مجلة الرسالة/العدد 110/التطور والتقليد
→ عاقبة سليمة | مجلة الرسالة - العدد 110 التطور والتقليد [[مؤلف:|]] |
إلى الشباب الناهض ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1935 |
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
التطور والتقليد، أو التجديد والمحافظة، عملان خالدان يعملان جنبا لجنب ويتنازعان كل كائن حي من فرد أو مجتمع أو نظام أو نحوه. فهما يتنازعان كل أدب حي؛ وقد كان لكل من الأدبين العربي والإنجليزي نصيب من كليهما، غير أنا إذا دققنا النظر رأينا أن الأدب العربي كان أوفر حظا من التقليد أو المحافظة أو الاتباع، بينما كان الأدب الإنجليزي أوفى نصيبا من التطور والتجديد والابتداع
تطورت لغة الأدب الإنجليزي وأسلوبه: فهما اليوم يخالفان ما كانا عليه في عهد شكسبير مخالفة كبيرة، وتطورت أغراضه عامة: فصار اليوم أشد اتصالا بالمجتمع أخذا منه وتأثيرا فيه، وتطورت أشكاله: فظهرت فيه على التتابع المقالة الدورية والصورة والترجمة والقصة الطويلة والقصيرة
وتتابعت مذاهبه: فخلت المدرسة الرومانسية التي ازدهرت في عهد اليزابث، وكان شكسبير وسبنسر من أينع ثمراتها؛ وكان الخيال ووقاع البطولة وحياة الملوك والأمراء والقواد وقصص الأولين وخرافتهم مداد نظمها ونثرها؛ وتلتها المدرسة الدينية التي أطلعت ملتون وبنيان اللذين كانت أمور الدين وأخبار البعث والحساب والخلود مدار كتاباتهما؛ ثم كانت المدرسة الكلاسية في القرن الثامن عشر فافتتن زعماؤها في الشعر أمثال درايدن وبوب، وفي النثر أمثال أديسون وستيل، بمحاكاة الآثار الكلاسية القديمة من إغريقية ولاتينية في حسن الصياغة وإحكام الأسلوب؛ ثم أعقبت هذه مدرسة رومانسية أخرى في مستهل القرن التاسع عشر كان من أقطابها وردزورث وشلي وكيتس، فنبذت الاهتمام بتنميق الأسلوب وأطلقت لخيالها العنان؛ وفي أواسط ذلك القرن قامت المدرسة الواقعية تحد من ذلك الخيال الجامح وتربطه برباط الواقع، وكان من رجالها تنيسون ثم هاردي.
وكانت كل مدرسة من هذه المدارس الأدبية مرآة للحياة في عصرها: فمدرسة شكسبير كانت مرآة عصر الاستكشاف الجغرافي وكشف كنوز الأدب القديم، والمخاطرات والمغامرات في الكشف والقتال. ومدرسة ملتون الدينية كانت مرآة عصر التشدد الدين الذي كان زعماؤه (المطهرين)؛ والمدرسة الكلاسية المنمقة الأسلوب كانت صدى لمجتمع القرن الثامن عشر المنمق الآداب والأقوال المتهافت على حياة المدن المزدري بمظاهر الطبيعة؛ والمدرسة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر كانت تعبيرا في عالم الأدب عما عبرت عنه الثورة الفرنسية إذ ذاك في عالم السياسة: من نزعة إلى التحرر من قيود المجتمع وأغلال الفكر والعودة إلى الطبيعة ما أمكن؛ والمدرسة الواقعية التي تلت ذلك كانت متأثرة بالاستكشافات العلمية البعيدة المدى التي شهدها القرن الماضي. وقد تتابعت هذه المدارس جيلا بعد جيل وكانت كل واحدة منها ثورة على سابقتها تحاول إصلاح معايبها وتدارك ما أهملته
هكذا تطور الأدب الإنجليزي مع تطور السياسة والعلم والدين، وكذاك تطور الأدب العربي: فلغة الجاهلية الوعرة تلتها لغة صدر الإسلام الفحلة، فللغة الصدر العباسي الجزلة، ثم جاءت بعد ذلك لغة لينة مبالغة في اللين والأناقة، والأسلوب المرتجل المرسل تلاه الأسلوب الفني المتعمل المرصع الذي تزايد تعمله وترصيعه شيئا فشيئا؛ وتطورت أغراض الأدب وشملت من أسباب الحضارة ما لم تشمل قبل: من شؤون الإمارة ومظاهر الترف وآثار العلم والفلسفة؛ وتطورت أشكاله: فظهرت كتب التراجم والأخبار والنقد والمقامات والرسائل المطولة. فالأدب العربي قد تطور تطورا عاما اتجه إلى ترقيق العبارة وتوسيع أغراض القول، وكان مرجع هذا التطور العام هو تحضر أبناء العربية واشتغالهم بالعلوم
ولكنه تطور عام غير محسوس كتلك التطورات السالف ذكرها في مجرى الأدب الإنجليزي؛ ومعظم أغراض الأدب العربي وصفاته توورثت جيلا عن جيل: فأغراض الفخر والمدح والهجاء والرثاء ونحوها في الشعر ظلت أبوابا ممتازة محددة يتبارى الشعراء في تناولها ولا تتم لأحدهم البراعة حتى يطرق كلا منها؛ وكتب الأخبار الأدبية والتاريخية المختلطة ظلت على وتيرة واحدة من أول ظهورها لا يختلف بعضها عن بعض في طريقة البحث والسرد وتهذيب الأبواب والفصول
