة عن المدارسة والاستماع؛ وهو مع ذلك قد يصنع أغاني شعبية بديعة، بالغة الغاية في بلاغة العامية، من دون أن ينحرف في ذلك عن أسلوبه في البيان العربي وطريقته في توليد المعاني؛ ولعل قراء (الرسالة) لم يزالوا يذكرون له (أغنية الزبال!) وتراه إذ يحاول أن يصنع شيئا من ذلك يرجع إليّ ليسألني عن كلمة أو تعبير مما ينطق العامة؛ فأقوم حينئذ منه مقام قاموس العامية. .
وهو مع ذلك لا يرى أكثر ما تكتب الصحف إلا عامية راقية. . . فهو يشكو دائما الجو العامي الذي يحوطه، فكيف به لو كان يسمع لغو الناس. . .؟ ومن ثم لا يهم الرافعي أن يكتب إلا حاول جاهدا أن يتخلص من هذا الجو الذي كان فيه، فيرجع إلى بعض كتب العربية يقرأ منها صفحات كما تتفق، ليعيش لحظة قبل الكتابة في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب كتابات الجاحظ وابن المقفع. وأحب الكتب إليه من بعد، كتاب الأغاني لأبي الفرج
ولكتابة الرافعي جرس موسيقي خاص تتميز به، حتى ما يمليه على عجل بلا إعداد ولا توليد؛ وكثيرا ما يملي بلا إعداد صفحات وصفحات، وقد أملى عليّ مرة مقالاً طويلاً في الرد على بعض الأدباء، استغرق تسعة أعمدة من صحيفة يومية، على حين لم يستغرق إملاؤه ساعات؛ ولعل تعبي في كتابته كان أكثر من تعبه في إملائه. . .!
والرافعي على ما يبدع في كتابته، لا يرى ما كتبه يرضيه بعد الفراغ منه بساعات، فهو دائما يطلب الأعلى؛ وهو نوع من التواضع ونوع من الطموح في وقت معاً. . .!
ويتهم الرافعي بالغموض أحياناً؛ وليس ثمة غموض فيما يكتب إلا عند من لم يتزود من الأدب الصحيح، أو يتعود قراءة أدب الرافعي؛ على أن كتابته في مجموعها لاتصل إلى نفس قارئها إلا أن يقرأها قراءة الشعر، بعقله وروحه، لا قراءة القصص والروايات، يفتش بعينيه بين السطور عن معنى يسليه، أو حادثة يزجى بها الفراغ. . . ونصيحتي إلى الذين يطلبون التسلية في الأدب، ألا يقرءوا كتب الرافعي، فإنها لن تجدي عليهم شيئا. . .!
وقد يطلب إليه الكثير من ناشئة الأدب أن يجعل أدبه أهون مما هو أو أقل دسما، فيأبى أن ينزل إلى ذاك؛ ومذهبه أن يحاول جذب الجمهور إلى أعلى، بدل أن يتدلى هو إلى الجمهور، وأن يكتب ما يرضي الفن لا ما يرضي الناس. على أنه لو أراد الرافعي أن ينزل لما استطاع أن ينزل إلا أن يصير شيئا غير الرافعي لأنه على مقدار عمق الفكرة، يكون عمق الصورة اللغوية التي تتأدى بها، ولن يستطيع كاتب من الكتاب - فيما أرى - أن يرضي الفن ويرضي الجمهور في وقت واحد، حتى لو كان يكتب بلغة العامة، فان الكتابة لغة وفكر، أفتراه أن كتب بلغة العامة، يكتب أيضا بأفكار العامة. . .؟
وقد أخذ الرافعي منذ أكثر من عام يكتب في (الرسالة) نوعا أحسبه جديدا في الأدب العربي، جمع إلى الرافعي طائفة من القراء لم يكونوا يقرؤون له، وعرفه إلى الذين لم يكونوا يعرفونه إلا من خلال ما يكتب عنه خصومه. ولا أدل على قيمة هذه المقالات، من ترجمة بعضها إلى غير العربية، على ما في ترجمة كتابة الرافعي من عنف ومشقة!
وأذكر أن بعض المستشرقين في الألمان يعنى بوضع كتاب بالإنجليزية عن (زعماء الأدب العربي الحديث) بمعاونة الأستاذ طاهر الخميري المغربي، وقد وضع الجزء الأول منه عن خمسة من كبار كتابنا، فلما قرأ مقالات الأستاذ الرافعي في (الرسالة)، كتب إليه منذ قريب رسالة طويلة يثني عليه ثناء بالغا، ويعده بأن يصحح أغلاطه في الجزء الثاني من الكتاب. . . .!
الرافعي القصصي:
لم يكن الأستاذ الرافعي معروفا بكتابة القصة، حتى جاءت قصصه في (الرسالة) برهانا على نوع جديد من عبقريته، وهو يروي أكثرها عن السلف من الأئمة والخلفاء، فما منزلة هذه القصص من الحقائق التاريخية؟. . . هذا سؤال أحسب الكثير من القراء ينتظر الجواب عنه؛ ذلك لأن كثيرا منهم لا يرى للرافعي فيها يدا إلا أن يجليها لوقتها. وأي يد هذه. . .؟
وطريقة الرافعي في كتابة هذا القصص غريبة، فمعظمه لا أساس له من الواقع، أو أن له أساسا لا يلهم هذه القصص الطوال البديعة في خيالها وموضوعها وفنها، وإنما هو يفكر في موضوع الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في تأليف مقالاته - فإذا انتهى إلى ذلك تناول كتابا من كتب التراجم الكثيرة بين يديه، فيقرأ منها ما يتفق حتى يعثر باسم ما، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه، ومجالسه، ثم يصنع من ذلك قصة لا تزيد على سطور، يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل، وإنه ليلهم أحيانا ويوفق في ذلك توفيقا عجيبا، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ، وما للتاريخ فيها إلا سطور، أو إلا أسماء الرجال. . . .
على أن وجه الإبداع في ذلك، هو قدرة الرافعي على أن يعيش بخياله في كل عصور التاريخ، فيحس إحساسه ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك من يقرؤها في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء. . . .
فليزدنا الرافعي من هذا الباب ليعرف دعاة الجديد أي رجل هو من رجالات العربية، وما أشك أن هذا النوع من الأدب سيكون له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب الحديث
أراني قد أطلت وما استوفيت، على أني ما قصدت إلى دراسة الرافعي، وإنما هو إلمام سريع ببعض جوانبه، على مقدار ما يتهيأ في الذاكرة من الخواطر لوقتها، فمعذرة، وإلى اللقاء بعد جمام. . .
(طنطا)
محمد سعيد العريان