مجلة الرسالة/العدد 1013/من أحاديث الإذاعة
→ في ظلال مولد الرسول | مجلة الرسالة - العدد 1013 من أحاديث الإذاعة [[مؤلف:|]] |
على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1952 |
أيها الإنسان. . اعرف نفسك
للأستاذ علي الطنطاوي
إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجد وفي الهزل، وفي الخير وفي الشر. أحاديث تدعو إلى الوطنية، وأحاديث تسمو بالخلق، وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية؛ ولكن حديثي الليلة أهم من هذه الأحاديث كلها، لا لأني أنا كاتبه، أعوذ بالله من رذيلة الغرور، بل لأنه أمس الموضوعات بكم، وأقربها إليكم، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم.
لا تضحكوا يا سادة ولا تظنوا أني اهزل، ولا تقولوا: ومن منا لا يعرف نفسه؟ فإنه مكتوبا على باب معبد أثينا كلمة سقراط: (أيها الإنسان اعرف نفسك) ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام، لم يوجد في الناس (إلا الأقل الأقل منهم) من عرف نفسه!
ومتى تعرف نفسك يا أخي، وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟
ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟
ومتى. . وأنت أبدا تفكر في الناس كلهم إلا نفسك. . وتحدثهم جميعا إلا إياها؟
تقول (أنا) فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل: (ما أنا)؟ هل جسمي هو (أنا)؟ هل أنا هذه الجوارح والأعضاء؟
إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض، فتبتر ساق، أو تقطع يد، ولكن (أنا) لا يصيبني بذلك النقصان!
فما (أنا)؟
ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شاباً، كنت شاباً فصرت كهلاً، فهل خطر على بالك أن تسأل: هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه، ولا عقلي بعقله، ولا يدي هذه اليد الصغيرة. فأين ذهبت تلك اليد. ومن أين جاءت هذه؟
وإذا كانا شخصين مختلفين فيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبقى في من جسده ولا فكرة بقية؟ أم أنا الكهل الذي يلقى هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما أنا؟
وتقول: (حدثت نفسي، ونفسي حدثتني) فهل فكرت مرة، ما أنت؟ وما نفسك؟ وما الحد بينهما. وكيف تحدثك أو تحدثها؟
وتسمع الصباح جرس الساعة يدعوك إلى القيام - فقد حان الموعد، تحس من داخلك داعيا يدعوك إلى النهوض، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مناد أن تريث قليلا واستمتع بدفء الفراش، ولذة المنام - ويجذبك الداعيان: دعي القيام وداعي المنام. فهل فكرت ما هذا؟ وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزين لك المعصية ومن يصور لك لذتها، ويحرك إليها؟ وما الذي يفرك منها، ويبعدك عنها؟ يقولون: إنه النفس العقل. فهل فكرت يوما ما النفس الأمارة بالسوء، وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟
وتثور بك الشهوة، حتى ترى الدنيا كلها مخدع الحبيب، والحياة كلها متعة الجسد، وتتمنى أماني لو أعطيها شيطان لارتجف من فظاعتها الشيطان، ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني، ولا أسخف من ذلك الوصال!
ويعصف نفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى، والمتعة بالانتقام. وتغدو كأن سبعا حل فيك، فصارت إنسانيتك وحشية. . ثم يسكت عنك الغضب،، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه.
وتقرأ كتاباً في السيرة، أو تتلو قصة، أو تنشد قصيدة، فتحس كأنك قد سكن قلبك ملك فطرت بغير جناح إلى عالم كله خير وجمال، ثم تدع الكتاب، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود إثارة من ذلك العالم.
فل تساءلت مرة ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذته كل محرم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان الباطش الذي يشرب دم أخيه الإنسان، ويتغذى بعذابه ويسعد بشقائه؟ أم ذلك الإنسان السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح؟ أسبع أنا أم شيطان أم ملك؟
أتحسب أنك واحد وانك معروف. وأنت جماعة في واحد وأنت عالم مجهول. كشفت مجاهل البلاد، وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مخفياً، لم يظهر على أسرارك أحد. فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها؟ نفسك عالم عجيب، يتبدل كل لحطة ويتغير، ولا يستقر على حال: تحب المرء فتراه ملكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً، وما ملكاً كان قط ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرة فترى الدنيا ضاحكة، حتى أنك لو كنت مصورا لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر، باكية قد غرقت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.
فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق؛ وأي نظرتيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع، ساءت عندك الحياة، وأمحى جمال الرياض، وطمس بهاء الشمس، اسود بياض القمر، وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً، وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً. فإذا زال ما بك بقدح من زيت الخروع، ذهب التشاؤم في الفلسفة، والبؤس في الشعر. فما فلسفتك يا أيها الإنسان وما شعرك إن كنت مصدرهما فقد قدح من زيت الخروع؟
وتكون وانياً، واهي الجسم، لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك الخطر، أو هبط عليك فرج. وثبت كأن قد نشطت من عقال، وعدوت عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل - كيف استطع أن تفعلها؟
إن النفس يا أخي كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة منه في مكانها، ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب ويجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها، وتدفع هي التي أمامها. في كل لحظة يموت فيك واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي ولد، فابتغ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولودا اصلح واحسن، ولا تقل لشيء لا أستطيعه فإنك لا تزال كالغصن الطري، لأن النفس لا تيبس أبداً، ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة، وتباينت الأحوال. . إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل المنام؛ فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر! وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها. وتحب المرأة حتى ما ترى لك الحياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها. فلا تقل لحالة أنت فيها، لا أستطيع تركها، فإنك في سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.
فيا أخي. اعرف نفسك، وأخل بها، وغص في أسرارها. وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ والى أين المسير؟
ولا تنس أن من عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وأن أكبر عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!
علي الطنطاوي