مجلة الرسالة/العدد 1013/على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط
→ من أحاديث الإذاعة | مجلة الرسالة - العدد 1013 على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط [[مؤلف:|]] |
الميسر والأزلام ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1952 |
5 - على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط
للدكتور عمر حليق
1 - الصراع العقائدي وعلاقته بفكرة الدفاع في الشرق
الأوسط
ضرورة التعرف على جوهر سلوك السوفيتي
المنطق الرئيسي الذي تلجأ إليه الحكومتان الأمريكية والبريطانية معها بقية الحلف الأطلنطي لإقناع الدول والشعوب العربية بالتعاون معهما في نظام الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط يستند إلى خطر تعتقد دول الحلف الأطلنطي أنه كامن في مطامع روسيا السوفيتية للتوسع في الشرق الأوسط ورابض في صميم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (والسياسية كذلك) التي تعيش عليها شعوب الشرق العربي وبعض الشعوب الإسلامية المجاورة.
وفي اعتقاد كاتب هذه السطور أن من أهم الأمور التي يجب أن يشغل بها صناع السياسة والمصلحون الاقتصاديون والاجتماعيون في الشرق العربي هو محاولة التعرف على دقائق السلوك السياسي والفكري للشيوعية العالمية ممثلة في مركزية الاتحاد السوفيتي وفي الحركات الشيوعية المحلية وفي مختلف البقاع - حركات تدين لموسكو بالولاء وتستوحي منها الإرشاد والتوجيه.
فإن ابرز ما في هذه الاتجاهات السياسية والفكرية في حاضر الشرق إجمالاً والعالم العربي على وجه الخصوص هي البلبلة السياسية والفكرية التي تعتري القادة والمواطنين حتى يحاولوا مخلصين صادقين في تحديد موقفهم السياسي ومبادئهم الاقتصادية والاجتماعية إزاء التنافس الحاد الذي يشهده الشرق العربي (بل العالم بأسره) بين المعسكرين المتطاحنين الشيوعي وحلف الأطلنطي.
ولقد وجد الشرق العربي نفسه ملما بكثير من دقائق السلوك البريطاني والأمريكي والفرنسي وهؤلاء هم دعامة المعسكر الغربي وذلك بفضل هذه التحارير القاسية المرة التي تكشفت عن ألوان الثقافة الغربية التي تجد سبيلها إلى الثقافة العربية وعن الحاكم بالمحك والتاجر بالمشتري والقوي بالضعيف سواء في استعمار بريطانيا السابق لأجزاء هامة من عالم العرب أم صهيونية أمريكا ومصالحها الاقتصادية والدبلوماسية أم في استرقاق الفرنسيين لعرب المغرب الأحرار.
ولكن يندر أن تلمس في تجارب العرب السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية احتكاكاً مباشراً مع الروس توفر للمواطنين العرب وزعمائهم السياسيين فرصا نافعة تعرفوا فيها على دقائق السلوك الروسي على ما عرفوه من سلوك الأمريكان والأوربيين في تجاربهم الطويلة معهم.
وإن من غير الصواب أن نحلل الفكر والسلوك لروسيا السوفيتية على ضوء موجات الدعاية أو بما نلمسه من سلوك العناصر الشيوعية المحلية التي تدين بالولاء لموسكو، فالفكر السوفيتي خصائص فريدة زرعت ونمت وشبت في طبيعة المجتمع الروسي، وإن ما يصدر إلى الخارج من هذه الخصائص السوفيتية عن طريق الحركات الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي لا يتعدى نماذج مصطنعة اختيرت لتلائم وضعاً إقليمياً معيناً، وهذه النماذج تختلف باختلاف الأوضاع الإقليمية وباختلاف الشعوب التي يجري فيها النشاط الشيوعي. فالبضاعة التي تروجها الشيوعية المحلية في الشرق العربي مثلاً تختلف عن النماذج التي يروجها الشيوعيون في إيطاليا أو فرنسا مثلاً. وكل هذه النماذج ليس صورة صادقة لحقيقة الأهداف التي تطمح موسكو لتنفيذها في المراحل النهائية.
والمهم أن ندرك أن الوضع الجغرافي والمركزي الدولي للعالم العربي يفرض علينا يقظة حساسة لمراقبة دقائق السلوك السياسي والفكري لكلا المعسكرين المتطاحنين السوفيتي والغربي. ولما كانت علاقتنا السياسية والثقافية مع المعسكر الغربي متواصلة مستمرة توفر لنا وسيلة طيبة للتعرف على تفكير هذا المعسكر ونواياه وأهدافه وسلوكه، وحيث أن صلتنا الفكرية والسياسية بالاتحاد السوفيتي بعيدة متقطعة، فإن المصلحة الجوهرية لكياننا القومي تفرض علينا سبر غور هذا اللغز السوفيتي خصوصاً وأن في العالم العربي أوساطاً واعية ذات مكانة ونفوذ تؤمن بأن كثيراً من مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية مرتبطة (بالورقة الغامضة) التي يحملها الاتحاد السوفيتي إزاء الشرق الأوسط في هذه المقامرة السياسية والعسكرية التي يلعبها المجتمع الدولي في هذه الأيام.
وبعد فإن كاتب هذه السطور لن يحاول في هذا البحث أن يقارن بين أهداف الطرفين (الروس وحلفاء الغرب) وسلوكهما، ولن يطمح في أن يربط قضايا العالم العربي بهذا أو ذلك. وإنما هي محاولة للتعرف على بعض الحقائق الجوهرية للفكر والسلوك الروسي في إطاره العام، فلعل في هذه المحاولة نفعا للمواطن العربي الذي يقف بين حجري الرحى وقدراته العامة والخاصة في يديه يحاول أن يجد الخلاص من هذا المأزق المحرج الذي فرضه عليه صراع فكري وسياسي واقتصادي بين كتلتين سياسيتين تتنافسان اليوم على السيادة الدولية.
