مجلة الرسالة/العدد 1020/الرسالة وإصلاح الأزهر
→ ذكرى الدكتور مشرفة | مجلة الرسالة - العدد 1020 الرسالة وإصلاح الأزهر [[مؤلف:|]] |
شعر مختار ← |
بتاريخ: 19 - 01 - 1953 |
للأستاذ محمد رجب البيومي
كتبت بالعدد الممتاز الماضي كلمة موجزة عن اثر الرسالة - مدى سنواتها العشرين - في العالم العربي أدبيا واجتماعيا ودينيا، وكان من الحتم الأكيد حينذاك أن أوضح ما قالت به من جهود في إصلاح الأزهر، فهو معقل الإسلام، ومنارة الأدب، وموئل العروبة، غير أني أردت أن أفرد لذلك مقالا خاصا، إذ أن الحديث عن الموضوع المتشعب يحتاج إلى بعض التفصيل.
والحق أن الرسالة وقد أنشأها صاحبها لإيقاظ الوعي الأدبي، وبعث الروح الإسلامي، وإحياء المجد العربي، كانت ترى الأزهر حقلا خصيبا لتنمية ما ترمي إليه من غايات، فهو أفسح ميدان لتربية الشباب المسلم، المعتز بأرومته العريقة، وتقاليده الكريمة، ودينه الأصيل، وهو عدو الاحتلال الجاثم على ربوع الشرق الإسلامي، يناوئه بسلاح الدين، ويهدمه بمعاول الأدب، ويغزوه بمنطق الثقافة، ويزعجه بإدكاء الحمية والغيرة والإباء في النفوس، فلا بد لمصلحين أن يساهموا في بنائه الراسخ، ليستكمل أداة التعليم، ويساير حاجة العصر، وإذ ذاك ينهض بالشرق - كما يقول الأستاذ الزيات - نهضة أصيلة حرة تنشأ من قراء، وتقوم على مزاياه، وتتغلغل في أصوله!.
وهناك صلة قوية ثابتة بين الرسالة والأزهر، فالرسالة وهي في جوهرها صحيفة الأدب العربي الأصيل، ترى (أن الدين الإسلامي ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب، وقيام معجزته على البلاغة، والدين الإسلامي والأدب العربي متلازمان تلازم المعنى واللفظ والفكر والأداء، ولا يتسنى لرجل الهداية والإصلاح أن يبلغ دعوة محمد، إلا إذا تمكن منهما تمكن الجاحظ ومحمد عبدة وغيرهما من أئمة الأدب والدين) وإذا كان الأزهر قائد الدعوة إلى الإسلام فهو يلتقي بالرسالة في حلقة البأس وميدان الجهاد.
وأنت تتصفح أعداد الرسالة في سنواتها العشرين فلا تكاد تجد سنة تمر دون أن تثار على صفحاتها معركة الأزهر والإصلاح. ولو أن باحثا عكف على دراسة هذه البحوث الخاصة بالأزهر، لأمكنه أن يقدم - على ضوئها البصيرة - لولاة الأمر في مصر، دستوراً دقيقاً للإصلاح الأزهري المأمول، قد اشتركت في تقنينه عقول ممتازة، وأقلام حرة جريئة.
والرسالة بعد أحفل الصحف الأدبية في الشرق آثار أدباء الأزهر وشعرائه، ولا يخلو عدد من أعدادها التي تربو على الألف رغم تنوع مشاربها، واختلاف مناحيها، من أقلام أزهرية تعالج شؤون الأدب والدين والتاريخ، مما يشهد بأثرها الواضح في تنشيط العقل الأزهري وتوجيهه.
وإذا كانت آراء الكتاب قد اختلفت قربا وبعدا في توجيه الإصلاح الأزهري على صفحات الرسالة، فأن صاحبها الكبير قد وضع للمشكلة الأزهرية حلولا مختلفة، أخذت تتبلور وتتضح، حتى اجتمعت أخيرا في حل حاسم جهر به ودعا إليه، وكان لحوله المختلفة - في سنواتها المتفرقة - صداها القوى المجلجل، فقد تناولها الكتاب بالنقد والتعليق، ودفعت كثيرا من الأقلام إلى المعارضة والتأييد، وسنعرض اليوم موجزاً دقيقاً لهذه الحلول، ليلم بها القارئ في أضيق نطاق، وله أن يرجع إلى أعداد الرسالة السابقة إن أراد الإسهاب والتفصيل.
