مجلة الرسالة/العدد 1020/ذكرى الدكتور مشرفة
→ رأى المصلحة في الصلح، لسآمة العسكر، وتظاهرهم | مجلة الرسالة - العدد 1020 ذكرى الدكتور مشرفة [[مؤلف:|]] |
الرسالة وإصلاح الأزهر ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1953 |
أول عميد مصري لكلية علوم فؤاد
للدكتور عطية مصطفى مشرفة
دار الفلك دورته وتعاقبت الأيام والليالي فنسخ منها الزمن سنة
أخرى؛ ففي مثل هذا اليوم (161) منذ ثلاث سنوات استرد الله
وديعته العالية عندما اقتحم الموت باب عالم مصر الفذ وهو
يرتشف قدحاً من الشاي ويستعد لمواصلة أبحاثه التي لم
تحتجب نورها إلا بموته.
لم يتعب الموت في أن يفك عن روحه قيد الجسد لأن الجسد كان ممزقاً من طول ما أنهكه صاحبه من نضال مر سببه ضمير حي ونشاط جم وذهن موهوب فصعدت روحه إلى ربها في سلام يشبه وميض البرق.
وعند هذا الباب الذي دخله الموت وخرج في ثوان معدودات يقف التاريخ طويلا ليسجل آثاره ومناقبه ومكانته العلمية المرموقة.
كان الفقيد الكريم أول رئيس لاتحاد الجامعة فبث في برلمانه الصغير المثل العليا فتخرج فيه أعضاء عديدون كان منهم الوزراء الصالحون وأعضاء البرلمان المنتجون في برلمان الأمة.
وقد لمست جهده في أولئك الرجال الذين كونهم ووجهم وبث فيهم من روحه.
وكان رحمه الله يرى أن الدراسة الجامعية يجب أن تعتمد على مجهود الطالب في البحث والكلام. وما الأستاذ إلا مرشد وموجه وموضح، لذلك كان الاطلاع هو الطريق الصحيح لميادين العلوم وآفاق البحث والكشف في رأيه؛ فربى في طلبه ملكات حب العلم والتعميق فيه وحب البحث العلمي، وبذلك أخرج للبلاد فيلقا من العلماء الباحثين الذين يطلبون الحقائق العلمية لذاتها. وكثيرا ما سمعته يقول (خير للكلية أن تخرج عالما كاملاً من أن تخرج كثيرين أنصاف العلماء) وكانت خسارته على البلاد في تلك النهضة العلمية التي غرس شجرتها في كلية العلوم فتغلغلت جذورها وامتدت أعوادها وانتشرت ظلالها فنهضت حتى وصلت إلى مكانها المرموق في الأوساط العلمية بما أفاض عليها من عبقريته وسعة إطلاعه وخصب ثقافته والتي لم يرض - طيب الله ثراه - أن يكون لأحد عليها من سلطان سوى التقاليد الجامعية الحرة مما زاد فيها مشعل العلم تألقاً وتوهجاً وجعل هذه التقاليد النبراس المضيء والشعلة الوهاجة؛ وبذلك أنشأ جيلا من غرس يديه لا يمكن أن يثبط أحد من همته وعزيمته أو يثنيه عن حماسته وبغيته لأنه قد أتخذ قدوة له.
واستطعت أن أرى مجهوده في الحركة العلمية التي بناها على أكتافه وتعهد مراحل تطورها مرحلة بعد مرحلة ورفع اسمها فيها وراء البحار بما بث فيها من روح البحث الصحيح وبذلك أنشأ مدرسة في البحث العلمي العميق يرجع إليها الفضل في شق الطريق لإيجاد طبقة فريدة من العلماء ورجال الفكر الممتازين لأنه بناها على أساس من الدأب والجد والاستقامة وشيدها بوسائله المنتجة المثمرة فسارت على السنن القويمة ونهجت المنتهج الكريم فوسائلها مقصورة على صحة الحجة وسلامة البرهان ووضوح الدليل وبذلك أحدثت هزات عنيفة في المجتمع العلمي من الحيوية والنشاط وأصبحت كالنور الذي يشق حجب الظلمات.
ومن كلماته المأثورة التي تعتبر دستوراً للتقاليد الجامعية قوله - رحمه الله - (إني لا أطلب من القادة والحكام في مصر سوى ترك الجامعة تؤدي رسالتها السامية بعيدة عن الميول السياسية وترك الطلبة لإتمام دراستهم في هدوء واستقرار).
وقوله (إن أفضل الزعماء والكبراء عندي هو من يؤدي للجامعة مساعدة ويشد أزر العلم ويعادون العلماء على أداء رسالاتهم في هدوء ويحفظ لهم كرامتهم واستقلالهم) وتلك مبادئ سامية نورها في عهدنا الجديد.
وترن الآن في أدنى بعض ما أورده بعض أعلام الفكر والرأي في جنبات قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة في حفلة تأبينه فأستعيد منها قول أستاذي الجليل الدكتور طه حسين أطال الله بقاءه (فارقنا مشرفة فلم نمتحن فيما كان قلوبنا تضمر من ود وحب، ولم نمتحن فيما كان نستمتع به من زمالة وإخاء فحسب، ولكن مصر كلها امتحنت في الآفاق، وشر المحن هو هذه المحن التي لا سبيل إلى تعويضها ولا إلى العزاء عنها، فأمثال مشرفة من النابغين النابهين الذين يرفعون ذكر أوطانهم والذين يضيفون إلى الكنوز الإنسانية في العلم والمعرفة، أمثلة قليلون إذا خسرهم الوطن فلا بد من صبر وانتظار متصل قبل أن نظفر بمن يخلفهم، وإذا فقدهم العلم فلا بد له كذلك من انتظار حتى يجد ما سيتم ما بدأه).
ولا تزال كلمة أعضاء مجلس كليته ترن في أذني عن الفقيد العظيم اعترافاً بجميله على كلية العلوم حيث يقولون (كلية العلوم التي بذل الفقيد من أجلها الكثير لإعلاء شأنها وتدعيم أركانها لن ننسى فضله عليها، وستبقى مبادئه وتعاليمه التي رسمها لها نبراساً تهتدي به، وسيظل اسمه خالداً رمزاً على النبوغ والتضحية، ومثلاً رفيعاً للقيام بالواجب وتحمل المسئولية والتفاني في خدمة العلم والعلماء).
ويكفي للدلالة على مكانة الفقيد الرفيعة بين مصاف العلماء في الدنيا أنه كان أحد الباحثين القلائل في الذرة، وممن العلماء القلائل الذين يفهمون النظرية النسبية حتى أن السير أوين رتشاردسون البحاثة الكبير في العلوم الرياضية قال عقب موت الفقيد (إنه كان من أعظم علماء الطبيعة الرياضيين البارزين في العالم وإن وفاته في هذه السن المبكرة جاءت خسارة لا تقدر للعلم لا في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم أيضا).
فإن غاب نجمه عن الناظرين فهو لا يزال من وراء الأفق سيبث أشعته في قلوب من آمنوا برسالته، وهو وإن همه قلبه فإن ذكراه العاطرة لا تزال تملأ الوجود.
فلتذهب سيرته العاطرة في التاريخ قدوة مثلى يفخر بها المصريون جيلا بعد جيل لأن اسمه سوف يبقى خالداً ما بقي في مصر جيل يؤمن بالبحث العلمي وفائدته.
وفي ذمة الله هذا الطراز النادر الكريم من الرجولة والوفاء والعلم.
دكتور عطية مصطفى مشرفة