ولا غرو فقد كانت تحيط بالأدب العربي ظروف كلها تدعوا إلى المحافظة والتقليد: فالمجتمع العربي ذاته كان مجتمعا محافظا لم يكد يطرأ عليه جديد من الأفكار والأنظمة بعد تشبعه بحضارة الأقدمين وعلومهم، ولم يختلف عليه من الأحداث الاجتماعية والسياسية ما تترك صداها في الأدب: فقد كانت القصة من أولها إلى آخرها على وتيرة واحدة: أسر وأمراء يتوارثون الحكم ويتجاذبونه، وأمم مكفوفة عن شؤون الحكم إلا أن تثور ثائرتها في الفينة بعد الفينة فتقمع وتعود الأمور إلى وتيرتها، وما من نزعة جديدة أو اتجاه جديد يحول عنان الأمور إلى غير ما هي سائرة فيه
والأدباء أنفسهم كانوا منعزلين بآدابهم عن مجتمعهم قلما يعبرون عن أمانيه أو يحاولون قيادته، وكانوا أقرب مكانا إلى الأمراء منهم إلى صف الشعب، لأنهم كانوا يعتمدون على الأولين في معاشهم
ثم إن قيام الإمبراطورية الإسلامية أدى من بادئ الأمر إلى نتيجتين كانت كلتاهما ذات أثر بالغ في الأدب العربي، وكانتا عاملي محافظة وتقليد فيه: وهما فساد اللغة الفصحى تدريجيا، ودخول الأعاجم في اللسان العربي
فان فساد اللغة تدريجيا جعل الأدباء يحتذون دائما حذو المتقدمين من العرب الأقحاح، ويتخذون من كلامهم نماذج وشواهد، وصار حسب الشاعر المتأخر أن يجاري المتقدمين في جزالة القول وإحكام النسج ليكون قد بلغ مبالغ الشاعرية، ولا يكاد يخطر له أن يبرز على أولئك المتقدمين ويبتكر ما لم يعرفوا، وهو وإن لم يرد إلا محاكاة أسلوبهم إلا أن ذلك مؤديه حتما إلى محاكاة أفكارهم، ومن ثم التقليد والمحافظة
والأعجام الذين دخلوا في اللسان العربي انكبوا كذلك على دراسة المتقدمين وانصرفوا إلى محاكاتهم تقويما لعربيتهم وطلبا لأسرار اللغة وقواعدها؛ ولا يخفى أن كثيرا من أقطاب الأدب المتأخرين كانوا من هؤلاء الأعجام المستعربين، فكان تأثيرهم في الأدب تأثير محافظة وتقليد ونظر إلى القديم
وقد تزايد تبجيل كل ما ورد عن المتقدمين حتى قارب منزلة التقديس وإن قام من الأدباء من ينكره ويثبت الفضل للمتأخرين، وكان من آثار هذا التقديس وهذه المحاكاة الدائبة ما نرى في الأدب العربي دون غيره من الآداب من ظواهر بتراء ليست من التعبير عن الواقع ولا من الابتكار في شيء: كالغزل الاستهلالي، وذكر الإبل والحداء والبيد، ومعارضة القصائد المشهورة بمماثلاتها في الغرض والوزن والقافية وهناك بابان من أبواب الشعر كان مجرد بقائهما عامل تقليد ومحافظة في الأدب: هما المدح والهجاء المتكلفان طلبا لصلات الممدوح أو لهبات خصم المهجو، فقد كان الشاعر مثلا يمدح قائد الخليفة أو وزيره مادام مرضيا عنه، فان نكب تقرب الشاعر إلى الخليفة بذمه؛ وقد كان أكثر المدح والهجاء من هذا النوع المتكلف المستمنح، وما لم يصدره الشاعر عن شعور حقيقي فسبيله فيه أن يحاكي ويأخذ ممن تقدم نقصا وزيادة وتخريجا وتوليدا، لذلك ظلت معاني المدح والهجاء وتشبيهاتهما في مختلف العصور تحوم حول أقوال المتقدمين، وأثر هذا جلى في جمود الأدب وتقيده بالقديم بدل اتجاهه إلى مناح جديدة
ثم هناك عامل كبير بين عوامل محافظة الأدب العربي، هو اعتزال ذلك الأدب غيره من الآداب، فالأدب ككل كائن حي يجمد ويتضاءل إذا لم يتصل بغيره، فتتجاوب الاحساسات والأفكار، وقد كان من أكبر عوامل رقي الأدب الإنجليزي وتطوره اتصاله بالآداب المعاصرة ورجوه إلى الآداب الكلاسية، أما الأدب العربي فلم يكن له مرجع عدا ماضيه، فظل دائما ينظر إلى الخلف بدل أن ينظر إلى الأمام، ولو استفاد من الأدب الإغريقي مثلا لكان له تاريخ غير تاريخه المعروف
كل هذه عوامل سياسية واجتماعية وأدبية أدت إلى ضعف رغبة التجديد واستفحال نزعة التقليد في الأدب العربي، ومن ثم ظل طوال العصور يردد ألحانا بعينها حتى بلغ ما يمكن أن يبلغه مثله من الرقي، ثم انحدر في طور تدهوره الطويل، وكان من أكبر عوامل هذا التدهور تغلب نزعة التقليد فيه على نزعة التطور.
فخري أبو السعود