لقد بدأ الأستاذ الزيات فجدد رسالة الأزهر، ووجهها إلى ثلاثة مناح:
(1) تنقية الإسلام من العقائد الواغلة، والمذاهب الباطلة، والعادات الدخيلة، وسبل ذلك ما يأتي:
(أ) تفسير القرآن على هدى الرواية الصحيحة، وفي ضوء العلم الصحيح، تفسيراً يجمع ما صح من أقوال السلف وما صلح من أقوال الخلف.
(ب) تأليف كتاب يجمع ما لا ريب فيه من أحاديث الرسول، ويستعان على شرحه وتبويبه بعلوم التاريخ والفلسفة والاجتماع.
(ج) تصنيف كتاب شامل للمذاهب الفقهية الصحيحة، فيوضح متنه مواد كالقانون، ثم يشرح شرحاً يستوعب الأصول والفروع (على أن تكون هذه الكتب الثلاثة مادة الدراسة، ومصدر الفتوى، ومرجع القضاء).
(2) إعداد الوعاظ والدعاة في الشرق الإسلامي من أهل اللسن والخلق والعلم وسبيل ذلك ما يأتي:
(أ) إمدادهم بالثقافة الحديثة واللغات الحية فوق التكوين الأزهري.
(ب) إيفادهم إلى الأمم الإسلامية البعيدة عن مواطن العروبة وهبط الوحي.
(ج) العناية اليقظة بالبعثات الإسلامية في الأزهر، فأصحابها أقدر على إرشاد قومهم باللغة والقدوة والنفوذ.
(3) جعل اللغة العربية لغة المسلمين كافة، فيكون لكل مسلم في الأرض لغتان، لغة لوطنه الأصغر، ولغة لوطنه الأكبر. وسبيل ذلك:
(أ) أن تحمل مشيخة الأزهر أقطاب الرأي في البلاد الإسلامية بالمفاوضة والائتمار على أن يجعلوا تعلم اللغة العربية إجباريا في مراحل التعليم المختلفة (ب) أن تتكفل بإرسال المعلمين من المتخصصين بالأزهر ليضطلعوا بهذه الرسالة.
هذه هي رسالة الأزهر كما حددها الأستاذ الزيات، وقد كان المظنون أن هذه الجامعة العريقة ستسعى إلى تحقيقها، لتتم لها الهيمنة الروحية على العالم الإسلامي، وخاصة أن الأستاذ المراغي كان يتقلد مشيخة الأزهر، وفي وسعه أن يرتفع به إلى الأوج، لو خلصت النية، وصحت العزيمة، فقد عقد الشباب الأزهري على جهوده المرتقبة، آمالا واسعة عريضة، واندفاع الشباب والشيوخ - إلا قليلاً - يؤيد حركة البعث في الصحف والمجلات، وقد رأى الأستاذ الزيات أن الفرصة مواتية لحركة الإصلاح ففسح لها في صحيفته مكاناً طيباً، واندفاع مرة أخرى يحلل ويعلل، ويمهد أسباب الوثوب والتقدم والاستقرار، وقد لخص علاجه في أمرين اثنين ينهضان بالأزهر الحديث، وينقذانه مما يتكاءده من التقاليد البالية، والجمود الميت، هذان الأمران هما: إعداد المعلم وتأليف الكتاب.
والمعلم كما يقول صاحب الرسالة لا بد أن يكون متمكنا في علوم الدين وصاحب ملكة في الفقه، وأن يكون متبحراً في فنون العربية، وصاحب قريحة في الأدب، وأن يأخذ بعد هذا وهذا من ثقافة الغرب بأوفر نصيب. أما الكتاب فلا يتيسر إلا بعد إعداد المعلم، لأنه هو وحده الذي يدري كيف يؤلفه ويدرسه (ومتى توفر للأزهر المعلم والكتاب في ظل هذه الإدارة البصيرة، صح لك أن تقول إن مصر ظفرت بجامعتها الصحيحة التي تدخل المدينة الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفى الدين من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة).