ليس المهم في هذا النوع من البحث أن يحلل الكاتب المبادئ لفكرية (الأيديولوجية) التي تستند إليها الدعوة الشيوعية السوفيتية بقدر ما يهمه أن يتعرف على الأساليب التي تتميز بها السياسة السوفيتية عند قيامها بتنفيذ هذه المبادئ في روسيا نفسها وفي العالم الخارجي.
فالاقتناع بالعقائد والنظم الفكرية (شيوعية كانت أم غير شيوعية) اصبح أمراً ثانوياً إزاء سياسة توازي القوى التي تشوب سلوك المعسكرين الكبيرين الروسي والغربي. فقد اصبح كلا الطرفين أميل إلى توطيد نفوذه في المناطق الحساسة (كمنطقة الشرق العربي) في أساليب تبتعد في كثير من الحالات عن جوهر المبادئ والمعتقدات الفكرية التي تستند إليها نظم الحكم في كل من الاتحاد السوفيتي ودول حلف الأطلنطي. فالعالم اليوم في حالة حرب (باردة) حالات الحرب تستلزم خدعه في السلوك ومناورة في أساليب الفكر والفن الدبلوماسي. وعلى ذلك فإن حاضر الوضع الدولي يتطلب اهتماماً بدقائق هذا السلوك اكثر من اهتمامه بالمعالجات لجوهر النظم الفكرية والسياسية التي تبشر بها الدول الكبرى التي لها القول الفصل في مصير السلم والحرب.
ولقد أشرنا في فقرة سابقة إلى أن الشعوب العربية قد اختبرت عن كثب كيف أن سياسة الدول الديمقراطية الغربية في العالم العربي لا تتمشى في كثير من الحالات مع المبادئ الديمقراطية التي يستند إليها الفكر العربي وأنظمة الحكم القائمة في أوربا وأمريكا. فمأساة فلسطين علم على ذلك وتراث الاستعمار الغربي في دنيا العرب مثل حي من أمثلة هذا التناقض بين العقائد والسلوك.
أفليس من الصواب إذن أن نسعى لمعرفة ألوان التناقض بين العقيدة الشيوعية السوفيتية وبين سلوكها السياسي مع العالم الخارجي، ونحن في منطقة حساسة يتوقف كيانها السياسي وبقاؤها على خريطة الأرض على ما يتمخض عنه من صراعات الدول الكبرى المتنافسة. ألم يصرح الجنرال أيزنهاور كبير القادة العسكريين في دول الحلف الأطلنطي بأن الشرق الأوسط هو أهم ميدان عسكري في خريطة العالم العسكرية.
وبعد فإن التعرف على دقائق السلوك يتطلب معرفة بخصائص العقلية السوفيتية. ويجب أن نميز بين العقلية السوفيتية وبين العقلية الروسية؛ فالأولى إطار فكري يعيش على تراث ماركس ولينين - وستالين وهو تراث راسخ في ثقافة رجال الحكم وصناع السياسة الذين يسيطرون على مقدرات روسيا اليوم. والثانية عقلية (شعبية) تراثها الثقافة الروسية التقليدية والمقومات التاريخية والأدبية والعاطفية وطبيعة المناخ والإقليم وسائر ألوان النشاط الإنساني التي تتميز بها الشعوب من بعضها. ولا شك أن هناك تشابكا بين العقلية السوفيتية وبين العقلية الروسية بحكم أن رجال الحكم المسؤولين عن روسيا اليوم هم من صلب الشعب الروسي. وهذا التشابك بين العقليتين ينقطع في كثير من الحالات والأحداث الخطيرة الهامة. ففي عقول البلاشفة السوفيتيين طبقات كثيفة من فلسفة ماركس ولينين وستالين والمدارس الفكرية المنبثقة عنها ترقد فوق تراثهم ومقوماتهم الخلقية الروسية التي ورثوها بحكم كونهم من إنتاج الشعب الروسي، ولكن هذه الطبقات الكثيفة جامدة متحجرة تنفرد في التأثير بسلوك رجال الحكم السوفيتي بصور قد تتناقض في بعض الحالات مع طبيعة العقلية والمقومات الخلقية للشعب الروسي. وليس هذا التناقض بشيء جديد في سلوك الأفراد والجماعات؛ فالبريطاني في بلده إنسان يختلف في عقليته وسلوكه عن مواطنه الذي يتولى حكماً في مستعمرة أو ينفذ سياسة معينة درب نفسه على تنفيذها مسلحاً بثقافة استعمارية خاصة، فرجال السلك الخارجي البريطاني مثلاً حين ينتدبون للخدمة في المستعمرات والمحميات والانتدابات يمرون في تدريب خاص في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن مثلاً، وما اكثر ما خلقه هذا التدريب من سلوك شائن بعيد عن أوصاف العقلية البريطانية التقليدية.
وبمثل هذا المقياس يجب أن نوازن بين رجال الحكم السوفيتي في موسكو وبين المواطنين الروس من غير رجال الحكم والإدارة. فنصف رجال الحكم بأن لهم عقلية سوفيتية (والسوفيت كلمة اشتقت بعد توطد الحكم الشيوعي في روسيا).
ولنعرج الآن بعد هذه المقدمة على صلب البحث ونحاول أن نتعرف على بعض خصائص السلوك السوفيتي وعقلية الذي يوجهونه
نيويورك
للكلام بقية
عمر حليق