ثم مضت الأيام خلف الأيام!! والأزهر على حالته الراهنة لا يأخذ بإصلاح ولا ينهض إلى رسالة. ومن الإنصاف للتاريخ أن نقول إن الأستاذ المراغي قد نحى بالأزهر في هذه الآونة ناحية عصفت بآماله، وبددت شمله، فقد اندفع به التيار الحزبي البغيض لينصر فريقا على فريق! ولم يلتفت إلى إصلاحه وتوجيهه، بعد أن عقدت عليه الآمال، وامتدت غليه الأعناق،! وأصبح الشباب الأزهري المتوثب إلى الرقي والنهضة حائراً لا يجد من يأخذ بناصره، ويتولى زمام أمره، سوى أفراد من رجاله لا يملكون غير الخطب والمقالات، بل إنه وجد من يفت في عضده ويثبط همته، (من شيوخ غاية أمرهم أن يتزبوا بالورع ويتفقهوا في العلوم، بتشقيق الجمل، وتوليد الألفاظ، وتعديد الفروض) وما زال الفساد السياسي من جهة، والعصبية المعهدية بين الأزهر والجامعة من جهة أخرى ينهشان في هذا المعهد التليد، ويفرقان أبناء الثقافة الواحدة شيعاً وأحزابا، حتى تأكد المفكرون أن الأزهر لا يستطيع أن يصلح نفسه بنفسه، وأنه محتاج إلى خلق جديد، وسيطرة خارجية، ترفعه عن النزوات الشخصية، والإسفاف الحزبي، وتعود به إلى حظيرة الدرس والفضيلة والتثقيف، لذلك قام الأستاذ الزيات بدعوة جريئة إلى إصلاح الأزهر، فتقدم على صفحات الرسالة باقتراح حاسم يتضمن ما يلي:
1 - أن يلغي التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية، ليلقي بمقاليده إلى وزارة المعارف فتقسمه على الوجه الذي تراه، وذلك بدء الوحدة الثقافية.
2 - أن تتحول المعاهد الثانوية الدينية إلى مدارس ثانوية لحاملي الشهادات الابتدائية العامة، وتعلم فيها الرياضيات والعلوم وفق منهج الوزارة، وفي أول السنة الثالثة يتجه طلابها اتجاهين مختلفين: إما إلى الدين وعلومه، أو إلى اللغة وفنونها، فإذا انقضت السنوات الخمس تقدم طلاب الشعبتين إلى امتحان الشهادة الثانوية مع سائر إخوانهم في جميع المدارس، يمتحنون معهم فيما يتفقون فيه، وينفردون انفراد شعب التوجيه فيما اختصوا به.
3 - أن يقتصر في التعليم الجامعي بالأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتشمل كليتي الشريعة والأصول، وكلية اللغة وتشمل كلية اللغة العربية ودار العلوم.
وقد أثار هذا الاقتراح جدلاً كبيراً بين الأقلام ما بين مؤيد ومعارض، وقد هاجمه من كبار رجال الأزهر المغفور له الأستاذ الغمراوي بمجلة الرسالة مهاجمة خطابية عاطفية، كما عارضه الأستاذ محمد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر الآن بمجلة رسالة الإسلام معارضة تقوم على الرفض والإنكار، دون أن تحلل البواعث الشافية، والأسباب المقنعة. وأدلى غيرهما كالأستاذ العقاد والشيخ المدني بآراء تتفق وتختلف، وتلين وتشتد. وتتلخص اعتراضات المعارضين في شبه يسيرة أوجد لها الأستاذ الزيات ما يلزم من الحلول والتفنيد.
فهناك من يقول إن المواد المدنية على نهجها المعروف بمدارس الوزارة ستغطي على المواد الدينية. وهناك ثان يقول إن تحفيظ القرآن الكريم لا يمكن أن يتم على وجهه الأكمل، إذا كان القسم الابتدائي عاما للجميع. وهناك ثالث يقول إن هذا الاقتراح سيحرم الطالب ست سنوات كان يقضيها في دراسة اللغة والدين. ورائع يرى أن الاعتماد على الشهادة الابتدائية العامة، في تغذية الأقسام الثانوية الأزهرية، يعرضها للهزال والجذب، لانصراف التلاميذ عنها إلى المدارس الأخرى!!.
هذه هي الاعتراضات الموجهة إلى الاقتراح. وقد أجاب عنها الأستاذ الزيات إجابة شافية بالرسالة، فبين أولا أنه لا خوف من طغيان المواد المدنية على غيرها ما دام الوقت متسعاً، والأستاذ كفؤا، والكتاب مهذبا. وبين ثانياً أن القرآن الكريم يمكن أن يحفظ بسهولة إذا فرضته إدارة الأزهر على كل طالب في كل سنة من سني الدراسة في المدارس الأزهرية الثانوية. وأوضح ثالثاً أن المعاهد الدينية التي ستصير مدارس ثانوية ستظل تابعة للأزهر، خاضعة لإدارته، فله أن يفرض عليها ما شاء من الدراسات الدينية. كما بين أخيرا أن الاقتراح يقصر وظائف تدريس اللغة العربية والدين والأدب في جميع مدارس الأمة على الأزهر، فكل من يرغب في ممارسة أمر من هذه الأمور يجب أن يدخل الأقسام الثانوية الأزهرية، ليحقق رغبته؛ ولن يتعرض بعد ذلك للهزال والجدب.
وإذا كان صاحب الرسالة قد تقدم باقتراحه منذ سبع سنوات قبل أن تعم المجانية التعليم الثانوي بالمدارس، فإننا نرى أن الواقع الملموس بعد تعميم المجانية يدعو معارضي الاقتراح إلى النظر فيه من جديد نظرة عملية، إذ أن الأزهر بمجانية التعليم قد تعرض إلى زلزلة عنيفة صرفت عنه كثيراً من الطلاب، وأصبح يتسامح في شروط الانتساب تسامحاً جعله لا يدقق في حفظ القرآن جميعه، بله السن والقواعد الأولية للمعلومات. ولئن وجد في العامين الماضيين من توجه إليه ممن استعدوا لدخوله منذ طفولتهم الباكرة، فإنه لن يجد بعد ذلك من يسارع إليه، إلا إذا منح ميزات كثيرة تبرز تفضيله على المدارس في نظر أولياء الأمور، وهيهات أن يكون ذاك، وهو بوضعه الراهن بعيد كل البعد عن الثقافة الحديثة، واللغات الحية، التي تفتح أبواب المستقبل ونوافذ الأمل للشباب.
على أن كثيرا من أساتذة الأزهر ورجاله يشاركون الزيات رأيه بكل قوة وتعضيد. وأذكر أن الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى قد كتب مقالا حارا بالأهرام (صيف سنة 1950) يقترح فيه ما سبق أن اقترحته الرسالة بشأن الأزهر، ففتح مجالا كبيرا للمناقشة وتلقت جريدة الأهرام سيلا من التأييد والمعارضة يوحي بالاهتمام والتقدير، بل إن الدكتور محمد يوسف موسى قد أعلن رأيه هذا في مجلة الأزهر وهي الصحيفة الرسمية للأزهريين، فلم يثر اعتراض الشيوخ آنذاك، أما خارج الأزهر فأكثر رجال التربية يضجون من الثنائية الحمقاء، التي تبدد وحدة الثقافة بين أبناء الأمة الواحدة. وقد دعا وزير المعارف الأستاذ إسماعيل محمود القباني في كتابه الذي أصدره أخيرا عن سياسة التعليم إلى توحيد الثقافة، وتحويل المعاهد الأزهرية إلى مدارس ابتدائية وثانوية، لتتم الوحدة الثقافية في وادي النيل، وأنا أرى أن السبيل ميسر إلى ذلك كل التيسير، إذ أن مدرسي اللغة العربية والدين - وهم أكثرية - في مدارس الوزارة من الأزهريين، كما أن مدرسي المواد المدنية في المعاهد الدينية من رجال التعليم بالوزارة، فلم يبق إلا أن تتحد البرامج وتتفق المناهج. وإذا كانت عناية المدارس الآن باللغة العربية والدين الإسلامي واهنة ضعيفة، فلنشد أزرها شداً قوياً متواصلاً، ليكون جميع التلاميذ مثقفين في دينهم ولغتهم دون تمييز بين فريق وفريق.
وأخيراً. . . هل من سميع؟!.
محمد رجب البيومي